فإنّ الوليّ -يا عبد الله- هو كُلُّ مؤمنٍ تقيّ؛ فإنّ الله -عزّ وجلّ وعلا- لم يترُكْ وصْفَ الأولياء مُهْملاً؛ بل قال -سبحانه-: (إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)؛ ثمّ فسّر ذلك، وبيّن وشرح وجلّى؛ فقال -جلّ وعلا-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ). ومِن ها هُنا ..
إنّ الحمدَ لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا، ومن سيّئاتِ أعمالنا، مَن يهدِهِ اللهُ فلا مُضلّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله -وحده لا شريكَ له-، وأشهدُ أنّ محمّدًا عبده ورسوله.
أمّا بعد: فإنّ أصدق الحديث كلام الله -عزّ وجلّ وعلا-، وخيرَ الهدي هديُ محمّدٍ -صلّى اللهُ عليه وعلى آله وسلّم-، وشرَّ الأمورِِ محدثاتها، وكُلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكُلَّ بدعةٍ ضلالة، وكُلَّ ضلالةٍ في النّار.
أمّا بعد: فإنّ الله -سبحانه وتعالى- يقول: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد: 19].
ويقول -سبحانه وتعالى- أيضًا: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [الإسراء: 23]، ويقول -عزّ وجلّ وعلا- أيضًا: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5]، ويقول -سبحانه وتعالى-: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر: 3].
ولكنّه -مع الأسف الشّديد- قد انحرف ناسٌ من المُنتسبين لهذا الدّين عن هذا الطريق المستقيم المُبين؛ فخالفُوا هَدْيَ المُرسَلين والمُوحِّدين، ووقعوا في الشّرك باللهِ ربّ العالمين؛ فتراهم يتعلّقون بالأولياء، وينذرون لهم النّذور، ويطوفون حولَ أضرحتهم والقُبور، وتراهم يعتقدون فيهم العقائدَ المُنحرفة، ويصرِفون لهم أنواعَ العباداتِ المختلفة.
فمِنْ قائلٍ بإسقاط التكاليف عنهم، إلى قائلٍ بأنواعٍ من الكرامات الخياليّة، إلى غير ذلك من كل بليّةٍ ورزيّة، فكان حقًّا على أهل السّنّة وأصحاب التّوحيد أنْ يُدافعوا عن هذا الدّين التّليد، وأنْ يُبيّنوا للنّاس منهجَ ربّهم، وطريقَ صِدقهم.
فإنّ الأولياء حقّ، ولا يُنكرُ ذلك إلاّ مَن جادل في ثبوت الصّدق؛ يقول ربُّنا -سبحانه وتعالى-: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس: 62، 63].
ولكنّ البحث كُلّهُ والشّأنَ كلّهُ مُنْصَبٌّ على معرفة الوليّ من غيره، ومُنْصَبٌّ على معرفة ما ينبغي له ممّا لا يجوز صرفُه له وإليه.
فإنّ الوليّ -يا عبد الله-: هو كُلُّ مؤمنٍ تقيّ؛ فإنّ الله -عزّ وجلّ وعلا- لم يترُكْ وصْفَ الأولياء مُهْملاً؛ بل قال -سبحانه-: (إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس: 62]؛ ثمّ فسّر ذلك، وبيّن وشرح وجلّى؛ فقال -جلّ وعلا-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس: 63].
ومِن ها هُنا قال مَن قال من أهل العلم: "كُلُّ مؤمنٍ تقيٌّ فهو لله وليّ"؛ فإنّ الإنسانَ بحسبِ ما عنده من تقوًى وإيمانٍ؛ يكون عنده من ولاية الرّحمن؛ فكلّما زاد إيمانه وزادت تقواه؛ كلّما زادت ولايته وتولّي ربِّنا إيّاه.
فمَنْ ضَعُفَ إيمانه؛ كان في أضعف أماكِن الوِلاية، ومَن زاد إيمانُه زادت ولاية الله له؛ بحسب زيادة إيمانه.
فإنّ الوِلاية -أو الوَلاية بكسر الواو وفتحها؛ وكلاهما لغتان-: هي المحبّة والنُّصرة؛ فلذلك كان معنى نهي الله -سبحانه وتعالى- عن تولّي المؤمنين للمشركين -كان معناه- النّهي عن محبّتهم لدينهم، ونصرتهم في ذلك وعلى ذلك.
وكان معنى قول الله -سبحانه وتعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71]؛ أي: يُحبُّ بعضُهم بعضًا، وينصرُ بعضُهم بعضًا.
وكذلك وليّ الله -سبحانه-؛ فهو الّذي يُحبُّ اللهَ -جَلّ في عُلاه وعَظُمَ في عالي سَماه-، وينتصرُ لشريعة مولاه؛ بإقامة شرع الله؛ فرائضه ونوافله.
فلقد جاء في صحيح الإمام البخاريّ 6137 -في الحديث الصّحيح لغيره- أنّ رسولَ الله -صلّى اللهُ عليه وعلى آله وسلّم- قال: "إنّ اللهَ -تعالى- يقول: من عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيءٍ أحبُّ إليّ ممّا افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرّبُ إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه؛ فإذا أحببته كنت سمعَه الّذي يسمعُ به، وبصرَه الّذي يُبصر به، ويده الّتي يبطِشُ بها، ورِجلَه الّتي يمشي بها، وإن سألني لأُعطينّه، ولئن استعاذني لأُعيذنّه، وما تردّدتُ عن شيءٍ أنا فاعله تردُّدي عن نفس المؤمن؛ يكرَهُ الموتَ، وأنا أكرهُ مساءته".
فلقد رسم لنا رسولُ اللهِ -صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم- طريقَ الولاية بكل معالمه؛ ولم يُبقِ -بعدُ- شيئًا مخفيًّا.
فإنّما تُنالُ الولاية بإتيان الفرائض والإكثار من النّوافل؛ حتّى تنالَ حُبّ الله -سبحانه وتعالى-؛ فإذا أحبّك اللهُ تولاّك، ونصرك، وكان لك ومعك سندًا ونصيرًا.
أمّا أن تزعمَ أنّك تُحبّ اللهَ -سبحانه-، وتدّعي اعتصارَ القلبِ ونبضَ العروقِ بذلك؛ بدون أن يُوافقه العمل؛ فاسمع إلى ما قاله الحسن البصريّ -رحمه الله-؛ قال: "ليس الإيمانُ بالتّمنّي، ولا بالتّحلّي؛ ولكنّه ما وَقَرَ في القلبِ، وصدّقه العمل"؛ وقد وَرَدَ هذا اللّفظُ مرفوعًا إلى النّبيّ -صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم-؛ ولكنّ رفعَه لا يصحّ.
قال الله -سبحانه وتعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران: 31].
فليست المسألةُ أن تزعم أنّك تحبُّ اللهَ -سُبحانه-؛ فهذا يزعمه كلّ أحدٍ وأيُّ أحد؛ كما قال -سبحانه-: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة: 18]، ولكنّ المسألةَ والشّأنَ كلَّهُ أن يُحبّك اللهُ؛ فمن أحبّه اللهُ فذلك هو الموفّق، وذلك هو الوليّ السّعيد.
فكيف تحصل على نُصرة الله؟! وعلى محبّة الله؟! وعلى رضاه؟!
ذلك ما بيّنه المُصطفى -صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم- في الحديث الآنف ذكره؛ بإتيان الفرائض، والإكثار من النّوافل.
فإنّ الولاية -كما سبق-: هي المحبّة والنُّصرة، وربُّنا -عزّ وجلّ وعلا- ليس بحاجتنا أن ننصره؛ وإنّما إن نصرنا فإنّنا ننصُرُ أنفسنا؛ كما قال -سُبحانه-: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) [الإسراء: 7]؛ فمَن نصر شرع الله، ونصر نفسه باستقامته على الشّرع، ونصر ملّته في الرّباطِ والجهاد، ونصر أهلَ ملّته بالذّبّ عنهم وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المُنكر؛ وبابُ ذلك كُلِّه: إتيان الفرائض، واجتناب المحارم والنّواهي، والإكثار من النّوافل؛ فهو حقيقٌ أن ينصره الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنّ الله -عزّ وجلّ وعلا- يقول: (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7]؛ فكأن معنى هذه الآية: إن تتولّوا اللهَ في اتّباع شرعه يتولّكم بنُصرته وتأييده وتثبيته.
فنسألُ اللهَ -سبحانه- أن يمُنّ علينا وعلى المسلمين باتّباع شرعه الحكيم المُبين، وأن يُيسّر لنا أن نأتي الفرائض، ونجتنب المحرّمات والنّواقض، وأن نُكثر من النّوافل والطّاعات، وأنواع العبادات والقُربات.
فإن هذا هو سبيل الولاية، وهو طريق العزّة، وهو أوّل البداية؛ فنسألُ اللهَ لنا ولكم ذلك.
والحمد لله رب العالمين.
الخطبةُ الثّانيةُ:
الحمدُ للهِ رب العالمين، والصّلاةُ والسّلام على محمّدٍ، وعلى آله وأزواجه وصحبه أجمعين.
أمّا بعد:
فإنّ ناسًا من المتهوّكين -في شرق الدّنيا وفي غربها- يزعمون للأولياء ما لا يجوز أن يُصرف إلاّ لله ربّ العالمين، حتّى قالت الشّيعةُ الشّنيعة: "إنّ لأئمّتنا الاثني عشر ولايةً تكوينيّةً على كُلِّ ذرّةٍ من ذرّات هذا الكون"؛ فيزعمون أنّ أولياءهم أربابٌ من دون الله؛ يُكوّنون هذا الكون بذرّاته وأشيائه.
بل ما من ذرّة في الدّنيا إلاّ ولأوليائهم المزعومين -الّذين هم أوّل المتبرّئين منهم ومن كفرهم وطُغيانهم- ولايةُ تكوينٍ وخلقٍ وتصريفٍ فيها. وهذا -واللهِ العظيم- هو الكُفر المبين، والشّرك المُستبين.
وقال الصّوفيّة:
مقـامُ الـولايةِ في بـرزخٍ *** فُـوَيْقَ الـنّبيِّ ودون الإلـه
ومعنى ذلك: أنّ الوليّ -عندهم- مُفضَّلٌ على النّبيّ؛ فإنّ البرزخ: هو الفاصل؛ كما في قوله -سُبحانه-: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 100]؛ يعني: فاصلٌ؛ يفصل بين هذه الحياة الدّنيا، وبين الحياة الآخرة؛ وهو مرحلة القبر. مقامُ الوليّ في برزخٍ؛ يعني: في مكانٍ فاصلٍ؛ فوق النّبيّ، ودون الإله!
وحسبُك بهذا القولِ ضلالاً، وحسبك به كُفرًا وبُهتانًا وإضلالاً؛ أن يزعُمَ شخصٌ من النّاس أنّ آخَرَ من النّاس أيضًا له مكانةٌ فوق الأنبياء؛ وهو ليس منهم.
بل هذا الوليّ المزعوم مُقَارَنٌ -عندهم- بالإله؛ فهو دونه بقليلٍ، فلذلك زعم هؤلاء أنّ الوليّ قد سقطت عنه التّكاليف، وأنّه لا يُصلّي ولا يصوم؛ لأنه قد بلغ مرحلة الكشف، وبلغ إلى مرحلة الوصول.
ومَنْ تعدّى ذلك -منهم- فإنّه يزعمُ أنّ الوليّ يكونُ حاضرًا بيننا بجسده، ويُصلّي في المسجد الحرام بروحه! ويذكُرون ويُكثرون في ذلك من الأكاذيب والكرامات المزعومة ما الله به عليم!
نعم، نحن لا ننكر الكرامات الحقّة، ولا نجادل فيها؛ فهي حقٌّ وشرع، وإثباتها هو السّنّة، ولكن كراماتُ مَن؟! وأيّ كرامات؟! إنّها كراماتُ الأولياء الصّالحين؛ لا الأولياء الطّالحين، والكرامات الصّادقة الحقّة؛ لا الكرامات المُنكرات الملّفقة.
فهل من الكرامات أن يبدُوَ الرّجل عاريًا في الطّرقات؟! وهل من الكرامات أن تُؤتى البهائم كما تُؤتى الحرائر؟! وهل من الكرامات أن يبُول الشّيخُ على المريدين؛ ليحوزوا البركة والكشفَ والولايةَ والوصول؟! هل هذا من الكرامات -أيّها العقلاء-؟!
والله لا يقول ذلك، ولا يفعل ذلك إلاّ مجنونٌ أو زنديق! فلا بُدّ إذًا من معرفة حقّ البشر وما يجوزُ أن يُصرفَ لهم، ومعرفة حقّ خالقهم؛ فلا يُصرف لغير الله نذر، ولا يُطافُ بقبرٍ، ولا يُخشى وليٌّ، ولا يُطلب منه المدد.
فإنّ الله -عزّ وجلّ وعلا- يقول: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) [الجن: 18]؛ أي: إنّ المساجد والصّلوات والمناسك والعبادات تُصرف لله فقط؛ كما في قوله -سُبحانه-: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162، 163].
وأُصلّي وأُسلّمُ على خاتَم المُرسلين، وشامة النّبيّين؛ محمّدٍ -صلّى الله عليه وسلّم-، وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي