الإيمان بالقدر وأثره

عبدالعزيز بن عبدالله آل

عناصر الخطبة

  1. الإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة
  2. علم الله بما يكون سابق على خلقه المخلوقات
  3. الفرق بين القضاء وبين القدر
  4. المطيع يوفقه الله لطاعته، والعاصي يخذله الله ويبعده عن مراضيه
  5. عقيدة القضاء والقدر يورث اطمئنانًا ويقينًا
  6. المرء من بين مخافتين: الخوف من السابق والخوف من الخواتيم

فيا أيها المؤمنون: وصية الله لكم أن اتقوا الله، ووصيتي إليكم أن تتمسكوا بتقوى الله -عز وجل- وأن لا تلهينا الدنيا عن مقتضى تقواه: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء:131]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].

أيها المؤمنون: إن الله -جل وعلا- جعل الإيمان به وجعل هذا الدين مبنيًّا على أركان ستة عظام، ألا وهي أركان الإيمان المعروفة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى.

فهذا الإيمان إذا اكتمل جعل العبد مؤمنًا حقًّا، وإذا نقص من الإيمان ما نقص من جهة اليقين أو من جهة الأعمال فإنه ينقص من الإيمان بحسبه، وإن من تلكم الأركان التي بها برد اليقين والتي بها اطمئنان المؤمن لكل ما يجري في هذه الحياة، إن من تلكم الأركان ركن الإيمان بقدر الله تعالى خيره وشره منه -جل وعلا-.

وهذا الركن الأعظم من أركان الإيمان به يحصل المؤمن على الطمأنينة وعن إجابة كثير من الأسئلة؛ لأن العجز عن الإدراك إدراك، قال -جل وعلا-: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49]، وقال سبحانه: ﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3)﴾ [الأعلى:1-3]، وقال -جل وعلا-: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان:1-2]، وقال -جل وعلا- أيضًا في آخر سورة الحج: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج:70] وقال أيضًا -جل وعلا-: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(23)﴾ [الحديد: 22-23].

والآيات في هذه المعنى عديدة، وثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في أصحابه، فجاءه جبريل -عليه السلام- في غير صورته يسأله عن الدين، في صورة رجل من الناس، فسأله أسئلة فقال منها: أخبرني عن الإيمان، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره"، قال جبريل: صدقت. وفي آخر الحديث قال -عليه الصلاة والسلام- للناس حوله: "أتدرون من السائل؟!"، قالوا: لا يا رسول الله، قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم". فدل على أن تعلم هذه الأركان وتعلم ما اشتمل عليه هذا الحديث إنما هو من الدين، وهل خُطَب الجمع وهل وعظ الواعظ وهل تعليم المعلم إلا لأمر الدين!!

لهذا -أيها المؤمنون- فإن من أعظم الأركان كما ذكرنا الإيمان بالقضاء والقدر، وقد اختلف الناس في أمر القضاء والقدر، والذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وكان عليه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن القدر هو علم الله السابق بالأشياء قبل وقوعها، علم الله السابق الأزلي بالأشياء قبل وقوعها، وكتابته للأشياء التي تقع مفصلةً، وذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعموم مشيئته النافذة في خلقه، وعموم خلقه -جل وعلا- للأشياء كلها، فهذا هو القدر عند الصحابة -رضوان الله عليهم-، وهو القدر عند أهل السنة والجماعة؛ لهذا سار الإيمان بالقدر بأن تؤمن بعلم الله السابق الأزلي بالأشياء قبل وقوعها، فيؤمن المؤمن أن الله سبحانه لا يقع في ملكه شيء استئنافًا لم يكن عَلِمَهُ، بل عِلْمُهُ سبحانه بالأشياء أزلي أول، لم يسبق ذلك جهل منه -جل وعلا- بما يقع، أراد الأشياء وعلمها فوقعت في ملكوته كما علم -سبحانه وتعالى-، ويؤمن المؤمن أن الله -جل وعلا- كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وكما أخبر بذلك ربنا -جل وعلا- في قوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾، ويؤمن المؤمن بالقدر، يعني يؤمن أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن الناس لو اجتمعوا على أن ينفذوا أمرًا لم يشأه الله -جل وعلا- في ملكوته لم يقع إلا كما شاءه الله -جل وعلا-، ما أراده كونًا فلابد أن يقع، ومشيئة العبد تحت مشيئة الله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ…) [الإنسان: 30-31] الآية، فما شاء الله كان، ما شاءه العباد لا يكون إلا إذا أذن الله به فوقع كونًا لمشيئة الله -جل وعلا- له.

ومن الإيمان بالقدر -وهو ركن من أركانه- أن يؤمن المؤمن أن الله -جل وعلا- خالق لكل شيء كما قال سبحانه: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الزمر:62]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فيؤمن المؤمن أنه لا يحصل شيء إلا والله تعالى خالقه، الحياة خلقها الله، والموت خلقه الله، والمرض خلقه الله، يعني قدّره، والحياة بأنواعها وبما اشتملت عليه خلقها الله -جل وعلا- وقدّر ذلك، وكذلك كل ما ترى من أفعال العباد ومن الطاعات ومن المعاصي فإنه ليس شيء في الدنيا إلا والله -جل وعلا- خالقه: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الزمر: 62].

إذا علمت ذلك -أيها المؤمن- وآمنت بذلك تبين لك أن الإيمان بالقضاء والقدر هو إيمان على مرتبتين:

إيمان بشيء سبق، وهو علم الله -جل وعلا- للأشياء، وكتابته لها في اللوح المحفوظ.

وشيء حاضر تؤمن به، وهو أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، إذا أصابتك سراء علمت أنها من الله، وإذا أصابتك ضراء علمت أنها من الله: ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾، وما يحصل إنما هو بمشيئة الله وبخلقه، ولهذا يسأل كثيرون: ما الفرق بين القضاء والقدر؟! فيجيب أهل العلم أن القضاء هو ما قُضي من القدر ووقع؛ لأن قضاء الشيء يعني انتهاءه كما قال سبحانه: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ﴾ [سبأ:14]، وكما قال -جل وعلا-: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ [طه:72]، ونحو ذلك من الآيات التي تدل على أن القضاء هو وقوع الشيء وانتهاؤه.

وأما القدر فهو لما سبق في علم الله ولما كتب، فإذا وقع القدر صار قضاءً، وهو قدر باعتبار الماضي، وهو قضاء باعتبار ما وقع وحل، إذا تبين لك هذا -أيها المؤمن- فاعلم أنه لا مكان في الإسلام لعقيدة الجبر، لا الجبر الظاهر ولا الجبر الباطن، بل الإنسان في الشريعة الإسلامية وفي عقيدة المسلم: الإنسان مخير، وليس مسيرًا في الأمر والنهي، بل يختار: إما أن يختار طريق الخير: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:10]، وإما أن يختار طريق الشر: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾ [الشمس:9-10]، وعلم الله السابق وكتابته السابقة ليست جبرًا، وإنما هي لقيام الحجة على العباد، وأنه لا يحصل شيء إلا والله -جل وعلا- عالم به لكمال علمه سبحانه: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ [الأحزاب:40].

أيها المؤمن: المؤمن المسدد موفق يوفقه الله -جل وعلا-، والعاصي يخذله الله -جل وعلا-، ولهذا يرى المؤمن الصالح أن كل خير عمله مع أنه اختاره، لكن الله وفّقه إليه، أعانه عليه وسدده ويسر له سبيله، فيرى العبد المؤمن أنه مختار، وأن الله أعانه ووفقه على عمل الصالحات، وأما غير المسدد، أما العاصي، وأما الفاجر، وأما المنافق، وأما الكافر، فكل بحسبه، فإن الله تركهم لأنفسهم ولم يعنهم لحكمته، ولما اشتملت عليه أنفسهم من أمور، وما اشتملت عليه أعمالهم كما قال سبحانه: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ(161)﴾ [النساء:160-161]، إذًا التوفيق جزاء للصالحات، والخذلان وترك المرء لنفسه وعدم إعانته للخير جزاء للسيئات، وما كان الله ليظلم العباد: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت:46] سبحانه وتعالى.

إذا تبين هذا لنا علمت أن عقيدة القضاء والقدر تجعل في قلوبنا بردًا وطمأنينة؛ بحيث إن المؤمن لا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه الله، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد:22].

يعني ذلك العلم أن الأمور سابقة بقدر، وأن المصائب بقدر، وأن الكتاب سابق، فَلِمَ نؤمن به؟! ولِمَ أوجب الله الإيمان به؟! أولاً لحق الله تعالى وللإيمان بأسمائه وصفاته، ثم: ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [الحديد:23]، فالذي يؤمن إيمانًا حقيقيًّا بالقضاء والقدر لا يأسى على ما فاته من الدنيا، لا يأسى على موت الناس، لا يأسى على ذهاب المال، لا يأسى على ذهاب المنزلة، لا يأسى على الأذى؛ لأنه يعلم أن الأمور بقضاء وقدر، وأن ما شاء الله كان، وأن ما لم يشأ لم يكن، وأن المؤمن إذا أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وإذا أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له، ثم إنه لا يفرح بما أوتي لأن الفرح بغير الحق ذلك من خصال غير المؤمنين، فالمؤمن إذًا بقضاء الله وقدره يثمر إيمانه بالقضاء والقدر أنه في هذه الدنيا ليس بذي أسى وحزن على ما فاته، وليس بذي فرح واختيال وفخر على ما آتاه الله تعالى، وتأمل ختام الآية حيث قال تعالى: ﴿وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد:23]؛ لأن الفرح بغير الحق يوجب الاختيال ويوجب الفخر، وكما ترى في حال كثيرين من الأغنياء فإن غناهم أوجب لهم فخرًا واستطالة واستغناءً، وهذا -والعياذ بالله- ليس من خصال المؤمنين حقًّا.

أيها المؤمن: إيمانك بقضاء الله وبقدره يثمر لك أنك مخاطب بالعمل: "اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له"، وتأمل قول الله -جل وعلا-: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)﴾ [الليل:5-7]، فرتب التيسير على العمل الصالح، على الإعطاء والتصديق، وكذلك رتب التعسير على التكذيب والاستغناء وعدم البذل، وهذا يعطيك أن إيمانك بقضاء الله وقدره لا يجعلك لا تعمل، بل تعمل وتتوكل على الله -جل وعلا-، ثم بعد ذلك أنت مؤمن بقضاء الله وبقدره.

ومن ثمرات إيمان المؤمن بقضاء الله وبقدره: أن يعلم المؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهذا يجعله في طمأنينة وبرد وسلام فيما يحدث له.

ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: أن يعلم المؤمن أن حكمة الله ماضية، وأن الأمور لا يجرها حرص الحريص، وأن عمل الناس لا يجر الأشياء، وإنما العمل سبب، وقضاء الله وقدره نافذ، وحكمته بالغة، فيجعل المؤمن يعمل كما أمره الله، ثم هو يرى الأمور بأن قضاء الله وقدره نافذ لا محالة.

فمثلاً ينظر إلى ما فيه المسلمون مثلاً اليوم بما هم فيه من نكبات، وما هم فيه من ضعف وذل، وما هم فيه من هوان، ينظر إلى ذلك أنه يوجب عليه أن يعمل لنصرة الإسلام ولنصرة دين الله ولإعلاء كلمة الله، لكنه لا يسوغ له حال المسلمين أن يكون يائسًا، وأن يكون متخاذلاً، أو أن يعمل أشياء لم يوجبها الشرع؛ لأن ذلك ليس مقتضى الإيمان الصحيح، وليس مقتضى الشريعة، وأيضًا ليس مقتضى الإيمان بحكمة الله تعالى.

فالمؤمن إذا آمن فهو متوازن في عقيدته، متوازن في أعماله، متوازن في نظرته للأمور، وهو مع ذلك كله يخاف لإيمانه بالقضاء والقدر، يخاف من الخواتيم، ويخاف من السوابق، وقد قال بعض السلف: "ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق". ينظر المؤمن إلى ما سبق أن كتبه الله فيبكي، لا يدري ماذا كتب له، هل هو من أهل السعادة أم هو من أهل الشقاوة، فينظر إلى ذاك فتدمع عينه، ويسأل الله الثبات ويجاهد نفسه على الصلاح، وقال آخر من علماء السلف: "ما أبكى العيون ما أبكاها سر الخواتيم". وقال آخر: "قلوب الأبرار معلقة بالسوابق؛ يقولون: ماذا سبق لنا؟! وقلوب المحسنين معلقة بالخواتيم؛ يقولون: بماذا يختم لنا؟!". وهذا هو حال المؤمن؛ فإنه بقضاء الله وقدره بين مخافتين، بين أمر قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله خالق فيه.

وهذا من عجاب إيمان المؤمن بقضاء الله وقدره.

أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل الإيمان في قلوبنا يقينًا، وأن يجعلنا مطمئنين بالإيمان، وأن يجعله في قلوبنا كأمثال الجبال الراسيات، اللهم نسألك صدقًا في الإيمان، وصدقًا في الأقوال، وصدقًا في الأعمال، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدًا، واجعلنا في أقوالنا وفي أعمالنا على ما تحب وترضى، واسمعوا قول الحق -جل وعلا-؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج:70].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها المؤمنون: إن أحسن الحديث كتاب الله، فخذوا العلم من كتاب الله، وإن خير الهدي هدي محمد بن عبد الله، فاقتدوا بالمصطفى -عليه الصلاة والسلام-، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم التقوى أينما كنتم، فبالتقوى رِفْعَتُكُمْ، وبالتقوى نجاتكم: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾ [الطلاق:4].

أيها المؤمنون: كثيرة الأسئلة التي يطرحها المسلمون حول القضاء والقدر، والذي يجب على المؤمن أن يسلم لقضاء الله وقدره؛ قال علي –رضي الله عنه-: "القدر سر الله فلا تكشفه"، أي لا تحاول كشفه فإنك لن تصل إلى شيء. القدر سر من أسرار الله ولا يمكن للمرء أن يصل إليه، فبهذا عليه أن يؤمن بما أوجب الله الإيمان به، عليه أن يؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره، وأن لا ينازع القدر بقيل وقال وبسؤال، فإن كثرة السؤال منهي عنها، وإن الوساوس إذا كانت وساوس فإنها ربما كانت من الشيطان، فليدفعها المؤمن بقوة حتى يبقى له يقينه قويًّا ثابتًا حتى لا يتردد ولا يكون في ريب؛ لأن أمر القدر الأسئلة فيه كثيرة، وقد تردد أناس فيه فضلُّوا لأنه لا يمكن أن يعلموا حقيقة قدر الله وقضائه، فهذا سر الله -جل جلاله-، والأمر لله من قبل ومن بعد.

هذا؛ واعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الله -جل جلاله- أمرنا أن نصلي على نبيه فقال سبحانه قولاً كريمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، والأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.  


تم تحميل المحتوى من موقع