تنبيه الأشراف بالسلامة من دنس الإسراف

عائض ناهض الغامدي

عناصر الخطبة

  1. يسر الإسلام بإباحة المباحات والزينة
  2. تنظيم الشرع للإباحة وتحديدها
  3. مفهوم الإسراف
  4. خطورته
  5. أنواعه
  6. عواقبه
  7. أقسامه
  8. آثاره الاجتماعية
  9. المنهج الإسلامي في معالجته

عباد الله: إن دين الإسلام العظيم، دين اليسر، ورفع الحرج، والسعة، والسعادة؛ ومن محاسن الإسلام إباحة المباحات والزينة؛ ليلبي داعي الفطرة عند الإنسان. 

ولكن هذه الإباحة نظَّمَها الشرع المطهر، وبين حدودها لتكون وفق منهج القَصد، لأن تجاوز الحد المشروع في المباحات يدخل الإنسان في دائرة الإسراف والتبذير .

و(الإسراف والتبذير) من الأمراض الاجتماعية والاقتصادية التي تهدد الأمم والشعوب بالوقوع في الترف والبذخ، والأشر والبطر، ومن ثم تعرضها للهلاك العام والعاجل، ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء:16].

والإسراف هو تجاوز الحدّ في كلّ فعل يفعله الإنسان أو قول، ويشمل ذلك الوقوع في المعاصي والمكروهات، وتجاوز القصد في المباحات، قال الرب الحكيم: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف:31].

وهذا نهيٌ شديدٌ، وذمٌّ لِمَن أسرف في الزينة والأكل والشرب، ويُلحَق بها جميع المباحات، فيجب على المسلم الاقتصادُ والحذرُ من السَّرَف، قال الله تعالى: ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام:141]. فمن ذا الذي يريد أن لا يحبه الله؟!.

قال بعض المفسرين: نهى اللهُ عن الإسراف في زكاة الزرع وهو تجاوز المشروع حتى لا يضر عائلته، فهذا نهي عن تجاوز الحد في الزكاة وهي واجبة ومن أعمال البر. فكيف بمن يتجاوز الحد في المباحات والكماليات، بل كيف بمن يقع في المعاصي؟!!

فالإسراف له خطورة كبيرة؛ لأن الله قد وصف به أشد أعدائه عداوة له، فقال عن عدوه فرعون: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ [يونس:83]. وقال الله واصفا قوم لوط بالمسرفين: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ(81)﴾ [الأعراف:80-81 ].

فيا أيها المسلمون: استجيبوا لله حيث قال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [الشعراء:150-151].

ولما كان الإسراف جرما كبيرا، وانحرافا خطيرا، بين الله لنا في القرآن الكريم أنواعه؛ لنحذرها، ونبتعد عنها، ونُحَذِّرَ منها.

فللإسراف له أنواعٌ متعددةٌ ذكرها الله في كتابه منها:

1- الإسراف في المباحات من مأكول ومشروب وملبوس وغيرها، ﴿يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف:31].

2- الإسراف في المعاصي : ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر:53].

3- الإسراف في استيفاء الحقوق والقصاص، وتجاوز العدل وحدود ما شرع الله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ [الإسراء:33]. والإسراف في القتل: أن يقتل وليّ الدّم غير القاتل، أو يتعدّاه إلى من هو أشرف منه، حسبما كانت الجاهليّة تفعله.

4 – أكلُ أموالَ الناسِ بالباطلِ إسرافٌ حرَّمه الله، قال الله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا﴾ [النساء:6].

5- من أنواع الإسراف، الإسراف في الطغيان والبغي والظلم، كما أخبر الله عن إمام المسرفين بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ(31)﴾ [الدخان:30-31]، وقال تعالى: ﴿فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ [يونس:83].

6- استبدال ما أحله الله من حلال بما حرمه الله، فقد وصف الله سلف المسرفين من قوم لوط بقوله: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ(81)﴾ [الأعراف:80-81]

7 – قد جعل الله الإسراف قرين الكفر، كما في قوله تعالى : ﴿كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ [المائدة:32].

لقد حذرنا الله من الإسراف عموما ببيان عواقبه المهلكة؛ لنبتعد عن الإسراف فنسلم ونغنم، ومن ذلك:

1 – إن الله لا يهدي من أسرف على نفسه بالمعاصي والكفر 🙁 إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر:28]. بل يضله بعدله: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ [غافر:34]؛ لأنه مرتاب فيما عند الله، وزاهد في فضله.

2- الهلاك للمسرفين: قال الله تعالى عن رسله: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنبياء:9]. فهذا جزاء المسرفين الذي وعدهم الله به على قبائحهم، كما فعل الله بالمسرفين السابقين من أهل الخبائث: ( قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) [الذاريات:31 – 34].

3 – المسرفون أصحاب النار، كما في قول الله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر:43]. أي : الذين تعدّوا حدود اللّه.

4 – إن المبذر أخو الشيطان: ﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(27)﴾ [الإسراء:26-27].

فربّ منفق درهما من ألوف وهو في إنفاقه مسرف، وببذله مفسد ظالم، كمن أعطى فاجرة درهما، أو اشترى خمرا أو دخانا.

وربّ منفق ألوفا لا يملك غيرها هو فيها مقتصد، وببذلها مجتهد، كما روي في شأن الصّدّيق أبي بكر-رضي اللّه عنه- وقد قيل لبعضهم: متى يكون بذل القليل إسرافا والكثير اقتصادا؟ قال: إذا كان بذل القليل في باطل والكثير في حقّ.

5 – العيشة الضنك للمسرف: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى…﴾، ثم بين الله بعد ذلك أن هذا بسبب الإسراف: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ [طه:124- 127].

6 – من مضار الإسراف: النّدم والحسرة على ما ضاع من غير فائدة. ويطبع المجتمع بطابع الانحلال والبعد عن الجدّ والإجتهاد، فيدع المجتمع عالة على غيره، عاجزا عن القيام بمهامّه. قال معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-: ما رأيت سَرَفَاً قطّ إلا وإلى جانبه حق مضيَّع.

7 – الإسراف يعمي عن الحق، ويصد عن قبوله، ويزين الباطل، ويمكن له في قلوب المسرفين، كما في قول الله : ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [يونس:12].

الخطبة الثانية:

إن المتتبع للكتاب والسنة يجد أن هناك أقساماً للإسراف يجب علينا الحذر منها وتجنبها، منها:

الأول : الإسراف في الشر: والشر هنا كلمة جامعة لكل الخصال المذمومة، سواء في مجال العقائد أو العبادات أو المعاملات أو الأخلاق والسلوك أو غير ذلك، فمن باشَر شيئا منها فهو مسرف على نفسه .

وعلى هذا : فالشرك والكفر والإلحاد والزندقة والنفاق إسراف، وكبائر الذنوب من قتل النفس والزنا والربا والسرقة والكذب والغش ونحو ذلك كلها إسراف.

ومثله ترك الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين وصلة الرحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل ذلك إسراف. وهكذا الصغائر هي من الإسراف أيضا، ويلحق بها المكروهات .

الثاني: الإسراف في المباحات: وهذا لا يسلم منه أحد في هذا الزمان! مثل الإسراف في الأكل والشرب والملابس والسكن والمركب والكلام والنوم واستعمال الكهرباء ووسائل الاتصالات كالهاتف النقال واستعمال الماء في الاستحمام والغسيل وغيرها.

وأما الإسراف في الكماليات فحدث ولا حرج! قَالَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم -: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِى غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ" أحمد والنسائي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ.

فالحذَرُ من تجاوز الحد في المباحات أمرٌ واجب، ولزوم الاقتصاد والسلامة من الإسراف منهجٌ نبويٌّ رشيد حكيم؛ لا سلامةَ مِن السفاهة وصفاتِ السفهاء إلا بالتمسك بهذا الهدي النبوي، ولا نجاة لنا من كل صفة مذمومة، وفعلٍ قبيح، وعاقبة مهينة، إلا بالعض على هذا المنهج بالنواجذ.

فقد نهى الرسول عن الإسراف في الوضوء وهو عبادة واجبة، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: "مَا هَذَا السَّرَفُ؟ فَقَالَ: أَفِى الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟" قَالَ: "نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ" أحمد وابن ماجة.

عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ؟ فَأَرَاهُ الْوُضُوءَ ثَلاَثًا ثَلاَثًا. ثُمَّ قَالَ: "هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ" رواه النسائي. فالذي زاد على الثالثة في الوضوء اتصف بالإساءة والتعدي والظلم، فبماذا يوصف الذي يزيد في الأمور المباحة، والكماليات؟!

عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى خَطِيئَتِى وَجَهْلِى وَإِسْرَافِى فِى أَمْرِى، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى هَزْلِى وَجِدِّى وَخَطَاىَ وَعَمْدِى، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِى".

وكان يقول: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّ،ى أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَالْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ".

عباد الله : تأملوا في قول الرسول " اغْفِرْ لِي َإِسْرَافِي فِي أَمْرِي "! سبحان الله! الرسول الكامل في جميع أعماله وأفعاله وأقواله وأخلاقه يستغفر من إسرافه! فكيف بنا نحن؟! وأنتم تعلمون ما نقع فيه من إسراف، وما نتحمله ونحمله من أنواع الإسراف! فهل من توبة نصوح، وأوبة صادقة إلى الله؟.

ما أحوجنا وأحوج أمتنا اليوم أن تعج إلى الله منيبة تائبة، ليرضى عنها، ويرفع عنها ما هي فيه من الذلة، والمهانة، والخيبة، والتبعية لأعدائها؛ لأن التوبة من الإسراف مما يجب علينا وعلى الأمة جمعا، فالإسراف نذير شؤم، ومؤذن هلاك؛ فهو يفضي إلى الفاقة، وينزل بأهله إلى طبقة المقلين أو المعدمين.

والإسراف في الترف والتوسع في زينة الدنيا ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة من نحو الجبن، والجور، وقلة الأمانة، والإمساك عن البذل في وجوه الخير، وغيرها.

إن أمة تنفق الملايين في الشهر على الدخان، وتنفق مثلها على المحرمات، وتنفق أمثال ذلك كله على الكماليات التي تُنقص الحياة ولا تزيد فيها، ثم تدَّعي الفقر أو عدم القدرة إذا دعاها داعي العلم والإيمان لما يحييها لَأُمَّةٌ عاصية لله، سفيهةٌ في تصرفاتها.

فيا عباد الله: توبوا إلى الله واتقوه، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [التحريم:8]، واعلموا ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة:222]، و﴿مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان:70] و﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه:82]، و"التائبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنبَ لَهُ".

ولا يعني التحذير من الإسراف في الترفه والتوسع في المباحات أن يكون الناس على سنة واحدة من الإعراض عن الزينة والملاذِّ؛ فقد قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: 32]؛ وإنما المقصود من ذلك الدعوةُ إلى أخذ النفوس بالاقتصاد، وحمايتها من الإفراط في الزينة والتوسع المذموم في المباحات.

ولهذا سلكت هداية القرآن الكريم بالناس هذا الطريق القويم، وهو طريق الاقتصاد؛ فبعد أن أمر في آيات كثيرة بالإنفاق في وجوه الخير نهى عن الإسراف نهياً بالغاً، فقال-تعالى-: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً﴾ [الإسراء:29].

وألحق المبذرين بقبيل الشياطين فقال -تعالى-: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء:27]، وعدهم في زمرة مَن يستحقون بغضه فقال -عز وجل-: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف:31].

وأثنى على عباده المؤمنين بفضيلة الاقتصاد فقال: ﴿والَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ [ الفرقان:67]. فأولياء الله منهجهم حسنة بين سيئتين، حسنة القصد بين سيئتي الإسراف والبخل.

 


تم تحميل المحتوى من موقع