أغلى لحظات العمر

محمد أبوعجيلة أحمد الككلي
عناصر الخطبة
  1. نعمة الوقت وأهميته .
  2. حرص السلف عليه .
  3. الفراغ مدخل الشهوات .
  4. سؤال المرء يوم القيامة عن وقته وشبابه .
  5. دعوة لاستثمار الوقت ومجانبة التسويف .
  6. تربية الأبناء على المحافظة على أوقاتهم .

اقتباس

إن الصحة والفراغ والمال هي الأبواب الذي تلج منها الشهوات المستحكمة، ويتربع في فنائها الهوى الجامح فيأتي على صاحبه، وقد صدق من قال: "من الفراغ تكون الصبوة"، وكم كان الفراغ سببًا في الانحراف والفساد عند عدم استغلاله! فهو نعمة، لكن؛ إذا استُغل ..

أما بعد: الوقت نعمة عظيمة، ومنّة كبيرة، من حافظ على وقته فقد احتاط في أمره، وحافظ على نفسه، ومن أضاع وقته فقد أضاع أيامه، وخسر زمانه.

ولأهمية الزمن وأثره أقسم الله -عز وجل- به وبأجزاء منه في آيات كثيرة من كتابه الكريم: كالفجر، والليل، والنهار، والعصر، والضحى، وغيرها، وما ذاك إلا لمكانة الزمن ولفت الأنظار إليه من جانب، والتنبيه على جليل نفعه وعظيم آثاره من جانب آخر.

وفي الحديث، عَن ابن عَبَّاس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عن النَّبِيّ قَالَ: "نِعْمَتَانِ مَغْبُوْن فِيْهِمَا كَثِيْرٌ مِن النّاسِ: الصّحة والفَرَاغُ". رِواهُ البُخاريّ وغيره.

والوقت هو الحياة، وهو عمر الإنسان حقيقة، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

وَعند الحاكم في المستدرك، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ".

وَقَالَ غُنَيْمُ بْنُ قَيْسٍ: "كُنَّا نَتَوَاعَظُ فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ: ابْنَ آدَمَ: اعْمَلْ فِي فَرَاغِكَ قَبْلَ شُغلِكَ، وَفِي شَبَابِكَ لِكِبَرِكَ، وَفِي صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَفِي دُنْيَاكَ لآخِرَتِكَ، وَفِي حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ".

عباد الله: حفظ الوقت من أعظم ما يرى أثره في الدنيا قبل الآخرة، فطوبى لمن بادر عمره القصير، فعمر به دار المصير، وتهيأ لحساب الناقد البصير، قبل فوات القدرة وإعراض النصير؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا؟! أو غنىً مطغيًا؟! أو مرضًا مفسدًا؟! أو موتًا مجهزًا؟! أو هرمًا مفندًا؟! أو الدجال؟! فشر غائب ينتظر! أو الساعة؟! فالساعة أدهى وأمر!".

يقول سفيانُ عن عمرو بن قيس: "هو الذي أدبني، علمني قراءة القرآن، وعلمني الفرائض، وكنت أطلبه في سوقه، فإن لم أجده في سوقه وجدته في بيته، إما يصلي، وإما يقرأ في المصحف، كأنه يبادر أمورًا تفوته، فإن لم أجده في بيته وجدته في بعض مساجد الكوفة في زاوية من زوايا المسجد كأنه سارق، قاعدًا يبكي، فإن لم أجده وجدته في المقبرة قاعدًا ينوح على نفسه".

وكان ابن عياش يقول: "لو سقط من أحدكم درهم لظل يومه يقول: إنا لله! ذهب درهمي! وهو يُذهب عمره، ولا يقول: ذهب عمري. وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات، ويحفظون الساعات، ويلازمونها بالطاعات".

وكان عمرو بن دينار قد جزّأ الليل ثلاثة أجزاء: ثلثًا ينام، وثلثًا يدرس الحديث، وثلثًا يصلي.

وكان وكيع بن الجراح لا ينام حتى يقرأ حزبه في كل ليلة ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر فيصلي ركعتين.

وإضاعة الوقت هدرًا من أعظم المصائب على العبد، وكل يوم تغيب شمسه لا يعود، والغد مجهول لا تدري: أتدركه أم لا؟! روى ابن أبي الدنيا عن بعض السلف أنه قال: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لأَهْلِ الدُّنْيَا إِلا نَادَى: ابْنَ آدَمَ: اغْتَنِمْنِي، لَعَلَّهُ لا يَوْمَ لَكَ بَعْدِي، وَلا لَيْلَةٍ إِلا تُنَادِي: ابْنَ آدَمَ: اغْتَنِمْنِي، لَعَلَّهُ لا لَيْلَةَ لَكَ بَعْدِي".

ومن ضيّع وقته الآن فسيندم بعد فوات الأوان، قال تعالى: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ * فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ) [فاطر: 37-38].

ولهذا كان السلف حريصين على كسب الوقت وشغله بالعمل النافع، فقد كانوا يبادرون اللحظات، ويسابقون الساعات، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانُوا أَشَدَّ حِرْصًا عَلَى أَوْقَاتِهِمْ مِنْ حِرْصِكُمْ عَلَى دَرَاهِمِكُمْ وَدَنَانِيرِكُمْ".

يقول ابن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه-: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي".

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "إِنَّهُ لا يَحِلُّ لِي أَنْ أُضِيعَ سَاعَةً مِنْ عُمُرِي".

عباد الله: كم ضاع من الأوقات في الغيبة والنميمة! كم ضاع من الأوقات في اللهو واللعب! الشغل الشاغل حياة وشؤون الآخرين: كم يملك؟! ماذا يفعل؟! أين يذهب؟! قال الحسن: "مِن علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه، خذلانًا من الله -عز وجل-".

تمر الساعات والأيام ولا يحُسب لها حساب؛ للجهل بقيمة الوقت وأهميته، هناك من يدعوك: تعالَ نفوّت الوقت! يفرح عندما تغيب الشمس، وهو يدرك تمامًا أن يومًا فات من عمره لا يعود! (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثَاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 115].

عباد الله: إن الصحة والفراغ والمال هي الأبواب الذي تلج منها الشهوات المستحكمة، ويتربع في فنائها الهوى الجامح فيأتي على صاحبه، وقد صدق من قال: "من الفراغ تكون الصبوة"، وكم كان الفراغ سببًا في الانحراف والفساد عند عدم استغلاله! فهو نعمة، لكن؛ إذا استُغل في معصية الله كان بلاءً ونقمة.

قال الحسن: "ما مر يوم على ابن آدم إلا قال له: ابن آدم: إني يوم جديد، وعلى ما تعمل فيَّ شهيد، وإذا ذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدم ما شئت تجده بين يديك، وأخِّرْ ما شئت فلن يعود أبدًا إليك".

أيها الشاب: الشباب قوة وفتوة، وحركة ونشاط، وأمل وعمل، والشباب إذا اغتنم وقته وانتهز الفرصة في تحقيق هدفٍ، والوصول إلى غرضٍ شريفٍ، وصل إلى هدفه، وحقق مطلبه؛ فالفرصة ثمينة، وانتهازها دليل الحزم، وعنوان العقل والجد؛ فالوقت رأس مال الإنسان، وساعات العمر هي أنفس ما يعنَى بحفظه.

كانت صفية بنت سيرين توصي فتقول: "يا معشر الشباب: خذوا من أنفسكم وأنتم شباب، فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب".

روى الطبراني في المعجم الكبير من حديث مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَزُولُ قَدمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرُهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟! وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاهُ؟! وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟! وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟!".

وفي الحديث أن الإنسان سيسأل عن مرحلة الشباب مرتين: مرة من خلال مرحلة العمر، ومرة من خلال مرحلة الشباب نفسها.

فاحذر -أيها الشاب- من إضاعة الوقت في الملاهي والمقاهي، وفي زوايا الشوارع وعلى الأرصفة والطرقات، وابتعد عن صحبة الأشرار؛ فإن مصاحبتهم مضيعة للوقت ومفسدة.

هذا الإمام النووي -رحمه الله- كان يضع الخبز في الماء ويمصه بعد ذلك مصًّا، وكان يقول: "إن ما بين مضغ الخبز ومصِّه قدر قراءة خمسين آية".

وكان مما عرف عن الإمام النووي أنه وضع نعلاً في الباب الشرقي من المسجد، ووضع نعلاً آخر عند الباب الغربي، حتى إذا وجد الباب الشرقي مزدحمًا عند الخروج خرج من الباب الغربي، وكل ذلك كان من أجل المحافظة على الوقت واستثماره في القراءة والكتابة.

أيها الشباب: احذروا التسويف! قال بلال بن سعد -رحمه الله-: "يقال لأحدنا: تريد أن تموت؟! فيقول: لا، فيقال له: اعمل، فيقول: سوف أعمل، فلا يحب أن يموت، ولا يحب أن يعمل، فيؤخر عمل الله تعالى، ولا يؤخر عمل الدنيا".

أيها المسلم: استثمر وقتك، ولا تضيع دقيقة، فإن الدقيقة لها قيمة، أرأيتم الطالب في الامتحانات كيف يحرص على الدقيقة، وكيف تمر ساعة الامتحان وهو لا يشعر؟!

أخي المسلم: اغتنم الدقائق واللحظات، اشغل الأوقات الضائعة وساعات الانتظار في السيارة، وعند مشيك من البيت للمسجد، وفي المسجد، وفي طريقك إلى المدرسة أو العمل، عطّر لسانك بالذكر، وقلبك بالفكر، وشنف أذنك بالذكر؛ استفد من كتاب، استمع لدرس علم.

قال الجنيد لرجل وهو يعظه: "جماع الخير كله في ثلاثة أشياء: إن لم تمضِ نهارك بما هو لك فلا تُمضه بما هو عليك، وإن لم تصحب الأخيار فلا تصحب الأشرار، وإن لم تنفق مالك فيما لله فيه رضا فلا تنفقه فيما لله فيه سخط".

وقال موسى بن إسماعيل: "لو قلت لكم: إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكًا قط لصدقت، كان إما مشغولاً بنفسه، إما يحدّث وإما يقرأ وإما يسبح وإما يصلي؛ كان يقسّم النهار على هذه الأعمال".

عباد الله: ينبغي الحرص على الوقت كحرصك على المال، بل أشدّ، وينبغي الحرص على الاستفادة من الوقت كله فيما ينفع في الدنيا والدين؛ فإن هذا مما يدفع إلى علو الهمة، وغرس الحب والخير في النفس.

واحرصوا على صحبة الأخيار، ومجالسة الصالحين، وسماع أخبارهم، والرغبة في مجاراتهم، والوصول إلى ما وصلوا إليه من الطاعة والعبادة.

أيها الآباء: اعلموا أن من حسن التربية تعويد الأبناء على الاستفادة من الأوقات، وإعمارها بما هو مفيد، حتى يتعودوا على ذلك من الصغر، قال عبد الله بن عبد الملك -رحمه الله-: "كنا مع أبينا في موكبه فقال: سبحوا حتى تلك الشجرة، فُنسبح حتى نأتيها، فإذا رفعت لنا شجرة أخرى قال: كبروا حتى تلك الشجرة، فكان يصنع بنا ذلك".

عباد الله: الوقت أنفس ما تملكون، وهو أغلى من الذهب والفضة والجواهر، فاحفظوا أوقاتكم، واغتنموا زمانكم، فإن إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها، وما مضى من الدنيا أحلام، كنائم رأى مسيرة حياته في لمح بصر ثم استيقظ! ذهبت الأيام بآلامها وآمالها وأحلامها، بشدتها وقسوتها، ولكن بقي الحساب.

أيها المسلم: رأس مالك في هذه الدنيا دقائق وأيام، فماذا قدمت في هذه الأوقات؟! وماذا سجلت في تلك الصحائف؟! هل تسُرك إذا نظرت فيها يوم القيامة أم تسوؤك؟! فلا يكن حالك كمن أخبر الله تعالى عنهم: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر: 56].

ذكر في ترجمة الربيع بن خثيم، وهو من تلاميذ عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه حفر في بيته حفرة على هيئة القبر، وكان في كل يوم تشرق شمسه ينام في تلك الحفرة ويقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون:99-100]، ثم يسكت قليلاً، ويجيب نفسه قائلاً: قد أعطيناك فرصة أخرى، فقم واعمل. ثم يخرج إلى الدنيا وحاله كمن أُعطي فرصة أخرى للحياة بعد الموت.

وقد كان حريصًا على استثمار وقته في طاعة الله، حتى قال له ابن مسعود -رضي الله عنه- ذات يوم: "يا ربيع: والله لو رآك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأحبك".
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي