بورما وحال المسلمين

صلاح الدين علي عبد الموجود
عناصر الخطبة
  1. بلاد الإسلام تؤكل الواحدة تلو الأخرى .
  2. بورما بين ذئبين لا يرحمان .
  3. لا عزّ لمسلم إلا بالتمسك بهذا الدين .
  4. نماذج من عزة المسلمين الأوائل بالإسلام وحده .
  5. الفتوحات الإسلامية تزحف حتى الصين .
  6. الصمت الرهيب حول مذابح المسلمين في بورما .

اقتباس

حتى نرى أن بلاد الإسلام نرى أن الأقلية فيها هي القوة، وهي صاحبة القرار، بينما نرى أن بورما قام هؤلاء الهندوس، هؤلاء المجوس، هؤلاء البوذيون الأنجاس، حرَّقوا على أهلها القرى، ذبحوا الرجال ذبح الشياه، أتوا بجماعات وأفراد ووضعوهم في أماكن كأماكن اللعب واللهو، سكبوا عليهم الجاز والبنزين، وأشعلوا فيهم النار وهم يجرون ويصفقون ويصفرون، اغتُصبت النساء، فعل بهذه البلد في هذه الأيام -والأمر مستمر- ما يشيب له الولدان، والمسلمون لا يتكلمون، بل هم غافلون.

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [ الأحزاب:70-71].

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تعَالَى، وَخيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَة.

ثم أما بعد:

لعلَّ الناظر إلى أي دم يراق من بني الإنسان على ظهر هذه الأرض يرى أن غالب الدماء هي دماء المسلمين، ويرى أن أهون جنس هو الجنس الإسلامي، يرى أن المسلم مهين، ليس له إلا الذل يجعله مظلة، وليس له إلا الجبن يجعله مركبًا.

ومن ثَمّ قد علم أعداؤنا بحالنا فأخذوا فينا قتلاً وذبحًا وتشريدًا ومكرًا وخداعًا، حينما نرى حال الأمة في أوائل هذا القرن وفي القرن الماضي نرى أمة مهينة، ذلّت بعد عز، وضعفت بعد قوة، نرى مجازر جماعية في بلاد الإسلام، بدءًا بدولة كانت سلفية، وكانت رأسًا من رؤوس الإسلام، وكان أميرها وحاكمها مسلمًا، بل من العلماء، وهي الهند، فما زال أعداؤنا بها حتى أسقطوها وغربوها وقسموها، فصارت دولة باكستان، والأصل الهند، فصارت الهند دولة بوذية يعبدون الحجر والشجر والمدر والصنم والوثن حتى البقر.

ثم نرى أن أعداءنا يطوقون بلاد الإسلام بلدًا بلدًا للقضاء على أصول هذا الدين، ولإلقاء الجبن والخور في نفوس بني الإسلام، فلا ترى موضعًا من المواضع فيه إسلام يدور حول أرض الحرمين إلا وأعداؤنا ينقضون لاستئصاله من الجذور.

وليس ما حدث في الهند ببعيد، فكل بلاد شرق آسيا من أفغانستان إلى إندونيسيا إلى ماليزيا إلى أن تصل إلى أرض اليابان، كلها كانت بلادًا إسلامية، تفلتت وذهبت من أيدي المسلمين، وما بقي فيها إلا قلة مقهورون مذلولون، وكان في وسط أوروبا نابتة من الإسلام، وأعني بالقرن الماضي فقط، وإلا فإن الإسلام ملك الأرض بأسرها، كالبوسنة والهرسك، انقضوا عليها، قتلوا الأطفال والنساء والشيوخ، ذبحوا الرجال ذبح النعاج.

ثم الصومال ما كان فيها كافر واحد، كانت دولة إسلامية، فذهبت وذهبت مع الريح، ثم إن طفت الأرض كفلسطين بيعت بثمن بخس دراهم معدودة، وكانوا فيها من الزاهدين.

ثم ها نحن الآن نسمع أن دولة بورما كانت من الدول الإسلامية، وهي تقع الآن بين ذئبين لا رحمة لهما، بين دولة الصين والهند البوذية، سكانها ارتدوا عن الإسلام، وبقي فيها قلة قليلة لا تتعدى إلى ثمانية ملايين أو أكثر، لم يكتفِ أعداء الإسلام بالسكوت على هذه الأقلية المستضعفة، وكما نسمع الآن الدندنة والطنطنة من أعدائنا حماية الأقلية.

حتى نرى أن بلاد الإسلام نرى أن الأقلية فيها هي القوة، وهي صاحبة القرار، بينما نرى أن بورما قام هؤلاء الهندوس، هؤلاء المجوس، هؤلاء البوذيون الأنجاس، حرَّقوا على أهلها القرى، ذبحوا الرجال ذبح الشياه، أتوا بجماعات وأفراد ووضعوهم في أماكن كأماكن اللعب واللهو، سكبوا عليهم الجاز والبنزين، وأشعلوا فيهم النار وهم يجرون ويصفقون ويصفرون، اغتُصبت النساء، فعل بهذه البلد في هذه الأيام -والأمر مستمر- ما يشيب له الولدان، والمسلمون لا يتكلمون، بل هم غافلون.

ونرى أن حماة الأقلية يحمون كل قليل من الأنجاس الأرجاس الكفار، أما من ينتسب لهذا الدين الإسلام، فليس له أحد من البشر.

ومن ثمَّ أعود إلى الوراء لأبيِّن لي ولكم أنه لا عزّ لمسلم إلا أن يتمسك بهذا الدين، وأن هذا الدين حينما كانت له قوة أنار الأرض بأسرها، ذلّت الرقاب لا لأمير المؤمنين ولا لأحد من المسلمين، إنما ذلت لله الواحد القهار، خرجوا لأطراف الأرض، لا ليغتصبوا نساءهم ويقتلوا رجالهم ويذبحوا أطفالهم، بل خرجوا لأهل الأرض قاطبة ليقولوا لهم: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

جعلوا الوجوه لا تنحني إلا لله -عز وجل-، الناس جميعًا لآدم، وآدم من تراب، لا فرق لعربي ولا لأعجمي حتى ولو كان مولى إلا بالإسلام.

لما قام النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نفخ في قومه روح الحياة، كانوا على جهل وجاهلية جهلاء، كانوا على عمى ما عرفوا بصيرة قط، قام فنادى فيهم وقال لهم: "قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"، قالوا: لا.

جمعهم فقال لهم: "كلمة إن قلتموها دانت لكم بها العرب، أي ما زلتم أنتم الرؤوس لقريش، دانت لكم بها العرب، وملكتم بها العجم"، فنظر بعضهم لبعض وقالوا: كلمة؟! قال عمه: كلمة واحدة؟! لك عشر، فقال: "قولوا: لا إله إلا الله"، فقال عمه:" تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟!".

ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ظل حريصًا على أن يبث فيهم روح الإسلام، أراهم عظمة الإسلام، صبر عليهم، حاربوه وهو صابر، يقول لأصحابه كما قال لآل ياسر: صبرًا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة، حاولوا بكل الوسائل قهر هؤلاء المستضعفين، إلا أن الإسلام نفث ونفخ فيهم العلو، روح العزة، رأوا أن هذا الإسلام علا بهم علوًّا عظيمًا؛ لأن الإسلام عزة، والعبد يعتز به وفيه لله -عز وجل-، فممن يخاف؟! وممن يهاب؟!

يؤتى ببلال يعذَّب، يتلذذ بالعذاب لأنه في ذات الله -عز وجل-، لا في حمى ملك ولا في حمى من دونه، إنما في حمى الله -عز وجل-، "أحد أحد"، يفعل به الأفاعيل وهو ثابت، ذاقوا لذة الإيمان، كل الصحابة أوذوا حتى مكَّن الله -عز وجل- لهم.

إنه لمشهد عجيب أن يرى بلال أميةَ بن خلف الذي عذبه، وسامه سوء العذاب، يراه في معركة بدر، يرى الذي عذبه وأهانه ومرَّغ أنفه في التراب، كان يضع أمية قدمه على بلال حتى يرجع عن قوله: "أحد"، فإذا ببلال يراه على فرس ضخم، فقال: "أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا"، سار خلفه حتى فر أمية بن خلف إلى عبد الرحمن بن عوف واستجار به، وكان بينهما تجارات في الجاهلية، أراد أن يجيره عبد الرحمن فبرك فوقه، فإذا ببلال قد أجهز عليه.

المسلمون أعزّة حينما تمسكوا بهذا الدين، حتى وإن أصابتهم جراح، فجراحهم في ذات الله -عز وجل- لا من أجل أحد، حتى وإن انهزموا فهم موقنون أنهم سينتصرون، وأن النصر حليفهم، لأنهم مع الله -عز وجل-.

هزموا في يوم أحد، نعم هزموا، قُتل منهم جماعة، وجُرح آخرون، ورجعوا في حالة من الحزن والألم، فإذا بالآيات تنزل على هؤلاء الأخيار، على أصحاب محمد: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].

وهنا شرط أنه لا عز للعبد إلا بالإيمان بالله -عز وجل-، ومن تخلّى عن الإيمان ذلّ، فالأمة عزيزة ما كانت مع الله -عز وجل-، ذليلة إن تخلت عن أمر الله -عز وجل-، كذلك الأفراد، فكل فرد عزّ بغيره هلك، وكل فرد عز بالله -عز وجل- علا.

أيها الأحباب: مُكِّن للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في بضع سنين، يحار التاريخ، يحار التاريخ من لدن آدم -عليه السلام- إلى يومنا هذا أن يأتي رجل فينقل قومه من أدران وأنجاس الوثنية والشرك إلى أوج الإسلام في بضع سنين، ثم يمكَّن لهم، ويضع السيوف على أعداء الإسلام، وتهابه أعظم دولتين على ظهر الأرض: فارس والروم.

مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وترك لأصحابه الإسلام فيه علوّ ونخوة وعزة، فزع هرقل لما وصلته رسالة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ودعا قومه، أراد الإسلام، إلا أنه ضنَّ بملكه، لما رآهم نفروا نفرة حُمُر الوحش، وخرجوا إلى الأبواب يعترضون على إسلامه.

ثم بعد ذلك خلَّف النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رجالاً حفظوا بيضة هذا الدين، وحموا حماه، قدموا الغالي والنفيس من أجل هذا الدين، من أجل الإسلام، ما طلبوا دنيا قط، إنما طلبوا الشهادة، طلبوا الجنة، ما رضوا بغير الجنة بديلاً.

لما توفي النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وتولى أبو بكر كفر من كفر وارتد من ارتد، فإذا بالصحابة -رضي الله عنهم- يجتمعون إلى الصديق يريدون أن يكون هناك أمر وسط، أن يداهن بعض المقصرين والمفرطين ممن شملتهم الردة، وأن يبدأ بالأشد ثم الأقل.

قال عمر -رضي الله عنه-: يا أبا بكر: لو قاتلنا المرتدين الارتداد الفعلي، وتركنا مانعي الزكاة حتى يستقر الأمر، أو تركنا تاركي الصلاة حتى يستقر الأمر، فنظر إليه الصديق -رضي الله عنه- وقال: "لا يكون هذا أبدًا، والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة وبين لا إله إلا الله حتى تنفرد هذه السالفة"، وقام قومة بكرية، حتى إن عمر لما رأى قوة الصديق، قوته في الحق، قال: فعلمت أن أبا بكر على الحق، ثم تابعه عمر بنفس القوة بلا تراجع.

أمة الإسلام ما أرادت من فتح بلاد الكفر مالاً أو جاهًا أو سلطانًا، إنما كان قولهم: لا إله إلا الله، إن أسلموا عظم لهم الأجر، أجر الدنيا وأجر الآخرة.

خرج عمر -رضي الله عنه- وعن أصحابه بعد عامين من ولايته، بعد عامين فقط، لما رد الصديق المرتدين إلى الإسلام، وصاروا جنودًا مع المسلمين وندموا أعظم الندم، بعد عامين خرج على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: أفكر في غزو أعظم الدولتين، إما فارسًا أو الروم، فأشيروا عليّ، فأشار البعض بفارس، والبعض بالروم.

فقال: ائتوني بالهرمزان، وكان قرينًا قريبًا من ملك الفرس، فجيء به فقال: أبدأ بمن؟! بفارس أم الروم؟! فقال: يا أمير المؤمنين: إن الفرس الرأس، وإن الروم الجناحان، وإن سقوط فارس إن سقطت سقطت بأسرها، أما الروم فهم يغدرون ويمكرون ويرجعون ويجيئون، أنفاسهم طويلة.

بدأ عمر بفارس بعد عامين من ولايته، كيف يعز الإسلام؟! كيف يعظم بلاد الإسلام؟! يكون للمسلمين دولة من أطراف الأرض إلى أطرافها؟! لا لعمر ولا لغير عمر، إنما كي تكون الأرض لله -عز وجل-: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128].

أراد عمر الذي كان يأكل خشن الخبز، ورديء الزيت، ويلبس مرقع الثياب، ما فكّر مرة أن ينقل خلافته من المدينة إلى أرض فارس، أو أن ينال من ملك الفرس شعيرة، لا والله، وافقه الصحابة على ذلك لأنهم موقنون بنصر الله -عز وجل-، وأن نصر الله آتٍ كلما التجأ العبد إلى الله.

الكون بيد الملك: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]، رقاب العباد بيده، ولكنه -سبحانه وتعالى- حليم حكيم يبتلي خلقه وعباده، من يعزّ دينه ومن يعيش ذليلاً إلى الأبد.

عندها اختار عمر سعد بن أبي وقاص لهذه المهمة، لأعظم مهمة وأقوى دولة في التاريخ، فارس، فجهز جيشه، وأعد عدته، واختار سعد بن أبي وقاص، كانوا يختارون الأتقى والأقرب للحق.

سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة، كانوا يختارون علو الدين لا علو المنزلة والجاه، ركب سعد والجيش خلفه، وخرج عمر ليشيعه، سعدٌ راكب وعمرُ ماشي، كان سعد يريد أن ينزل فقال: لا تفعلن حتى لا تسقط هيبتك عند الجند، أنت الآن القائد، شيعه عمر وهو ماشٍ، ثم قال: يا سعد: "لا ننتصر عليهم بعدد ولا بعدة"، على الرغم من أننا الآن ما يقارب المليارين من البشر، أو المليار والنصف، عدد المسلمين كثير ولكنهم غثاء.

كما بيّن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها"، ما تخيل هذا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أحد من الصحابة، أن تذل الأمة حتى تكون كالقصعة، حتى ترى المسلمين يوضعون في ميادين ويوضع عليهم البترول ثم تشعل فيهم النيران، وهم يجرون ويحترقون، وعُبَّاد البقر والصنم يصفقون ويضحكون.

"يا سعد: لا ننتصر عليهم بعدد ولا بعدة، إنما ننتصر بهذا الدين"، وليس الدين هو الاسم!! أكثر أو ما يقارب ألفًا وخمسمائة مليون ولكن غثاء، لا ننتصر إلا بهذا الدين، فإن عصينا الله، إن خرمنا هذه الأصول، من تفريط في طاعة أو فعل لمعصية، سقطنا من عين الله -عز وجل-، ضعف العون، لأننا عصاة، فكيف لو تراجعنا عن الأصول وأصول الأصول حتى الفروع؟! كيف لو ركبنا كل خطيئة وكل سيئة فعلتها الأمم؟! وننتسب إلى الإسلام!!

لا ننتصر عليهم بعدد ولا بعدة، إنما بهذا الدين، فإن عصينا الله تساوينا معهم في المعصية، هم عصاة ونحن عصاة، حتى ولو كنا على التوحيد، المعاصي شؤم، فغلبونا بعددهم وعدتهم.

أين كان عقل عمر وهو يرسل سعدًا، أن يأتي بكنوز كسرى؟! أن يحول ولايته إلى إيوان كسرى؟! لا والله، ثياب مرقعة، حافي القدمين، خشن العيش، وانطلق سعد وفتح بلاد فارس، ظل عمر يرقب بين العام والآخر معارك القادسية وما حولها، والمسلمون منتصرون ظافرون على عدوهم، في كل معركة ينتصرون حتى فتحت فارس، وعزّ الإسلام، وصعد سلمانُ على إيوان كسرى -البيت الأبيض- وأذَّن: الله أكبر، وعادت الجيوش بكنوز كسرى، وتاج كسرى، وكرسي كسرى، وقد بشر النبي -صلي الله عليه وسلم- سراقة، أين أنت يا سراقة حينما تلبس سواري كسرى!!

دخل ليوث الإسلام ليلاً، ارتجت المدينة فرحًا بالنصر العظيم، قام عمر ونظر فإذا بالجيش داخل المدينة معه كنوز، أطنان من الذهب والفضة والمجوهرات، فلما وضعت في المسجد، واجتمع المسلمون، سأل عمر عن سواري كسرى، فجيء بسواري كسرى والتاج الذي كان على رأسه، فنادى سراقة: أين سراقة؟! أجلسه على كرسي كسرى، ووضع التاج على رأسه، والأساور في يديه، وهو يقول: بخٍ بخٍ، سراقة بن مالك البدوي الأعرابي يلبس سواري وتاج كسرى، ثم ردهم إلى بيت مال المسلمين.

أمة عزيزة، عمر -رضي الله عنه- ما اكتفى ببلاد فارس، بل انتقل إلى الروم ودحرها، كانت حدود الروم هي حدود الأردن الآن، بلاد الشام قاطبة كانت تابعة للروم، وربما حكم بعضها الغساسنة من العرب ولكنهم كانوا نصارى، بتوكيل من ملك روما، اندحرت الروم وفتحت مصر، وعزّ الإسلام في زمن عمر.

لما ذهبوا لفتح بيت المقدس، والإسلام يُعظِّم أصحاب الديانات القديمة، بمعنى لا ينتهك عرضهم، ولا يُؤْذَون، فلما أردوا فتح أو دخول بيت المقدس قالوا لأبي عبيدة بن الجراح: لن نعطي مفاتيح البيت إلا لرجل معنا صفته، فأرسلوا إلى خليفتكم أو أميركم، فإن كان هو أعطيناه المفتاح.

فأرسل أبو عبيدة إلى عمر -رضي الله عنهم جميعًا-، أبوا أن يعطوا المفتاح، لمَ لم يقل عمر لأبي عبيدة: اهدم عليهم البيت وأخرجهم عنوة؟! لقد سلموا وأقروا بالجزية شريطة أن يأتي عمر، ويعيشوا حالهم كحال المسلمين بحرية تامة، ليس هناك اعتداء ولا ضغوط، ولا أقلية ولا أكثرية، دمهم حرام.

انطلق عمر -رضي الله عنه- بثياب مرقعة، عمر الذي فتح فارس، ودحر الروم، وما زال طعامه هو نفس الطعام، الزيت والخبز الجاف، أُدْمٌ خشن، وثياب رديئة بالية.

وانطلق على بغلة ومعه غلامه، فلما اقترب فإذا بمخاضة بركة من الماء، على الجانب الآخر أصحاب عمر أبو عبيدة وأصحابه، فنزل عمر وخلع نعليه وخاض في المخاضة حتى انتقل إلى الجانب الآخر من هذه البركة.

فزع أبو عبيدة لما رأى عمر يفعل هذا وقال: أوه يا أمير المؤمنين، ما تمنيت أن يراك القوم على هذا، أنت رأس المسلمين، هنا غضب عمر، إن عمر لا يعتز بملك ولا سلطان ولا جاه ولا رجال، إنما يعتز بدينه، بخلاف ملوك الأرض، هم أذلة لمن معهم.

فقال عمر لأبي عبيدة: لو أن غيرك قالها -يا أبا عبيدة- لعنفته، إنَّا كنا أذل أمة فأعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.

رأوه الأسقفة فكبروا وأعطوه مفتاح بيت المقدس، صلى ثم عاد وأسلم المفتاح إلى أصحابه وعاد إلى المدينة.

عودوا إلى ربكم واستغفروه...

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العلمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

عباد الله: لم تقف الأمة عند حدود فارس أو الروم، بل عبرت بفارس إلى مشارق الأرض، حتى وصلوا ما بعد الصين، لما كانوا على حدود الصين مع القائد العظيم قتيبة بن مسلم، سأل ملك الصين عن حال هؤلاء القوم، قيل له: رهبان بالليل فرسان بالنهار، قوم خرجوا من ديارهم لا لهدف إلا لإعلاء كلمة الله -عز وجل-، فقال: سيطؤون موضع قدمي، ووطئوا موضع قدم ملك الصين.

أقسم قتيبة بن مسلم لن يرجع بعد أن وافقوا على إعطاء الجزية، لن يرجع حتى يجز ناصية الملك وأن يأخذ تراب ملكه، وافق الملك في ذل وصغار.

المسلمون ملؤوا الأرض بالنور، ورفعوا راية لا إله إلا الله، قتيبة بن مسلم في معاركه كان يأخذ معه العلماء وكبارات الأئمة، كانت هناك معركة غير متكافئة في العدد مع الروم لا مع الفرس أو أتباع الفرس، فالروم كانت تطوف الأرض لتضيق على المسلمين، في معركة عظيمة وكان في يوم جمعة، فقال قتيبة بن مسلم لقائده: انظر ما يفعل محمد بن واسع -من كبار علماء الأمة من الأتباع الأخيار الأفاضل-، ما يفعل محمد بن واسع؟!

ذهب هذا القائد ونظر، فإذا بمحمد بن واسع ساجدًا، عفر جبهته بالتراب ويدعو ويستغيث، ويبصبص بأصبعه إلى السماء، يشير إلى السماء، يدعو الله -عز وجل-، فأسرع هذا القائد إلى قتيبة بن مسلم فأخبره الخبر، فقال قتيبة: "والله إن أصبع محمد بن واسع أفضل عندي من ألف سيف شهير، وألف شاب طرير -قوي-".

ليس بالعدد كانوا ينتصرون ولا بالعدة، كانوا ينتصرون بهذا الدين، ومن ثمّ أعزهم الله في كل موطن.

حينما يسمع الرشيد أن نقفور -وكان ملك فرنسا- خُلِّفَ بعد أمه، فأراد أن يظهر أنه رجل، كانت أمه تعطي الجزية لبلاد الإسلام في وسط أوروبا، فأرسل رسالة بعد أن تولى الملك، وجهز الجيوش وأعد العدة: من الملك نقفور إلى العربي هارون الرشيد: كنتم قد استضعفتم أمي وأخذتم منها الجزية، ولن نعطيها لكم.

وصل الخطاب إلى الرشيد في أيام برد وثلج، وفي أيام صعبة، قرأ الرسالة فما تكلم الرشيد، بل كتب في ظهرها: "إلى الكافر ابن الكافرة نقفور، الجواب ما ترى لا ما تسمع". وانطلق الجندي برسالة الرشيد إلى نقفور، وصلت الرسالة والرشيد على أبواب فرنسا بجنوده، حتى سلَّم نقفور، ووافق على الجزية.

عاد الرشيد حتى اقترب من الشام والجو شديد البرودة، والثلج قد غطى الأرض، فوصل الخبر أن نقفور نقض العهد مرة أخرى، فخاف بعض مستشاري الرشيد أن يصل إلى بغداد دون أن يعلم بما حدث، فقال: يا أمير المؤمنين: كما ترى الحال -ثلوج- والجند قد أنهكوا، وإن نقفور نقض العهد، فأقسم الرشيد أن يعود مرة أخرى، حتى سلَّم نقفور.

وليس أمر المعتصم ببعيد، لما كان في مجلسه مع أصحابه، وامرأة كانت بأرض الشام، في أرض النبط، والنبط هم العرب الذين كانوا يجاورون الروم، لما كانت هذه المرأة في بعض الأسواق كُشِف عن وجهها، وقيل: صفعها نبطي نصراني، صرخت المرأة في السوق، لا يعلم أحد من هي المرأة، ولا من الذي نقل الخبر، صفعت على وجهها، أو ذهب الخمار عن وجهها، فقالت: وا معتصماه، وا أمير المؤمنين.

كان للإسلام قوة، ولهم قادة أقوياء، يزلزلون الأرض من أجل امرأة، ربَّ صرخة نادت: وا معتصماه، ولكنها لم تلامس قلوب أحياء، وصل الخبر، فإذا بالرجل على الباب واقف -على باب أمير المؤمنين المعتصم- قال: أريد الخليفة لأمر مهم، أخبر الخليفة وكان مع جلسائه، فدخل الرجل وفي يد الخليفة كوب من ماء يشرب، ما بك أيها الرجل؟! الرجل يلهث، عنده خبر عاجل، قال: يا أمير المؤمنين: صرخت امرأة في أرض الروم: وا معتصماه.

عندها قام المعتصم، أعطى الكوب إلى جاره وقال: ضع هذا مكانه حتى أعود، وجهّز الجيوش، وذهب إلى عمورية في أوائل أوروبا وفتحها، وكسر بابها وجره بالخيل إلى بغداد، حتى قال القائل:

السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ *** في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ

أيها الأحباب: ما عزّت الأمة إلا بالدين، وما ذلت إلا بتركها الدين، مهما ابتغينا العزة في غير هذا الدين أصابنا الذل والصغار، ومهما تمسكنا بهذا الدين فأنت عزيز حتى لو أُلقيت على المزابل، حتى لو لم تجد رغيف خبز.

نرى أن هم الناس كل الناس الكهرباء، المياه، الخبز، الثياب، المتع، اللذائذ، من يحترق من أجل هذا الدين؟! من يحترق قلبه ويفكر أين أنا غدًا؟! إلى الجنة أم إلى النار؟! إن السعيد من سار في طريق الحق حتى المنتهى، ما أحد يفكر في هذا، متع ولذائد عارضة، والموت يهجم بلا مقدمات، كلنا سيموت، كلنا سيخرج، ستذهب المتع، ستجلس تحت أجداث التراب سنوات بلا كهرباء، وبلا ماء، وبلا طعام، فإما أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة، وإما أن يكون حفرة من حفر النار.

سترى ظلمة طويلة، سترى جوعًا طويلاً لا ينقطع في القبر، وفي أرض المحشر وقوف قدره خمسون ألف سنة يا مسكين، ظلام دامس، الناس جميعًا يقفون بلا منزل ولا معلم لأحد، لا ربوة يصعدون عليها لينظر إليهم، ولا وهدة أو منخفض ينخفضون فيه.

وقوف على الأقدام قدر خمسين ألف سنة، ما أكلوا أكلة، ولا شربوا شربة، احترقت الأكباد من الجوع، وتفتت الأمعاء من العطش، ثم بعد ذلك كيف بمنصرف البعض إلى النار!! أين الأولويات كما يقول العقلاء؟! أين عقولنا؟! الأولويات أن الآخرة خير وأبقى، أن نحافظ على هذا الدين، أن نحافظ على عزنا، على مجدنا.

ما يزيد على ثلاثة ملايين الآن قتلوا في بورما، ولا أحد يتكلم، أين دعاة السلام؟! أين دعاة الحريات؟! أين أين أين؟! والآن الصور على الإنترنت، والمناظر البشعة سيراها كل مسلم وكافر، بلا نكير من أطفال ونساء وشيبة، مناظر بشعة، ونحن أين نحن؟! فيما نفكر؟! ما الذي يشغلنا؟! كان من سبق بالدعاء ينتصرون، ونحن مشغولون لاهون غافلون، شغلتنا عجلة الدنيا.

لا أدري ما أقول، فإن المصاب فادح، وإن الخطب عظيم جسيم.

فأسال الله الملك الكريم المنان أن يرحم المسلمين والمسلمات، وأن ينصر المسلمين والمسلمات، وأن يردنا إلى ديننا ردًّا جميلاً. وأقم الصلاة.
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي