العناية بالفقراء والمساكين

أحمد بن ناصر الطيار
عناصر الخطبة
  1. حب المساكين والفقراء من أعظم ما يقرب إلى الله .
  2. منزلة المساكين .
  3. عناية السلف والعلماء بالمساكين .
  4. حب المساكين أصل الحب في الله .
  5. فوائد محبة المساكين .

اقتباس

إن مِن أعظم الأعمال التي تُقرِّب إلى الله تعالى، وترفع الدرجات، وتحط الخطيئات، وتملأ القلب أنسًا وسرورًا، وتبعث في النفس راحةً وحبورًا، وخاصةً في هذا الشهر المُبارك، هو حب المساكينِ والفقراء، والعنايةُ بهم، وسدُّ حاجتهم، ومُجالستُهم ومُحادثتُهم. فليس هذا العمل العظيم مُقتصرًا على إطعامهم فقط، بل ..

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

(يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاْ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأنتُمْ مُسلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رَقِيباً) [النساء: 1]، (يَآ أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَقُولُواْ قَولاً سَدِيداً * يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَ يَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيِمَاً) [النساء: 9، 10].

أما بعد: فإنَّ أصدق الحديث كلام الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

معاشر الصائمين: إن مِن أعظم الأعمال التي تُقرِّب إلى الله تعالى، وترفع الدرجات، وتحط الخطيئات، وتملأ القلب أنسًا وسرورًا، وتبعث في النفس راحةً وحبورًا، وخاصةً في هذا الشهر المُبارك، هو حب المساكينِ والفقراء، والعنايةُ بهم، وسدُّ حاجتهم، ومُجالستُهم ومُحادثتُهم. فليس هذا العمل العظيم مُقتصرًا على إطعامهم فقط، بل هو أشمل وأكبر من ذلك.

وإن المساكين من المسلمين، لهم منزلةٌ عظيمةٌ عند الله رب العالمين؛ فقد ثبت في الصحيحين أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينَ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ". أي أصحاب الغنى والمال محبوسون، ليحاسبوا على هذه النعم.

ولذا، كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسأل الله أن يحييَه ويميته مسكينًا، بل ويحشره معهم.

فقد روى الترمذيُّ وصححه الألباني أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فعجبت عَائِشَةُ لهذا وقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فقَالَ: "إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا، يَا عَائِشَةُ: لاَ تَرُدِّي الْمِسْكِينَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ: أَحِبِّي الْمَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ القِيَامَةِ".

الله أكبر، يا له من عملٍ عظيم، ترفَّع وتنزه عنه كثيرٌ من المسلمين، والشاهدُ على هذا حالُهم لا مقالُهم.

وروى مسلمٌ في صحيحه أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلاَلٍ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟! فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ: لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ". فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا إِخْوَتَاهْ: أَغْضَبْتُكُمْ؟! قَالُوا: لاَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أُخَيَّ.

قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "قوله: "لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ":" تعظيمٌ لهم؛ لأن الحق -عزّ وجل- أوصاه بهم، وبأمثالهم من الفقراء والموالي". انتهى كلامه.

فتأملوا -عباد الله- كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل مَن أغضب الفقراء والمساكين من المسلمين دون جُرمٍ فعلوه؛ قد أغضب الله تعالى.

ومن هو الذي أغضبهم؟! إنه صديق الأمَّة، وأفضل مَن وطئت قدمُه الأرض بَعد الأنبياء، وهو -رضي الله عنه- إنما فعل ذلك مُتأولاً، علَّ أبا سفيان أن يلين قلبه للإسلام، ومع ذلك أنكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- حين أغضبهم؛ لأن المساكين لمَّا كُسرت قلوبهم بالمسكنة والفقر، عوَّضهم الله في الدنيا بوجوب احترامهم وتقديرهم، وفي الآخرة بدخُولهم الجنة قبل غيرهم.

وأما عنايةُ الصحابة والسلف الصالح بهم، فأمرٌ عجيب؛ فهذا الفاروقُ عمر -رضي الله عنه- حين وقف على امرأةٍ مسكينة جاءها المخاض، عاد يُهَرْوِلُ إلى بيته، فقال لامرأتِه أمِّ كلثومٍ بنتِ عليِّ بن أبي طالب: هل لك في أجرٍ ساقه الله إليكِ؟! وأخبرها الخبر، فقالت: نعم، فحمَل على ظهره دقيقًا وشحمًا، وحملت أمُّ كلثومٍ ما يَصْلُحُ للولادةِ وجاءا، فدخلَت أمُّ كلثومٍ على المرأةِ، وجلس عمرُ مع زوجها وهو لا يعرفُه، يتحدَّث معه ويؤانسه، ولم يذهبا حتى ولدت المرأةُ وحَسُن حالها.

فعمرُ على جلالة قدره، وكثرةِ شُغله، إلا أنه جعل للمساكينِ بعضًا من وقته، ومزيدًا من عمله وجُهده، بل بعضهم لا يأكل طعامًا إلا معهم.

فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- لا يأكل طعامًا إلا وعلى مائدته يتيم.

وهذا إمام هذا الزمان، ابنُ بازٍ -عليه الرحمةُ والرضوان-، لا يأكل في طعامه إلا مع الفقراء والمساكين، فدائمًا في سفرته لا يأكل إلا معهم!! حتى ضاق ذرعًا بعضُ الأغنياء والوجهاء، وقالوا لمن حول الشيخ: كلموا الشيخ، بأننا نريد الشيخ أن يجعل طعامًا للفقراء، وأن يجعل طعامًا للخاصة ونجلس معه، ونتحدث معه، فغضب الشيخ -رحمه الله تعالى- لذلك غضبًا شديدًا، ثم قال: الذي لا يعجبه، وتأبى نفسه أن يأكل مع الفقراء؛ ليس بمجبور، ما أجبرنا أحدًا، يخرج يأكل مع أهله، أما أنا فلن أغُيِّر من طريقتي شيئًا.

وكانوا يُجالسونهم ويقضون بعض أوقاتهم معهم.

كان بكر بن عبد الله المزنيُّ -رحمه الله- يجالس الفقراء والمساكين يحدثهم، ويقول: إنه يعجبهم ذلك.

وكان سفيان الثوري -رحمه الله- يعظّم المساكين، ويجفُو أهل الدنيا، فكان الفقراء في مجلسه هم الأغنياء، والأغنياء هم الفقراء.

وعن المرُّوذي، قال: "لم أر الفقيرَ في مجلسٍ أعزَّ منه في مجلس أحمد بن حنبل -رحمه الله-؛ كان مائلاً إليهم، مُقصِّرًا عن أهل الدنيا".

وكانوا يرون الصدقةَ عليهم من أعظم الأعمال، وأحسنِ الخصال.

قال جابر بن زيد -رضي الله عنه-: "لأن أتصدق بدرهم على يتيم أو مسكين، أحب إليّ من حجة بعد حجة الإسلام".

كانوا يحبونهم محبةً عظيمة، ويجدون لذَّةً وسرورًا عند لقائهم.

فهذا علي بن الحسين -رحمه الله- إذا ناول السائل الصدقة، قبله ثم ناوله.

نعم -أيها المسلمون-، هكذا يُقدِّر الصالحون والعلماء المساكين والفقراء، ولا يحتقرونهم لأجل فقرهم، ولا يترفَّعون عنهم لأجل وَضاعةِ قدْرهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤُه، يعدلون بين المسلمين،‏ غنيهِم وفقيرِهم في أمورهم. ولَمَّا طلب بعض الأغنياء من النبي -صلى الله عليه وسلم- إبعادَ الفقراء، نهاه الله عن ذلك‏.‏ وأثنى عليهم بأنهم يريدون وجهه، فقال‏:‏ (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ‏[‏الأنعام‏:‏52‏]‏، وكانوا يستوون في مقاعدهم عنده، وفي الاصطفاف خلفه، وغيرِ ذلك، وكان يجلس مع أهل الصفة". انتهى كلامه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان: 8، 9].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المسلمون: إن مَن يرحمُ ويُحبُّ المساكين، ولا يجد حرجًا مِن مجالستهم ومُؤاكلتهم، لهو دليلٌ على صدقِ وقوةِ إيمانه؛ لأنه لا يرجو منهم شيئًا، بل يرجو ما عند الله تعالى.

قال ابن رجب -رحمه الله-: "حب المساكين أصل الحب في الله تعالى؛ لأن المساكين ليس عندهم من الدنيا ما يوجب محبتهم لأجله، فلا يُحَبَّون إلا لله -عز وجل-، والحبُّ في الله من أوثق عرى الإيمان، ومن علامات ذوق حلاوة الإيمان، وهو صريح الإيمان، وهو أفضل الإيمان". انتهى كلامه.

واعلموا -أيها المسلمون- أن محبةَ المساكينِ لها فوائدُ كثيرة، ذكرها ابن رجب -رحمه الله- بقوله: "منها: أنها توجب إخلاص العمل لله -عز وجل-؛ لأن الإحسان إليهم لمحبتهم لا يكون إلا لله -عزّ وجل-؛ لأن نفعهم في الدنيا لا يُرجى غالبًا.

ومنها: أنها تزيل الكبر، فإن المستكبر لا يرضى مجالسة المساكين.

ومنها: أنها تُوجب صلاح القلب وخشوعه.

ومنها: أن مجالسة المساكين توجب رضا من يجالسهم برزق الله -عز وجل-، وتَعظمُ عنده نعمةُ الله -عز وجل-، بنظره في الدنيا إلى من دونه، ومجالسةُ الأغنياء توجب التسخط بالرزق، ومدَّ العين إلى زينتهم وما هم فيه. وقد نهى الله -عز وجل- نبيّه -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الحجر: 88]". انتهى كلامه.

فلْنحرصْ -أيها الصائمون- ونحن في شهر البذل والرحمة والعطاء، على إحياء هذه العبادة العظيمة، التي تسابق إليها الأنبياءُ والمرسلون، والصحابةُ والتابعون، ولْنفتحْ أبوابنا لتفطير الصائمين من المساكين، من العمالةِ والوافدين، ولْنبادِرْهم بالسلام، ولْنَسْألْهم عن الأهل والعيال، ولْنُشعرهم بأنهم إخوانُنا في الإسلام، وأننا نحب لهم ما نحب لأنفسنا، فهذا هو الإسلام الصحيح، فإن الدين المعاملة.
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي