لقد سمعنا وقرأنا عن فنون التعامل مع الآخرين، وقواعدِ الأخلاق، وأُلِّفت فيها الكتب، ووُضعت لها دوراتٌ ومحاضرات، وكلُّها تدور على شيءٍ واحد، وهو كيف تكسب الآخرين، وكيف تكون محبوبًا مقبولاً، فهل سمعنا في تاريخ الأمم، أو قرأنا في الكتب التي تتكلَّم عن الأخلاق والقيم مثالاً لأحدٍ من الناس يتحمَّل أخطاء العالمين، ويصبر على أذى الجاهلين، ويُعطي أمواله لمن هم في الباطن ..
الحمد لله الذي (إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [البقرة: 117]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا تراه في الدنيا العيون، ولا تخالطهُ الظنون، والصلاة والسلام على المخصوص بالسيادةِ والشرفِ المصون، والمنزلِ عليه وحيًا في الكتاب المكنون: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) [الأنبياء: 34]. وعلى آله وصحبه المصدقين له، والمؤمنين به وبالآخرة هم يوقنون.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين: مواقفُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه كثيرة، تُسْتَخْلَص منها العبر والدروس، فمن بين هذه المواقف والقصص، ما ثبت في الصحيحين عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وقَّاصٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَعْطَى رَهْطًا وأنا جَالِسٌ فِيهِمْ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً لَمْ يُعْطِهِ، وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟! فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَوْ مُسْلِمًا". قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟! فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَوْ مُسْلِمًا"، فلما عاد في المرة الثالثة قال له: "إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ".
عباد الله: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُوسع العطاء لمن أظهر الإسلام، وإنْ كان ضعيفًا في إسلامه، مشكوكًا في إيمانه، ومقصدُه من ذلك أن يتألَّف قلوبهم، ويغرس الإيمان في نفوسهم، فلما أعطى في أحد الأيام رجالاً من المؤلفة قلوبهم، فأعطى الجميع إلا رجلاً واحدًا، واسْمه: جُعَيْل -رضي الله عنه وأرضاه-، وهو من المهاجرين السَّابقين.
فما كان من سعد -رضي الله عنه وأرضاه- إلا أنْ أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكلَّمه في أمره سِرًّا دون علانية؛ لأنه كان يرى أن جعيلاً أحقُّ منهم، وراجع وألَحَّ فيه أكثر من مرة، ويُقسم على ذلك ويقول: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فيردُّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أَوْ مُسْلِمًا". ثم أخبره بالحكمة ممَّا فعله فقال: "إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ".
فأرشده النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أمرين: أحدِهما: إخْبارُه بالحكمة في إعطاء أولئك، وحرمانِ جُعَيل، مع كونه أحبَّ إليه مِمَّن أعطَى، لأنه لو ترك إعطاء ضعيفِ الإيمان: لربَّمَا ارتدَّ وانْتكس، فيكون من أهل النار.
ثانيهما: إرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن، وتزكيةِ بواطن الناس، مهما ظهر منهم مِن الصلاح والخير.
قال ابن رجبٍ -رحمه الله-: "والظاهر -والله أعلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- زجر سعدًا عن الشهادة بالإيمان؛ لأن الإيمان باطنٌ في القلب، لا اطِّلاع للعبد عليه، فالشهادة به شهادةٌ على ظن، فلا ينبغي الجزم بذلك كما قال –صلى الله عليه وسلم-: "إن كنت مادحًا لا محالة فقل: أحسب فلانًا كذا، ولا أزكّي على الله أحدًا"، وأمره أن يَشْهدَ بالإسلام؛ لأنه أمرٌ مُطَّلَعٌ عليه.
ولهذا كره أكثر السلف أن يطلق الإنسان على نفسه أنه مؤمن، وقالوا: هو صفةُ مدح، وتزكيةٌ للنفس بما غاب من أعمالها؛ وإنما يشهد لنفسه بالإسلام لظهوره، فأما حديث: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان"؛ فقد خرجه الإمام أحمد وقال: هو حديث منكر". انتهى كلامه -رحمه الله-.
وهذا الحديث -يا عباد الله- فيه من الفوائد والأحكام، ما ينبغي أنْ تعيَه الآذان، وينغرسَ في قلوب الأنام.
ففيه جواز تصرُّفِ الإمام في مال المصالح، وتقديمُ الأهم فالأهم، وإن خفي وجه ذلك على بعض الرعية.
وفيه اسْتحباب الشفاعة لمن يستحقها، وأنْ يُحِبَّ المرءُ لأخيه ما يحب لنفسه، فسعدٌ -رضي الله عنه- لا مصلحة له في شفاعته، إلا حبُّه لأخيه ما يحب لنفسه.
وفيه أن الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان، لقول سعدٍ -رضي الله عنه-: فَسَارَرْتُهُ، فمَن رأى من أحدٍ أمرًا يراه خطأً، فلْيتحيَّنْ خلوته وانْفراده، ولْيُسْدِ إليه النصيحة، فهذا هو الناصح المخلص الصادق، أما المتكبر المعاند، والمُتشفي الحاسد، فهو الذي يُجاهر بالنصيحة، ويُنكر بالعلانية، فهذا للرياء أقرب منه للإخلاص، وللفضيحة أقرب منه للنصيحة.
وفيه ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من النُّصح والشفقة بالناس، وأنه يبذل لهم ويُعطيهم، ويحلم عليهم ويصفح عنهم، لا لأجله، بل لأجلهم هم، خوفًا عيهم من النار، وشفقةً عليهم من غضب الجبار.
نسأل الله أنْ يُحبِّب إلينا الإيمان، وأنْ يُزيِّنه في قلوبنا، وأنْ يُكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأنْ يجعلنا من الراشدين، إنه سميعٌ مجيب.
الحمد لله رب العالمين، أكْرمنا باتِّباع سيِّد المُرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: تأملوا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ".
لقد سمعنا وقرأنا عن فنون التعامل مع الآخرين، وقواعدِ الأخلاق، وأُلِّفت فيها الكتب، ووُضعت لها دوراتٌ ومحاضرات، وكلُّها تدور على شيءٍ واحد، وهو كيف تكسب الآخرين، وكيف تكون محبوبًا مقبولاً، فهل سمعنا في تاريخ الأمم، أو قرأنا في الكتب التي تتكلَّم عن الأخلاق والقيم مثالاً لأحدٍ من الناس يتحمَّل أخطاء العالمين، ويصبر على أذى الجاهلين، ويُعطي أمواله لِمن هم في الباطن أعداؤه، ويسعون لقتله وإعدامه، وليس مقصودُه من ذلك أن يكون محبوبًا لذاته، ولا لأجل أن يكسب قلوبهم فتكون له مُحبَّة، وعنه راضية، بل يفعل ذلك شفقةً وخوفًا عليهم، لا يُبالي بنفسه بقدر ما يُبالي بهم.
يأتي رجلٌ يريد قَتْلَه، ويرفع السيف على رأسه، فيتمكَّن منه بطريقته ويأخذُ سيفه، فأُسْقطَ في يده، فما كان منه إلا أنْ عفا عنه وسامَحَه.
ليس عنده سجونٌ ومعتقلات، أصبح رئيسًا وسيِّدًا على مُعظم القبائل والمدن، وتمكَّن من رقاب المخالفين والمحاربين، أصْحابُه رهْن إشارته، لو أمر أحدهم لَقَطَفَ رأس أبيه وأخيه، فكيف بأعدائه وخصُومِه، ومع كلِّ هذا التَّمْكين والقوَّة لم يشتغل بملاحقتهم والقصاصِ منهم، بل سعى لإصلاحهم ودعوتهم، فعفا ولم يَنتقم، ورحم ولم يَحقد، وسامح ولم يُعاتب، إلا مَن عاند وحارب واسْتكبر، فإنَّ آخر العلاج الكيّ.
بل إنَّ أحدَ الُمْجرمين الفسَّاق، ورأسَ النفاق والشقاق، الذي أظهر الإيمان وأبطن النفاق، وهو الذي ألَّب القبائل عليه، وأَثار في الناس الشكّ في عرضه، وبعد كلِّ هذا يقوم على قبره فيصلِّي عليه ويستغفر له، لماذا؟! لعلّ الله أن يرحمه بصلاته له، لم يدعُ عليه أبدًا، بل دعا له بالرحمة والمغفرة، حتى أمره ربُّه بالكف عن الدعاء للمنافقين.
فهل هناك مدارس ومعاهد، ودوراتٌ وكتب، لتعلِّم الناسَ فنَّ هذا التعامل، وتُخرِّج جيلاً يتعامل بمثل هذا التعامل؟!
نعم، هناك مدرسةٌ واحدٌ في تاريخ البشرية كلِّها، إنها مدرسةُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، مُنشؤها الواحدُ الديَّان، ودستورها القرآن، ومُعلِّمها ومربِّيها محمَّدٌ -عليه الصلاة والسلام-.
هذه المدرسةُ خرَّجت أجيالاً عُظماء، ساروا على هذا النَّهْج القويم، والصراط المستقيم.
فهذا عثمانُ -رضي الله عنه- وهو محصورٌ في بيته، مِن قِبَل الخوارج والأوباش، فدخل عليه الصحابةُ والتابعون -رضي الله عنهم- ليدافعوا عنه ويَحْمُوه، فقال لهم: "أعْزِمُ على مَنْ يرى لنا سمعًا وطاعة، أنْ يَكُفَّ يده وسلاحه، وأَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدَّارِ سَالِمًا مَسْلُومًا مِنْهُ؛ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ يُهَرَاقُ بِسَبَبِي قَطْرةُ دَمٍ".
يَفْدي نفسه لِئلاَّ تُراق قطرة دم واحدة، ونحن نرى اليوم الطواغيتَ والجبابرة، يُفني عشرات الآلاف، ويُشَرِّد الملايين، ليس لأجل أنْ يُنقذ نفسه من الموت، بل لكي لا يتنازل عن مُلكه وسُلْطانه.
وهذا عليُّ بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه- لمَّا امتدَّت إليه يد الغدر والخيانة، فضربه ابنُ ملجم وطعنه، قال لأهله وأولاده: "أطعموه وأسقوه، وأحسنوا إساره؛ فإن عشت فأنا وليُّ دمي، أعفو إن شئت، وإن شئت اسْتقدت، وإن متُّ، وأردتُّم قتله فلا تمثلوا به".
وهذا شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة -رحمه الله- يسْتفتيه السلطانُ في قتل بعض القضاة الذين سعوا في قتله، وتسببوا في سجنه وتعذيبه، فأخذ الشيخ في تعظيم القضاةِ والعلماء، وينكرُ أنْ ينال أحدًا منهم بسوء، وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم. فقال له: إنهم قد آذوك، وأرادوا قتْلَك مرارًا، فقال الشيخُ -واسْمعوا أيها المتقاطعون، اسْمع يا مَن قطعت أخاك أو أحد أصدقائك-، قال الشيخُ: "من آذاني فهو في حِلٍّ، ومن آذى الله ورسوله فاللهُ ينتقمُ منه، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتى حلم عنهم وصفح".
وكان قاضي المالكية ابنُ مخلوف -وهو الذي سعى عليه، وتسبب في سجنه وضربِه- يقول: "ما رأينا مثل ابنِ تَيْميَّةَ، حرَّضْنا عليه، فلم نَقْدر عليه، وقدر علينا، فصفح عنا وحاجَجَ عنا".
نعم -أيها المسلمون- هذه هي المدرسةُ الحقيقية، والحاضنةُ التربوية، هي مَن أنقذت البشرية، وقادت للسعادة السرمدية، والحياةِ الكريمة الآمنة.
فانضمُّوا تحت لوائها، وتمسَّكوا بجميع شرائعها، واعرفوا نعمةَ الله عليكم بانتْمائكم لها.
نسأله الله أنْ يُميتنا على الإسلام، وأنْ يحشرنا مع زمرةِ أهل الإيمان، إنه جوادٌ كريم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي