ففي لحظات الشدة ينبغي أن نذكر الله -تعالى- أكثر من أي شيء آخر، وهذا ما يميزنا عن الكفار -أيها الإخوة-، فإيماننا بالله ليس كإيمانهم؛ فإن في إيمانهم شكًّا في القدرة الإلهية الصرفة، فهم جنحوا إلى المادية، حتى أصبحت عقيدتهم كعقيدة القدرية الذين أنكروا القدَر، وجعلوا الإنسان في فكرهم هو الذي ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
في زمن الفتن والتنازع على الدنيا والحروب والقتل يشتغل الناس بأخبار تلك الفتن، متابعةً وتحليلاً، ونقاشًا مُتكررًا، وجَدَلاً طويلاً، فهنا رأْي وهناك رأي؛ ويغفل كثيرون عن فضيلة كبيرة قد تفوتهم من حيث لا يشعرون؛ فوقتُها مُقَيَّدٌ بذلك الزمان، زمان الفتن. إنها العبادة الخالصة في الهرج.
ففي صحيح الجامع عن معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إليّ"، يقول القرطبي: "المتمسك في ذلك اليوم، والمنقطع إلى العبادة، المنعزل عن الناس؛ أجره كأجر المهاجر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه ناسبه من حيث إن المهاجر يفر بدينه مما يصد عنه"، كالحروب العمياء، والفتن، والنزاعات التي تكون بين طلاب السلطان، والمفاسد الدنيوية، وظهور العناد بين العباد.
فإذا غلبت هذه الفتن على الناس فإن العبد الموفق لا يغفل عن عبادة ربه؛ بل يجعلها حاضرة أكثر من ذي قبل، ويدعو ربه أن يصلح الحال، ويقوم بالعبودية لله -تعالى-؛ مؤديًا للفرائض، قائمًا بالواجبات، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، معتصمًا بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يحكمهما على نفسه وعلى غيره.
وليس الهرج مقتصرًا على الحروب والقتل؛ بل حين الخوف بشكل عام، وحين اختلاف الناس، وحين اختلاط الأمور، وحين الفوضى والاضطراب، وحين الغفلة الشديدة ورقة الدين وانصراف الناس عن الآخرة إلى الدنيا بقوة عارمة؛ بحيث ترى الدنيا على كل وجه، وفي كل سلوك، ووراء كل هدف.
في هذا الجو الكئيب، جو الفتن، جو افتعال الشهوات والأهواء، جو خفاء الأحكام على الناس، يبرز العبد الموفق وسط هذا الجو، العبد الذي يعامل الدنيا برفق فلا يرقد مع الراقدين، ولا يتيه مع التائهين، اهتمامه بعيد، فالناس في وادٍ وهو في وادٍ آخر.
وإذا رأى أو سمع المعروف ابتهج وساهم فيه، وكثّر عدد القائمين به؛ وإذا رأى المنكر أنكر، وذكر الله واستغفر؛ وإذا دار حديث الناس في هذا وذاك، وقيل وقال، من الأخبار التي تَقْذِي القلب، ولا تكسب إلا الذنب، سبح الله وحمده، وقام من ذلك المجلس بصفحة بيضاء. هذا هو هديه.
وخير للعبد في تلك الأجواء أن يقبل على عبادة ربه بهمة أكبر، وأن يحسن العبادة، ويحافظ على الجمع والجماعات، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ ويقوم من الليل، ويكثر التسبيح والتهليل والذكر والاستغفار، ويصوم النوافل.
كل هذه العبادات إذا قصد بها الفرار إلى الله -تعالى- وقت الفتن كانت عند الله كهجرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأي مكانة هي مكانة المهاجرين؟!
أيها الإخوة: هذا هو هديٌ نبوي في كل وقت يغفل فيه الناس عن العبادة، ففي حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه- لما سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن صيامه شعبان قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان". حسنه الألباني.
فواحد من الأسباب التي دعته -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى صيام شعبان هو غفلة الناس عن عبادة الصوم في ذلك الشهر، هكذا كان -عليه الصلاة والسلام- في أوقات انشغال الناس عن العبادة، يكون في تلك الأوقات عابدًا حامدًا -صلى الله عليه وسلم-.
وفي وقت الفزع والخوف كان ملاذه الصلاة، فكما روي عنه -صلى الله عليه وسلم-: "إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة"؛ امتثالاً لقوله -تعالى-: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) [البقرة:45]، وقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:153].
وتأملوا حاله -صلى الله عليه وسلم- في قول عليّ -رضي الله عنه-: "لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ، وَمَا فِينَا إِلا نَائِمٌ، إِلا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى شَجَرَةٍ وَيَدْعُو حَتَّى أَصْبَحَ".
وفي قول حذيفة -رضي الله عنه-: "رجعت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الأحزاب -تلك الليلة الباردة والأجواء المصيرية- وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان رسول الله إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة".
ومن دواعي مشروعية دعاء القنوات في الصلاة وقت الفتن والحروب، حتى يكون قلب العبد معلقًا بالله -تعالى- وحده دون الأسباب الأرضية.
إذًا؛ فسبب عِظم أجر العبادة في الحرب عنها في الرخاء أن الناس في الهرج والفتن ينشغلون عن العبادة بالأسباب المادية.
في صحيح البخاري من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: استيقظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة فزعًا يقول: "سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات -يريد أزواجه- لكي يصلين؛ رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عارية في الآخرة".
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يبين الموقف القويم حين الفتن: "مَن يوقظ صواحب الحجرات لكي يصلين؟!"، وليس المقصود الصلاة بعينها، وإنما الصلاة أوضح هيئات العبادة؛ فإذا غارت الآبار، وقلّت الأمطار، وذبلت الأزهار؛ فإلى أين نفر؟! أليس إلى الصلاة، صلاة الاستسقاء؟! وإذا كسفت الشمس، وخسف القمر، وعظم الخطب، وحل الخوف؛ فإلى أين نفزع؟! أليس إلى الصلاة؟! قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا انكسفت إحداهما فافزعوا إلى الصلاة". وفي لفظ من حديث أبي موسى: "فإذا رأيتم منها شيئًا فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره".
في زمن الفتنة في آخر أيام الخليفة عثمان -رضي الله عنه-، دخل عليه عبيد الله بن علي وهو محصور في بيته -رضي الله عنه-، فقال له يسأله: "إنك إمامُ عامة -أي: أنت الخليفة والإمام-، ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمامُ فتنةٍ -في المسجد-، ونتحرج -أي: نتحرج من الصلاة خلفه- فقال: "الصلاةُ أحسنُ ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسِنْ معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم".
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وفي هذا الأثر الحضُّ على شهود الجماعة، ولا سيما في زمن الفتنة؛ لئلا يزداد تفرقُ الكلمة".
وينبغي أن يلجأ المسلم لله تعالى عند الهمّ والحزن، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما أصاب عبدًا قط هَمٌّ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسالك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي؛ إلا أذهب الله همه، وأبدله مكانه فرحًا".
ففي لحظات الشدة ينبغي أن نذكر الله -تعالى- أكثر من أي شيء آخر، وهذا ما يميزنا عن الكفار -أيها الإخوة-، فإيماننا بالله ليس كإيمانهم؛ فإن في إيمانهم شكًّا في القدرة الإلهية الصرفة، فهم جنحوا إلى المادية، حتى أصبحت عقيدتهم كعقيدة القدرية الذين أنكروا القدَر، وجعلوا الإنسان في فكرهم هو الذي يصنع الأحداث بمعزل عن الله؛ ولذلك قل لجوؤهم إليه -جل وعلا-، حتى في وقت الشدة والمحن، إن لم يكن قد زال بالكلية؛ واعتمدوا اعتمادًا كليًّا على تقنيتهم وصناعتهم دون الله -تعالى-.
أما إيمان المسلم فهو إيمان ثقة ومحبة وأمان، فنحن إن بذلنا الأسباب البشرية فإنما نبذلها تدينًا لله -جل وعلا-، لا ثقة فيها، ولا تعلقًا بها، فكما ينبغي علينا الإحسان والإتقان في بذل الأسباب المادية كما أمرنا الله -تعالى-، فعلينا كذلك أن نحسن الظن بالله -جل وعلا-، فنفر إليه عبادة وتضرعًا؛ لأننا نؤمن بأننا إذا أحسنَّا الظن بالله كفانا الشرور بإذنه -تعالى-، فنتضرع إليه بشدة، ولهذا قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام:43].
وجاء في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي؛ فليظنّ بي ما شاء". صححه الألباني. ولذلك كان -عليه الصلاة والسلام- إذا حزبه أمر قال: "الله الله ربي لا أشرك به شيئًا"، هكذا علم أسماء بنت عميس: "ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب؟! الله الله ربي لا أشرك به شيئًا". رواه أبو داود، وهو حديث صحيح.
وكان يقول -صلى الله عليه وسلم- كذلك عند الكرب: "يا حي يا قيوم: برحمتك أستغيث".
أسأل الله -تعالى- أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وذهاب همومنا وغمومنا وكربنا، اللهم آمين، اللهم استجب لنا أجمعين.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن ما سبق من كلام لا يعني أن يبقى المسلم جاهلاً بالأحداث، غافلاً عن مصالح أمته ومصالح دينه، كلا، وإنما المقصود أن لا يلتهي عن دينه بدنياه، متتبعًا للأحداث مِن صبحه حتى ممساه، محللاً ومنتقدًا، يمضي الساعات الطوال في مشاهدة البرامج التحليلية، وفي هذه الغمرة ينسى عبادة ربه، ينسى مدبر الكون، ومصرّف الأحداث -جل وعلا-، ولا يلهج بذكر الله إلا قليلاً.
ينبغي التوازن في الأمر، فإذا سلمه الله -تعالى- من أن يكون في قلب الأحداث فلا بأس أن يطلع على الأخبار، لكن برفق؛ لأن اهتمامه الأكبر الآن هو بربه، فقلبه معلق به -تعالى- دون عباده، فلابد أن يظهر ذلك في تصرفه، في مدى إقباله على العبادة.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي