لقد انشغل كثير من الناس بهذه الأمور تحت تأثير الإعلام الذي في الغالب يسوّق الوهم، ويزين الباطل، ويشجع على التهتك، في الوقت الذي تعم فيه الفتن والمحن ربوع بلاد المسلمين، في الوقت الذي يقتل فيه المسلمون في بورما وسوريا، في الوقت الذي تغتصب فيه العراق ويقتل فيها أهل السنة، في الوقت الذي يحارب فيه الإسلام بشتى الصور، ويُعتدَى فيه على نبي الأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ في مثل هذا الوقت نجد كثيرًا من المسلمين منهمكين في ..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أزكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: نواصل الحديث عن القصة الأزلية الضاربة في القدم والتي لا تنتهي إلا بانتهاء الدنيا، قصة الإضلال والإغواء والصد التي يمارسها الشيطان على ذرية آدم منذ أن منعه الكبر والحسد عن السجود للأب بدعوى الخيرية والأفضلية: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) [ص:76].
ومنذ أن توعّد اللعين بين يدي رب العالمين وأظهر استعداده للإغواء والإضلال بعد أن رأى صور التكريم لآدم -عليه السلام-: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء:62]، منذ ذلك العهد واللعين ينصب المهالك ويفتن ويغوي ويصد عن سبيل الله.
والعجيب -أيها الأحباب- أن الله ذكر لنا في كتابه خطاب التهديد والاستكبار، وذكر لنا خطاب النهاية والانهيار، فمن مشهد التهديد الشيطاني المتمثل في قوله: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء:62]، ينقلنا القرآن إلى مشهد النهاية وخطاب الانكسار والانهزام: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم:22].
والعجيب أنه -مع معرفتنا للموقفين، وقراءتنا في القرآن للمشهدين- لا تزال الغفلة هي السمة لحياتنا، ولا يزال الإعراض هو شعارنا، إلا من رحم الله وسلّم.
وهذه الحال يعبر عنها القرآن بأبلغ كلام وأصدق بيان: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء: 1-3].
ليس هناك أخطر من القلب إذا لها، لهْو القلب من أخطر الأدواء التي يمكن أن يصاب العبد بها؛ لأن القلب إذا لها صعب عليه الرجوع، ولا يلهو القلب إلا إذا خلا من الذكر، وتلكم غاية الشيطان، ومراده: الصد عن ذكر الله.
ولقد توعّد الخسيس -لعنه الله- ذرية ابن آدم بالإضلال فقال: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ)، يعني آدم، (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء:62]، قال أبو جعفر: "أكثر أهل اللغة على أن المعنى لأستولينّ عليهم، ولأستأصلنهم، من قولهم: احتنك الجراد الزرع إذا ذهب به كله. وقيل: هو من قولهم: حنك الدابة يحنكها به إذا ربط حبلاً في حنكها الأسفل وساقها، حكى ذلك ابن السكيت".
إذًا؛ فهي حرب قائمة، أسلحتها متنوعة خطيرة، ولا يواجهها العبد إلا بالالتجاء إلى الله والاعتصام بحبله، والمداومة على ذكره.
وكنّا تكلمنا في الخطبة الماضية عن بعض وسائل الشيطان في الصد عن ذكر الرحمن والمتمثلة في الخمر والميسر، ونواصل مستعينين بالله فنقول: إن وسائل الشيطان -لعنه الله- متنوعة، وأسلحته فتاكة قاتلة، إلا من اعتصم بالله، وسنواصل الحديث عن بعض وسائله -لعنه الله- في الصد عن سبيل الله وعن ذكره -جل في علاه-.
قال -تعالى- بعد أن نقل إلينا مشهد عناد إبليس وامتناعه عن السجود وتهديده لبني آدم، قال: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) [الإسراء:64].
قال الإمام القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: "قوله -تعالى-: (وَاسْتَفْزِزْ) أي: أي استزل واستخف. وأصله القطع، ومنه تفزز الثوب إذا انقطع. والمعنى: استزله بقطعك إياه عن الحق. واستفزه الخوف أي استخفه. وقعد مستفزًا أي غير مطمئن".
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ). نقل الإمام السيوطي -رحمه الله- في تفسيره المسمى: "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ)، أي: "استنزل من استطعت منهم بالغناء والمزامير واللهو الباطل".
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "صوته -يعني صوت الشيطان- كل داعٍ دعا إلى معصية الله". وهذا أعم وأشمل.
إذًا؛ فكل داعٍ دعا، وكل أمر صرف عن الله وعن ذكر الله وعن مجالس الخير وعن مدارسة القرآن وعن فعل الخيرات، فهو من صوت الشيطان، فيدخل في ذلك الغناء واللهو والمزامير دخولاً أوليًّا.
ونريد هنا أن نأخذ من واقعنا المعيش صورًا تضع الحق أمام طالبيه، أليس ما انتشر في دنيانا من المعازف والسهرات والقنوات والرقص والمسابقات الغنائية، أليس كل ذلك مما أشغل الناس وصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وأوقعهم في المخالفات الشرعية؟! بلى ورب الكعبة!
لقد انشغل كثير من الناس بهذه الأمور تحت تأثير الإعلام الذي في الغالب يسوّق الوهم، ويزين الباطل، ويشجع على التهتك، في الوقت الذي تعم فيه الفتن والمحن ربوع بلاد المسلمين، في الوقت الذي يقتل فيه المسلمون في بورما وسوريا، في الوقت الذي تغتصب فيه العراق ويقتل فيها أهل السنة، في الوقت الذي يحارب فيه الإسلام بشتى الصور، ويُعتدَى فيه على نبي الأمة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ في مثل هذا الوقت نجد كثيرًا من المسلمين منهمكين في قنوات الغناء والرقص يضيعون الأوقات، ويسهرون الليالي بلا ذكر ولا صلاة!
ولقد كثرت البلوى في هذا الزمان، فكثرت هذه البرامج التي يقول عنها أصحابها زورًا وبهتانًا: إنها تبحث عن المواهب! فيجتمع الشباب والنساء أمام لجنة ليرفعوا أصواتهم، مع ما يصاحب ذلك من عري وتمايل ونظرات، ثم بعد ذلك تعطى الملاحظات، وتضيع اللحظات.
وفي ذلك الوقت يكون الملايين من المسلمين أمام الشاشات يتابعون ويتأثرون؛ بل ويطلب منهم أن يصوتوا لمرشحهم الذي يمثل بلدهم، وهم يظنون أنهم على شيء، وهم بذلك قد أعرضوا عن ذكر الرحمن، ووافقوا هوى الشيطان، قال -تعالى-: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) [الزخرف:36-39].
قال الإمام الثعلبي -رحمه الله- في تفسيره المسمى "الكشف والبيان في تفسير القرآن": "(وَمَن يَعْشُ) أي: يعرض، ونقل في تفسيره عن الخليل بن أحمد قوله: "أصل العشا النظر ببصر ضعيف، وأنشد في معناه:
متى تَأْتِهِ تَعْشُو إلى ضوءِ نَارِهِ *** تجِدْ خيرَ نارٍ عندَها خَيْرُ مُوقِدِ
(نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا)، أي: نضمه إليه، ونسلّطه عليه، فهو له قرين فلا يفارقه". انتهى كلامه -رحمه الله-.
وهذا عذاب -عياذًا بالله- أن يسلط على العبد شيطان يرافقه في حله وترحاله وفي نومه وصحوه، فكيف تستقيم حياته؟! وكيف يتبين الحق من الباطل؟! لذلك تجدهم يدافعون عن هذه البرامج بدعوى الإبداع، وبدعوى الموهبة، وبدعوى الإحساس، وبدعوى أنهم يقدمون رسالة هادفة.
ولقد بحثت حتى أضناني البحث عن هذه الرسالة التي يقدّمون فلم أجد إلا أنها رسالة الإغواء والإضلال والصد عن ذكر الله.
وقولوا لي بربكم: ماذا قدم الغناء والمغنون لهذه الأمة من خير؟! هل كانوا سببًا في عزة؟! هل عرّفوا الناس بربهم؟! هل نصروا المستضعفين؟!
وإذا كان للباطل صوت ينادي ويزين ويدعو ويغوي ويضل؛ فإن المؤمن الصادق لن يستمع إلا لصوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولنداء رسول الله، ولبيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو أحسن مرشد، وأصدق مبين، وأشفق ناصح.
عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قذف ومسخ وخسف"، قيل: يا رسول الله: ومتى ذلك؟! قال: "إذا ظهرت المعازف، وكثرت القيان –يعني المغنيات-، وشُربت الخمور". أخرجه الترمذي.
هذا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والحق ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولن نترك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إرضاءً لأحد.
جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّرَ فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي اختص أقوامًا بخدمته، وطهّر قلوبهم فجعلها طائعة لأمره، يرون الحق فيسلمون لنصاعته، ويرون الباطل فيفرون منه لفظاعته.
والصلاة والسلام على أكرم الخلق، وإمام الحق، سيدنا محمد صلى الله عليه، الذي قال له ربه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الشورى:52]، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نزلوا عند أمره حتى فازوا برضاه وقربه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم وعيده ووعده.
معاشر الصالحين: قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "ومِن مكائد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قلَّ نصيبه من العلم والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكرًا منه وغرورًا، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجورًا". انتهى كلامه -رحمه الله-.
نقول لهذا العاكف على الغناء وبرامجه وسهراته: ما نصيبك من القرآن؟! ما هو وردك من القرآن حفظًا وقراءة وتدبرًا؟! ما نصيبك من صلاة الفجر؟! أين أنت من مجالس الذكر؟! أين تأثرك وبكاؤك عند قراءة القرآن؟!
يقول ابن نصر المروزي في كتابه "تعظيم قدر الصلاة": "إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع، وإن الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع". انتهى كلامه. فجعل الغناء والذكر نقيضين لا يلتقيان ولا يجتمعان.
وإن من أعظم المصائب -أيها الكرام- استمراء المخالفات والاعتياد عليها، حتى يظن أنها حق لا باطل فيه، وإذا ما قام أحد ينادي بالحق يوصف بأنه شاذ في فكره، أو متطرف في سلوكه، أو متشدد في منهجه؛ وهذه فتنة.
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويتخذها الناس سُنة؟! فإذا غيرت قالوا: غيرت السنة! قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟! قال: إذا كثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتُفُقّه لغير الدين". رواه الدارمي والحاكم.
إذًا؛ فإن المعازف والغناء والملاهي والعكوف على ذلك من وسائل الشيطان في الصد عن ذكر الرحمن، فلا تغتر -يا عبد الله- بتزيين المزينين، ولا بدعوة المبطلين؛ وإذا أردت الحق فاطلبه في كتاب رب العالمين، وفي سنة سيد المرسلين، وفي كلام العلماء الربانيين الصادقين.
واعلم -رحمك الله- بأن زماننا كثير المزالق، متعدد المهاوي، لا يثبت فيه إلا من اعتصم بالله ولجأ إلى ذكره -جل في علاه-.
ويلحق بوسائل الشيطان في الصد عن ذكر الرحمن ما عمّت به البلوى في زمننا من الانشغال بالكرة، ومتابعة مبارياتها، وما نتج عن ذلك من العداوات والمخاصمات والمشاحنات، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، حتى وقع عين ما قال الله في الخمر والميسر: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة: 91].
فلقد تسببت المباريات في الكثير من العداوات بين أنصار هذا الفريق أو ذاك حتى بلغ الأمر إلى الاقتتال، وإزهاق الأنفس والسباب والشتم بأقبح الألفاظ، وشغل الناس عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا معروف واضح لا يحتاج إلى دليل، ولله در القائل:
وليس يصحُّ في الأذهانِ شَيءٌ *** إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ
ألستم ترون المقاهي مملوءة عند متابعة المباريات، وخصوصًا مباراة الفريقين الإسبانيين، والمنادي ينادي للصلاة ولا مجيب؟! والصياح والسب والصراخ والمراهنة، أليس ذلك من عمل الشيطان؟! بلى ورب الكعبة هو من عمل الشيطان ومكره وإغوائه! فهل نحن منتهون؟!
هل ننتهي يا عباد الله؟! هل نذكر أن أمامنا يومًا تشيب من هوله الولدان، هل نذكر أن لنا رقدة في القبور لا نقوم منها إلا يوم ينفخ في الصور؟! هل نذكر أن أمامنا موتًا وبرزخًا وبعثًا وحشرًا وصراطًا وميزانًا ووقوفًا بين يدي الله وسوقًا إما إلى جنة عالية أو إلى نار حامية؟! هل ننظر إلى الأمر بعين العقل والبصيرة بعيدًا عن تزييف المزيفين، وتزوير المزورين، وتحريف المحرفين؟!
إن العاقل اللبيب هو الذي ينظر في أمره وعاقبته، ويقيم نفسه على ما ينفعها لينجيها من عذاب الله وعقابه وغضبه، فإن العبد إذا مات وانفرد في قبره فلن ينفعه الفنان الفلاني ولا المغنية الفلانية ولا الفريق الفلاني ولا اللاعب الفلاني، لن ينفعه إلا ما قدم من خير وما نشر من سنة.
أما مكر الشيطان فإن له سوقًا وأعوانًا من الجن والإنس يزينون ويغطون الحقائق، ويقدمون الباطل في ثوب مُبْهِر يسرق الألباب، ويذهب بالعقول؛ فهي إذًا حرب قائمة، لذلكم يقول الله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) [الإسراء: 64].
قال بعض أهل التفسير في هذه الآية: وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول، فهي المعركة الصاخبة، تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجِل، على طريقة المعارك والمبارزات، يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة، فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل وأحاطت بهم الرجال.
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ) [الإسراء:64]، فكل مال حرام من ربا وغش وزور وتزوير وغضب وظلم فهو من شركة الشيطان: (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ)، قال الإمام القرطبي –رحمه الله-: "أي: اجعل لنفسك شركة في ذلك، فشركته في الأموال إنفاقها في معصية الله، قاله الحسن، وقيل: هي التي أصابوها من غير حلها؛ قاله مجاهد، أما المشاركة في الأولاد فقيل: هم أولاد الزنا، قاله مجاهد والضحاك وعبد الله بن عباس".
وعنه أيضًا: "هو ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم من الجرائم"، وروي عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: "إذا جامع الرجل ولم يسمّ -أي: لم يذكر الله- انطوى الجان على إحليله، فجامع معه؛ فذلك قوله -تعالى-: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) [الرحمن:56].
(وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ)، قال القرطبي: (وَعِدْهُمْ): "أي منِّهم الأماني الكاذبة، وأنه لا قيامة ولا حساب، وأنه إن كان حساب وجنة ونار فأنتم أولى بالجنة من غيركم".
قال صاحب الظلال: "ولعل أشد الوعود إغراءً الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة؛ وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعزّ عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة، فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة، ويزين لها الخطيئة، وهو يلوّح لها بسعة الرحمة الإلهية، وشمول العفو والمغفرة". اهـ.
وبعد أن ذكر الله صورًا من هذه الحرب القائمة، وذكر نماذج من الأسلحة المستخدمة من لدن إبليس وأعوانه، أخبر أن هناك عبادًا لا سلطان للشيطان عليهم؛ لأنهم مزودون بحصانة تمنعهم من الشيطان ومن خيله ورجِله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) [الإسراء:65].
يا له من تشريف! (إِنَّ عِبَادِي) هذه الإضافة إضافة تكريم وتشريف، فمتى اتصل القلب بالله واتجه إليه بالعبادة، متى ارتبط بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، متى أيقظ في روحه النفخة العلوية فأشرقت وأنارت، متى عكف على ذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه وفي ذهابه وإيابه، متى فطن لأعوان الشيطان من الإنس الذين يزينون الباطل ويقلبون الحقائق وينشرون الفساد والإفساد، متى جالس الصالحين والذاكرين وأَصْبَرَ نفسه معهم، متى فعل ذلك، فلا سلطان حينئذ للشيطان على ذلك القلب الموصول بالله، وتلك الروح المشرقة بنور الإيمان، وكفى بربك وكيلاً! يعصم وينصر ويدحر كيد الشيطان.
فاختر لنفسك -يا عبد الله-: إما الرب الكريم الذي يدعوك لدار السلام، وإما الشياطين التي تدعوك للانهزام: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا) [النساء: 27].
اللهم أصلح أحوالنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي