فالإنسان بينما هو في هذه الدنيا يسعد بحبيبه أو بقريبه إذا به يفجع بنبأ وفاته، وبينما هو يتمتع بصحته وعافيته إذا به يفجأ بمرض يكدر عليه صفو حياته، وبينما هو يهنأ بماله ووظيفته إذا به يتفاجأ بضياع ماله أو ذهاب تجارته أو وظيفته، فتذهب آماله، وتتلاشى أحلامه، وتضيع طموحاته.
الحمد لله الذي وعد الصابرين بالأجر من غير حساب، وأثاب الشاكرين على النعم وبشرهم بدوامها فنعم الثواب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير من صبر على أقدار الله وشكر في السراء والضراء بلا اكتئاب، اللهمّ صلّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم المآب.
عباد الله: إن هذه الحياة مليئة بالحوادث والفواجع، والأمراض والقواصم، والأحداث والمتغيرات، ولا يمكن أبدًا للإنسان أن يعيش في هذه الدنيا على حالة واحدة؛ لأن دوام الحال من المحال، ولابد للصفو أن يعقبه الكدر.
في هذه الحياة محن ومنح، وأفراح وأتراح، والآم وآمال، وهيهات أنْ يضحك من لا يبكي، أو أنْ يتنعّم من لم يتنغَّصْ، أو يسعدَ من لم يحزنْ!!
فالإنسان بينما هو في هذه الدنيا يسعد بحبيبه أو بقريبه إذا به يفجع بنبأ وفاته، وبينما هو يتمتع بصحته وعافيته إذا به يفجأ بمرض يكدر عليه صفو حياته، وبينما هو يهنأ بماله ووظيفته إذا به يتفاجأ بضياع ماله أو ذهاب تجارته أو وظيفته، فتذهب آماله، وتتلاشى أحلامه، وتضيع طموحاته.
إذًا فلابد للعاقل أن يوطن نفسه على المصائب قبل أن يصاب بها، وأن يهيئ نفسه للأحداث قبل وقوعها، وأن يكون متوقعًا لكل شيء، فلا يؤمّل في البقاء، ولا يغترّ بالرخاء، ولا يظن أنه سيعيش دومًا حياة النعيم والهناء، فإنّ من عرف الدنيا وخبر أحوالها هان عليه بؤسها ونعيمها، وقد قال بعض الحكماء: "من حاذر لم يهلع، ومن راقب لم يجزع، ومن كان متوقِّعًا لم يكن متوجِّعًا".
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى فقال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].
هكذا هي الدنيا، وهذه أحوالها، وليس للمؤمن الصادق فيها إلا الصبر؛ فذلكم دواء أدوائها؛ يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "وما أُعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر". [البخاري (1469)، مسلم (1053)].
ويقول الحسن -رحمه الله-: "جرَّبْنا وجرَّب المجرِّبون فلم نرَ شيئًا أنفع من الصبر، به تداوى الأمور، وهو لا يُداوى بغيره". [أحمد: (4314)].
بل أمرنا الله -عز وجل- أن نستعين بالصبر، وجعله من أسباب العون والمعيّة الإلهية، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:153].
على المسلم في هذه الحياة أن يقوّي إيمانه بالقضاء والقدر، وأن يعلم علم اليقين أن هذه الدنيا دار كدر وخطر، وأن القدر لا يؤجل ولا يرد، وأن يعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.
قالت أم حبيبة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد سألتِ الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئًا قبل حِلّه، أو يؤخر شيئًا عن حلّه، ولو كنت سألتِ الله أن يعيذكِ من عذابٍ في النار، أو عذابٍ في القبر، كان خيرًا وأفضل". [مسلم (2663)].
ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- مَنْ أصيب بمصيبة عن قول: "لو"، يعني أن يقول الإنسان: لو فعلت كذا لكان كذا، لو أني مررت بطريق كذا وكذا لما وقع لي هذا الحادث، ولو أني ما أتيت إلى المكان الفلاني لما حدث لي كذا وكذا، ولو ذهبت هنا بدلاً من هنا لكان أفضل، فلا يجوز ولا ينبغي للمسلم المستسلم لقضاء الله وقدره أن يقول هكذا، يقول رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كذا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ". مسلم (2664). وصدق الله -سبحانه وتعالى- إذ يقول: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد:22]، ويقول -سبحانه وتعالى-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن:11].
على المسلم إذا أصيب بمصيبة أن يحسن الظن بالله، وأن يستحضر رحمة الله، وأن يستشعر حكمة الله: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216]، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ". مسلم (2999).
فكم من مصيبة في طياتها خير كبير، وكم من محن فيها من المنح الشيء العظيم، وكم من حوادث يحسبها الإنسان شرًّا محضًا وفيها من الفوائد الكثير والكثير.
لما قتل الخضر الغلام استنكر موسى -عليه الصلاة والسلام-، وأنكر هذا الفعل في بداية الأمر، حتى تبيّن له أن قتله كان لحكمة عظيمة وهدف سامٍ: (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) [الكهف:80-81]، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا". مسلم (2661).
يا من أصبت بمصيبة: تذكر حال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها أعظم المصائب". الطبراني: المعجم الكبير (6718)، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "يا أيها الناس: أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحدًا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي". ابن ماجه (1599).
لقد مات والد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والرسول -صلى الله عليه وسلم- في بطن أمه، وماتت أمه وهو ابن ست سنوات، فعاش يتيمًا، فانتقل إلى كفالة جده فمات جده وهو ابن ثماني سنوات، وبعد موت جده انتقل إلى كفالة عمه فمات عمه، ثم ماتت زوجته الوفيّة الصابرة الطاهرة خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها وأرضاها-، وماتت كل بناته ولم تبق إلا فاطمة -رضي الله عنها- تُوفيت بعده بستة أشهر، ومات ابنه إبراهيم، فلم يزد على أنْ قال -وقد دمعت عيناه-: "إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون". البخاري (1303).
ومات الكثير من أصحابه الذين أحبَّهم وأحبّوه، فما فَتَّ ذلك في عضُدِه، ولا قلَّل من عزيمته وصبره -صلى الله عليه وسلم-.
ولَّى أبوك عن الدنيا ولم تره *** وأنت مرتهن لا زلت في الرحم
وماتت الأم لمّا أن أنست بها *** ولم تكن حين ولّت بالغ الحلم
ومات جدك من بعد الولوع به *** فكنت من بعدهم في ذروة اليتم
فجاء عمك حصنًا تستكن به *** فاختاره الموت والأعداء في الأجم
تُرمى وتُؤذى بأصناف العذاب فما *** رئيت في ثوب جبار ومنتقم
حتى على كتفيك الطاهرين رموا *** سلا الجزور بكف المشرك القزم
أما خديجة من أعطتك بهجتها *** وألبستك ثياب العطف والكرم
ولّت إلى جنة الباري ورحمته *** فأسلمتك لجرح غير ملتئم
ورغم تلك الرزايا والخطوب وما *** رأيت من لوعة كبرى ومن ألم
ما كنت تحمل إلا قلب محتسب *** في عزم متقد في وجه مبتسم
بنيت بالصبر مجدًا لا يماثله *** مجد وغيرك عن نهج الرشاد عمي
صلى الله عليه وسلم.
وليكن لك -أيها المصاب- في أنبياء الله ورسله أسوة حسنة، فهذا نبي الله يعقوب -عليه السلام- فقد ابنه الأول عندما تآمر عليه إخوته، ثم أخبروه أن الذئب قد أكله، فماذا قال يعقوب -عليه السلام-: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف:18]، ثم أضاعوا ابنه الآخر بنيامين أخو يوسف وقالوا: (يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) [يوسف:81]، فماذا قال: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف:83]. فقلبه معلق بالله، صابر محتسب، في المرة الأولى قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)، وفي المرة الثانية قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا).
فإذا أصابتك مصيبة فقل: يا الله، وإذا نزلت بك نازلة فقل: يا الله، وإذا حدثت لك حادثة فقل: يا الله، وإذا ألمّ بك مرض فقل: يا الله، وإذا فقدت عزيزًا أو قريبًا فقل: يا الله، وإذا نزلت بك الهموم والغموم فقل: يا الله، وإذا أصابك جوع أو نزل بك الفقر فقل: يا لله، (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف:83].
قلت ما سمعتم وأستغفر الله...
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبده ورسوله الصابر الصادق الأمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المصاب:
اصبر لكل مصيبة وتجلد *** واعلم بأن المرء غير مخلد
يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]، ويقول: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [هود:115]، ويقول: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً) [المعارج:5]، ويقول في سورة العصر: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:3].
تذكر -أيها المصاب- أن المصائب من دلائل الفضل، وشواهد النبل، وكيف لا يكون ذلك، وقد سأل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله: أيُّ الناس أشد بلاءً؟! قال: "الأنبياءُ، ثم الأمثل، فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان دينه صُلْبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقّة ابتُلي على حسب دينه؛ فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة". الترمذي (2398). وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنّ "الله إذا أحبّ قومًا ابتلاهم". ابن ماجه (4031).
فإياك والجزع، وشقّ الجيوب، وضرب الخدود، والمبالغة في الشكوى، وإظهار الكآبة، وتغيير العادة في الملبس والمفرش والمطعم، وأظهر الرضا بقضاء الله تعالى وقدره.
يا من أصبتم بمصيبة: تأسّوا بغيركم، وتذكَّروا مصابهم، وانظروا إلى من هو أشدّ مصيبة منكم؛ فإنّ في ذلك ما يُذهب الأسى، ويخفف الألم، ويقلِّل الهلع والجزع، وتذكَّروا أنّ "مَن يتصبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله". أحمد (11091).
ليتذكَّرْ من أصيب بعاهة أو مرض مَنْ أصيب بما هو أشدّ، وليتذكَّرْ من فُجع بحبيب مَن فجع بأحباب، وليتذكَّرْ من فقد ابنه مَن فقد أبناءً، وليتذكَّرْ مَن فقد أبناءً مَن فقد عائلة بأكملها ومن لا يدرون شيئًا عن أبنائهم؛ فلا يعلمون: أهم أحياء فيرجونهم، أم أموات فينسونهم!!
وليعلموا أنّ ما نزل بهم من البلاء إنما هو كقطرة صغيرة في بحر النعماء، وليتذكَّروا أنّ الله لو شاء لجعل المصيبة أعظم، والحادثة أجل وأفدح، وأنّ ما وُقوه من الرزايا وكُفوه من الحوادث ما هو أعظم بكثير مما أُصيبوا به.
أصيب عروة بن الزبير -رحمه الله- بمرض في رجله، فقرّر الطبيب أن تبتر رجله، فذهب إلى الطبيب ومعه ابنه مرافقًا له، فلمّا بدأ الطبيب في عملية البتر قام ابنه، فأخذ يتجول في سطح البيت الذي تجرى فيه العملية لوالده، وبينما هو يتجول في السطح انزلقت رجله فسقط فانكسر فمات، إنا لله وإنا إليه راجعون، فاحتاروا في الأمر ماذا يقولون لهذا الوالد المسكين؟! ولكنهم يعلمون صبره، وثباته، ورضاه بقضاء الله وقدره، فلما انتهى الطبيب من قطع رجله دخلوا عليه، فقالوا: يا عروة: عظَّم الله أجرك في رجلك، وعظَّم الله أجرك في ابنك، فقال: أما رجلي فأعلم ما بها وأدري ماذا حدث لها، وأما ابني فماذا حدث له؟!
فقالوا له: إن ابنك صعد على سطح البيت فانزلقت رجله فسقط فانكسر فمات، فرفع عروة يديه فلم يزد على أنْ قال: "اللهمّ إنه كان لي بنون سبعة فأخذتَ واحدًا، وأبقيتَ لي ستة فلك الحمد والشكر، وكان لي أطراف أربعة؛ فأخذت طرفًا وأبقيت ثلاثة؛ ولئن ابتلَيْتَ لقد عافيت، ولئن أخذتَ لقد أبقيت". شعب الإيمان (9505).
جاء رجل كفيف البصر، مشوَّه الوجه، إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك -رحمه الله-، فلمّا رأى حاله، ولم يَر عليه شيئًا من علامات الجزع، سأله عن سبب مصابه، فقال: يا أمير المؤمنين: كنت كثير المال والعيال، فبتنا ليلة في واد، فداهمنا سيل جرّار، فأذهب كل مالي وولدي إلا صبيًّا وبعيرًا، فندّ البعير -أي هرب- والصبيُّ معي، فوضعته وتبعت البعير لأمسك به، فعدت إلى الصبي، فإذا برأس الذئب في بطنه قد أكله، فتركته وتبعت البعير فبحثت عنه فلم أجده، وبعد عناء شديد وبحث طويل وجدته، فلما اقتربت منه رمحني رمحة حطَّم بها وجهي، وأذهب بها بصري، فأصبحت بلا مال ولا ولد ولا بصر، فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة ليعلم أنّ في الناس من هو أعظم بلاءً منه.
فإذا أصيب الإنسان بمصيبة فليعلم أنّ في الناس من هو أعظم بلاءً منه، ومن هو أشد مصيبة منه.
أيّها المسلم: تُب إلى اللهِ، واستغفِر الله، واصبِر على قضاءِ الله، وارض بذلك، وأحسِنِ الظنَّ بربّك، واعلَم أن الله حكيم عليم فيما يقضي ويقدِّر، فَلُمْ نفسَك، وإياك والاعتراضَ على القضاء والقدَر، وإيّاك وسوءَ الظنّ بالله، أسئ الظنَّ بنفسك، وأما ربُّك فهو حكيم عليم فيما يقضي ويقدِّر: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء:23]، وكلُّ قضائِه مبنيٌّ على كمالِ حكمتِه ورحمتِه وكمالِ عِلمه وكمال عدله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ) [الدخان:38-39].
فاصبِر على القضاء، وارضَ بذلك، وخُذ بالأسباب وكلَّما ألمَّت بك بليّة فقل: يا حيّ يا قيّوم، يا ذا الجلال والإكرام، برحمتِك أستغيث، ومن عذابك أستجير، أصلِح لي شأني كلَّه، ولا تكِلني إلى نفسي طرفةَ عَين، ولا إلى أحدٍ من خلقِك.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الصابرين الصادقين، إنه على كل شيء قدير.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، ونسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والصبر على القضاء، والقصد في الفقر والغنى. وأحسن اللهم عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا، اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واحفظ علينا ديننا وأمننا وإيماننا...
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم تب علينا واغفر لنا وارحمنا إنك أنت التواب الغفور الرحيم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الكفرة والملاحدة وكل من خذل الدين. اللهم أصلح أحوال المسلمين، وبارك لهم في أرزاقهم وذرياتهم، واجعلهم شاكرين لنعمك قابليها.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تنجينا من النار، وأن تلحقنا بالمتقين الأبرار، وأن تنجينا من مفاوز الدنيا والآخرة يا كريم يا جواد، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
بطاقة تعريفية
|
|
بحثها
|
مراد باخريصة
|
أعدها
|
مراد باخريصة
|
راجعها
|
شايف المعصار
|
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي