حلاوة الإيمان

محمد راتب النابلسي

عناصر الخطبة

  1. الفرق بين منطق الإيمان وحلاوته
  2. علامات حلاوة الإيمان
  3. الحق لا يخشى البحث

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، إقرارًا بربوبيته، وإرغامًا لمن جحد به وكفر.

وأشهد أن سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمنا، وأرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.  

أيها الإخوة الكرام: ورد في صحيح البخاري عن أبي قلابة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار".

للإيمان منطق، وللإيمان حلاوة، منطق الإيمان شيء، وحلاوته شيء آخر، منطق الإيمان كأن تضع على الطاولة خرائط لقصر عظيم، خرائط دقيقة جدًّا، تعبر عن حجمه، وعن اتساعه، وعن إطلالته وعن مواد بنائه، وعن خصائصه، وعن كل المتممات فيه، لكنه ورق على الطاولة، وأنت لا تملك غرفة تسكنها.

هذا منطق الإيمان، حقائق ناصعة، أدلة يقينية، وسائل مقنعة ظواهر تدل على وجود الله، لكن حلاوة الإيمان شيء آخر، حلاوة الإيمان أن تسكن هذا القصر، أن تستمتع به، أن تتفيأ ظلاله، أن تجلس في شرفته، أن تستمتع بأثاثه، ببهائه، بغرفه، بإطلالته، بحدائقه، فرق كبير بين منطق الإيمان وبين حلاوة الإيمان، أكثر المسلمين يعتقدون أن الإسلام هو الحق، وأن الإيمان هو الصواب، وأن الجنة حق وأن النار حق، وأن لهذا الكون إلهًا عظيمًا، هذا منطق الإيمان، ولكن حلاوة الإيمان شيء آخر، حلاوة الإيمان أن تقبل على الله، حلاوة الإيمان أن تذوق طعم القرب من الله، حلاوة الإيمان أن تلجأ إلى الله، أن تحتمي بحماه، أن تركن إلى قوته، أن تستعين بعلمه، أن تستقدر بقدرته، حلاوة الإيمان أن تتوجه إلى الله، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف: 110].

منطق الإيمان يحتاج إلى تفكير، ولكن حلاوة الإيمان تحتاج إلى عمر، منطق الإيمان يحتاج إلى إحكام عقل، ولكن حلاوة الإيمان تحتاج إلى مجاهدة نفس، فرق كبير بين منطق الإيمان وبين حلاوة الإيمان؛ يقول -عليه الصلاة والسلام-: "ذاق طعم الإيمان…"، "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان…".

ما الذي يشدك إلى الإيمان؟! منطقه أم حلاوته، أغلب الظن أن الذي يشدك إلى الإيمان حلاوته، أغلب الظن أن الذي يدفعك إلى الله -عز وجل- هو طعم القرب الذي ذقته منه.

يا أيها الإخوة الكرام: ما لم نصطلح مع الله، ما لم نحكم استقامتنا، ما لم نلغِ المنكرات من بيوتنا، ما لم نضبط أمرنا، ما لم نحرر دخلنا، ما لم نحرر نيتنا، ما لم نضبط جوارحنا؛ أعيننا، آذاننا، ألسنتنا، بيوتنا، زوجاتنا، بناتنا، دخلنا، ما لم نفعل كذلك لم نذق حلاوة الإيمان، نبقى في منطق الإيمان، نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى.

لو أن إنسانًا مصابًا بمرض جلدي، علاجه الشمس، فهل يشفى من مرضه إذا قال: إني أؤمن أن الشمس ساطعة، أنت حينما تقول: الشمس ساطعة ماذا فعلت؟! ماذا قدمت؟! هي ساطعة، اعترفت بذلك أم لم تعترف، هي ساطعة، أقررت بذلك أم لم تقر، أما حينما تتجه إلى أشعة الشمس، ويشفى جلدك من هذا المرض، تكون قد استفدت من أشعة الشمس، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).

الذي يحرك الإنسان في أعماله، في حياته، ليس المنطق وحده، فكم من إنسان قانع قناعة لا حدود لها أن الدخان يضره، يضر شرايينه، يصلبها، يضر رئته، قد يصيبها بورم خبيث، يضر أطرافه وقد يصيبها بالموات، كم من إنسان يدخن وهو قانع بأن التدخين مضر، فهل الذي يحرّك الإنسان قناعته؟! أم هذا الذوق الذي يكشفه حينما يتجه إلى شيء طيب.

أيها الإخوة الكرام: يجب أن نقف مليًّا عند كلمة: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان"، حلاوة الإيمان هي التي تدفعك إلى الله، حلاوة الإيمان هي التي تحملك على طاعته، حلاوة الإيمان هي التي تدفعك أن تبذل الغالي والرخيص والنفس والنفيس في سبيل الله، حلاوة الإيمان هي التي تجعلك تستقيم على أمر الله ولا تعبأ بأحد، حلاوة الإيمان هي التي تجعلك تقطف ثمار الإيمان.

في صحيح البخاري عن أبي قلابة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار".

حلاوة الإيمان أن تقول: ليس في الأرض من هو أسعد مني، إلا أن يكون أتقى مني، حلاوة الإيمان أن تدافع عن عقيدتك وعن دينك، ولا تأخذك في الله لومة لائم، حلاوة الإيمان أن تأتي أمر الله وأنت في أسعد حال، لا أن تدفع المال وأنت مكره.  

يا أيها الإخوة الكرام: يغلب على ظني أن المسلمين لا ينقصهم منطق الإيمان، ولكن تنقصهم حلاوة الإيمان، ينقصهم طعم القرب، هؤلاء الذين ينغمسون في المعاصي والآثام، لماذا هم يفعلون ذلك؟! يبحثون عن السعادة، يبحثون عن اللذة، لو علموا أن سعادتهم المطلقة وطمأنينتهم المطلقة في الإيمان، لتحولوا عن هذا الطريق إلى طريق آخر.  

ذكرت لكم من قبل كثيرًا أنه ما من مخلوق على وجه الأرض إلا ويبحث عن شيئين ثابتين؛ يبحث عن سلامته وعن سعادته، سلامته في تطبيق منهج ربه، وسعادته في القرب منه، سلامته في تطبيق تعليمات الصانع، والله -جل جلاله- هو الصانع، قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 88].

سلامته في طاعة الله، وسعادته في القرب منه، طاعته بين أيدينا: كتاب الله وسنة رسوله، والقرب منه وسائله بين أيدينا، وهو العمل الصالح، بمطلق تعريفاته، أي عمل صالح يقربك من الله -عز وجل-؛ إتقان عملك، خدمة المسلمين، أن ترحمهم في السعر، أن ترحمهم في الجودة، نوع من العمل الصالح، أن تكون ابنًا بارًّا، عمل الصالح، أن تكون أبًا رحيمًا، عمل صالح، أن تكون المرأة زوجة مخلصة ترعى بيتها وأولادها، عمل صالح، أن يكون الصانع متقنًا لصنعته، عمل صالح، أن يكون التاجر صدوقًا أمينًا، عمل صالح، أن تكون جارًّا ودودًا، عمل صالح، حينما يصلح عملك، يصلح منك القرب من الله -عز وجل-؛ لأنه -سبحانه وتعالى- طيب ولا يقبل إلا طيبًا.

"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان…"، ما هي هذه الثلاثة؟! كلام النبوة -أيها الإخوة- جامع مانع، كلام النبوة أعلى كلام بعد كلام الله، "وأوتيت جوامع الكلم"، كما قال -عليه الصلاة والسلام-. أخرجه البخاري ومسلم الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، من حديث أبو هريرة: "نصرت بالرعب".

"أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما…"، ما من مسلم على وجه الأرض إلا ويقول: الله ورسوله أحب إليّ مما سواهما، ليست العبرة أن تقول هذا، مثلاً: حينما تدعوك أمك لأن تزورها في بيتها، هي في حاجة إليك، وحينما يدعوك صديقك لزيارته إن ألغيت طلب أمك، ولبيت طلب صديقك، قل ما شئت، إنك تحب صديقك أكثر من أمك، الحب هنا يعبر عنه بالسلوك العملي، ذكرت هذا كثيرًا من قبل، أنت حينما تقول الله أكبر مثلاً في العيد، لو أنك أطعت مخلوقًا كائنًا من كان، وعصيت الواحد الديان، ما قلت: الله أكبر ولا مرة، ولو رددتها بلسانك ألف مرة، العبرة بالمواقف لا بالأقوال، أنت حينما تؤثر طاعة إنسان على طاعة الله، فأنت تحب هذا الإنسان، وتقدِّره، وتخاف عقابه وترجو عطاءه أكثر من الله، هذه حقيقة، والدليل على ذلك قول الله -عز وجل-: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24].

يعني إن آثرت مبلغًا من المال على طاعتك لله، فأنت تحب المال أكثر من حبك لله، إن سايرت زوجة على معصية، ترجو رضاها وتخشى نقمتها فأنت تحبها وتخشاها وترجو ما عندها أكثر من الله -عز وجل-. هذه حقيقة لا ينبغي أن يكون المسلم كالنعامة يضع رأسه في الرمل، إن آثرت مخلوقًا على طاعة الله، فمحبتك لهذا المخلوق، أو خوفك منه، أو رجاؤك لما عنده، أكثر من محبتك وحرصك ورجائك من الله، هذا معنى الآية الكريمة.

في حالات كثيرة، تتوافق رغباتنا مع طاعة ربنا، هذا ليس امتحانًا، متى يكون الامتحان؟! حينما تتعارض أوامر الشرع مع مصالح الفرد. عند التعارض يكون الامتحان.

لو أن أمك دعتك إلى زيارتها الساعة التاسعة ليلاً، وصديقك دعاك إلى زيارته الساعة الخامسة عصرًا، ولبيت الدعوتين، أنت لست ممتحنًا في هذا، أما حينما تتضارب المواعيد، إما أن تلبي دعوة أمك وإما أن تلبي دعوة صديقك، وتؤثر دعوة صديقك على دعوة أمك، عندئذ يتأكد لك ولغيرك أنك تحب صديقك أكثر من حبك لأمك، ولو ادعيت بلسانك أنك تحب أمك بلا حدود، هذا كلام لا يقدم ولا يؤخر.

ما معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما…".

كيف يكون الله أحب إليه؟! يعني أمر الله، كيف يكون رسوله؟! يعني أمر رسوله، عندك الكتاب، وعندك السنة، فلو جلست جلسة مختلطة، وملأت عينيك من الحرام، ورأيت أن هذه الجلسة مكسب كبير أمضيت وقتًا ممتعًا، مع فلان وأهله، وفلان وأهله، ولم تعبأ بقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [النور: 30].

لو ادعيت ألف مرة أنك تحب الله ورسوله، وأن الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، هذا كلام لا يقدم ولا يؤخر.

يا أيها الإخوة الكرام: ينبغي أن نتعامل مع الحقائق، ينبغي أن نكون واضحين مع الله -عز وجل-، ينبغي أن نكون صادقين، ينبغي أن لا ندخل الدنيا بالدين، أن لا نختل الدين بالشبهات، أن لا نختل الفروع بالأصول. "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما". ﴿بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: 14].

كل واحد بفطرته يعرف الذي يرضي الله والذي يسخطه، فحينما يسلك في طريق يسخط الله -عز وجل-، هو لا يحبه، وإذا قال: إني أحبه فهو ادعاء كاذب:

تعصي الإله وأنت تزعم حـبه *** ذاك لـعمري في المقال بديع لو كان حبك صادقا لأطعتـه *** إن المحب لمـن يحب يطيـع

لن تكون عبادة من دون حب، طاعة ممزوجة بالحب، فمن أطاع الله ولم يحبه ما عبده، ولا يحبه، ومن أحب الله ولم يطعه هذه حالة لا تكون. "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما…".

في كسب الأموال، في إنفاق الأموال، في العلاقات الاجتماعية، في الأعياد، إن آثرت رضا المجتمع على طاعة الله، أنت لا تحب الله، ما تحب المجتمع.

إن آثرت أن تكون لك مكانة أساسها عدم الالتزام بأوامر الدين، وضحيت ببعض الأوامر حفاظًا على مركزك، أنت لا تحب الله ورسوله، عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً". أخرجه مسلم والترمذي وأحمد.

"أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما…".

دقق إن آثرت لذة، أو متعة، أو سمعة، أو مكانة، أو جلسة، على مجلس علم، أو على طاعة رب، أو على طاعة رسول، فأنت لا تحب الله ورسوله كما تحب هذا الشيء، هذا كلام دقيق.

الشيء الثاني: "وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله…"، الإنسان يحب الجمال، ويحب الكمال، ويحب النوال، أنت تحب من يعطيك، وتحب من يمتعك، وتحب من تراه كاملاً في نظرك، لكن علاقة المؤمن بالآخرين، علاقة أساسها الولاء والبراء.

"وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله…"، لا تحبه إلا لله؛ لا لمنفعة، ولا لحظ، ولا لمكسب، ولا لسمعة، ولا لجاه، ولا لثناء، ولا خوفًا، ولا طمعًا، أبدًا، لا تحبه إلا لله، علاقاتك الاجتماعية مبنية على ولاء الناس لله، أو بعدهم عنه، تحب فقيرًا منيبًا، وتكره غنيًّا معرضًا، تحب إنسانًا بعيدًا عنك، لكنه ملتزم أمر الله وأمر رسوله، وتكره أقرب الناس إليك لو تفلّت من أمر الله ومنهجه.

أيها الإخوة الكرام: أكثر علاقات الناس الاجتماعية، أساسها المصالح والمكاسب، أما إذا استقام الإنسان على أمر دينه، وارتقى إلى ربه يبني علاقاته لا على أساس المصالح، بل على أساس الولاء والبراء، فلا بد من أن توالي أولياء الله، ولابد من أن تعادي أعداء الله، لابد من أن تتبرأ من أعداء الله -كي أكون دقيقًا- قد لا تستطيع أن تتبرأ منهم، لكن ينبغي أن توالي المؤمنين، وأن تتبرأ من غير المؤمنين، ينبغي أن تقر معروفًا، وأن تنكر منكرًا: "من شهد معصية فأنكرها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عن معصية فرضيها كان كمن شهدها".

لابد من أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، وهو الفريضة السادسة؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) [القصص: 59].

لم يقل: وأهلها صالحون، مصلحون يسعون إلى إصلاح الناس، هذا الذي ينسحب من المجتمع، ولا يعنيه أمره، ولا يعبأ بفساده، ولا بانحرافه، ولا بضلاله، هذا إنسان لا ينظر الله إليه، الأنبياء العظام الذين هم قمم في المجتمعات البشرية، هؤلاء مشوا في الأسواق وعاشروا الناس، وخالطوهم، وقد ورد في الحديث الصحيح: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم"، قال حجاج: خير من الذي لا يخالطهم. أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد.

هؤلاء الذين يصلحون الناس إذا فسد الزمان.

"وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله". دقق في علاقاتك الاجتماعية، أساسها المصالح أم المبادئ، أساسها المكاسب، أم الولاء والبراء.

"وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار".

هناك من يعبد الله على حرف، مقاومته هشة، لأتفه سبب، لأخ في المسجد أساء إليه يدع دروس العلم كلها، لسبب تافه جدًّا لا يتصل بجوهر الدين يدع الدين كله، هؤلاء الذين يعبدون الله على حرف لابد من أن يمتحنوا، قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)﴾ [العنكبوت: 1-3].

لابد من أن تكون في الأعماق، لابد من أن تكون كالجبل رسوخًا، قارب صغير أصغر موجة تقلبه، لكن السفينة العظيمة، أمواج البحر تتلاطم على جدرانها وكأنها لا شيء.  

لابد من أن تكون راسخًا في الإيمان، لابد من أن تكون في الأعماق، أصحاب النبي -رضي الله عنهم- عاهدوا الله وعاهدوا رسوله على الطاعة، أين؟! في المنشط والمكره، في السراء والضراء، في إقبال الدنيا وإدبارها، في الصحة والمرض.  

الذي عاهد الله على طاعته، قبل الزواج وبعد الزواج، قبل أن يستقيم عمله المكسبي، وقبل أن ينمو، قبل العلم، وبعد العلم، قبل الزواج وبعد الزواج، في الغنى وفي الفقر، في الصحة والمرض، في إقبال الدنيا وفي إدبارها، هو عاهد الله، قال تعالى: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب: 23].  

أما هؤلاء الضعاف، قال أحدهم: "أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته".

هؤلاء الذين سقطوا، سقطوا في طريق الإيمان، لا ينبغي أن تكون على حرف، ولا على حد، ولا أن تكون على طرف ساحل الإيمان، ينبغي أن تكون في الأعماق وفي قمم الجبال.  

أيها الإخوة الكرام: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار".

عود على بدء؛ منطق الإيمان شيء، وحلاوة الإيمان شيء آخر، إعمال العقل يوصلك إلى منطق الإيمان، ولكن مجاهدة النفس، وطاعة الله -عز وجل- توصلك إلى حلاوة الإيمان، وشتان بين أن تملك خرائط لقصر منيف، وبين أن تملك القصر نفسه، شتان بين الحالين.

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة الكرام: الحصين بن سلام حبر كبير من أحبار اليهود في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، له قصة سأسمعكم إياها، يقول هذا الحبر الكبير: لما سمعت بظهور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذت أتحرى عن اسمه ونسبه وصفاته وزمانه ومكانه، وأطابق بينها وبين ما هو مسطور عندنا في الكتب، حتى استيقنت من نبوته وتثبتُّ من صدق دعوته، ثم كتمت ذلك عن اليهود، وعقلت لساني عن التكلم فيه، إلى أن كان اليوم الذي خرج فيه رسول الله -عليه الصلاة والسلام- من مكة قاصد المدينة، فلما بلغ يثرب ونزل بقباء، أقبل رجل علينا، وجعل ينادي بالناس معلنًا قدومه، وكنت ساعتئذ في رأس نخلة لي أعمل فيها، وكانت عمتي خالدة بنت الحارث جالسة تحت الشجرة، فما أن سمعت الخبر، حتى هتفت: الله أكبر، الله أكبر، قالت لي عمتي حينما سمعت تكبيري: خيبك الله، والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادمًا ما فعلت شيئًا فوق ذلك، قلت لها: أي عمة: إنه والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، وقد بعث بما بعث به، فسكتت وقالت: هو النبي الذي كنتم تخبروننا أنه يبعث مصدقًا لما قبله، ومتممًا لرسالات ربه، قلت: نعم، قالت: فذلك إذًا، ثم مضيت من توِّي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأيت الناس يزدحمون ببابه، فزاحمتهم حتى صرت قريبًا منه، فكان أول ما سمعته منه قوله: "أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". أخرجه الترمذي وابن ماجه والداري.

فجعلت أتفرّس فيه، وأتملّى منه، فأيقنت أن وجهه ليس بوجه كذاب، ثم دنوت منه، وشهدت أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فالتفت إليّ -عليه الصلاة والسلام-، وقال: ما اسمك؟! قلت: الحصين بن سلام، فقال -عليه الصلاة والسلام-: بل عبد الله بن سلام، قلت: نعم عبد الله بن سلام، والذي بعثك بالحق، ما أحب أن لي به اسمًا آخر بعد اليوم.

ثم انصرفت من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيتي، ودعوت زوجتي وأولادي وأهلي إلى الإسلام، فأسلموا جميعًا، وأسلمت معهم عمتي خالدة، وكانت شيخة كبيرة، ثم قلت لهم: اكتموا إسلامي وإسلامكم عن اليهود حتى آذن في حجرة من حجراتك، ثم تسألني عن منزلتي عندهم، قبل أن يعلموا بإسلامي، ثم تدعوهم إلى الإسلام، فإنهم إن علموا أنني أسلمت عابوني ورموني بكل ناقصة، وبهتوني، فأدخلني النبي -عليه الصلاة والسلام- في بعض حجراته، ثم دعاهم إليه، وأخذ يحضهم على الإسلام ويحبب إليه الإيمان، ويذكرهم بما عرفوه في كتبهم من أمره، فجعلوا يجادلونه بالباطل، ويمارونه في الحق، وأنا أسمع، فلما يئس من إيمانهم قال لهم: ما منزلة الحصين عندكم؟! قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وعالمنا وابن حبرنا وابن عالمنا، فقال: أفرأيتم إن أسلم أفتسلمون، قالوا: حاشا لله، ما كان له أن يسلم، أعاذه الله من أن يسلم، قال: فخرجت إليه، وقلت: يا معشر اليهود: اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به محمد، فوالله، إنكم لتعلمون أنه لرسول الله، وتجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة باسمه وبصفته، وإني أشهد أنه لرسول الله، وأؤمن به، وأصدقه وأعرفه. فقالوا: كذبت، والله إنك لشرنا، وابن شرنا، وجاهلنا، وابن جاهلنا، ولم يتركوا عيبًا إلا عابوه فيَّ. فقلت للنبي -عليه الصلاة والسلام-: ألم أقل لك -يا رسول الله-: إن اليهود قوم بهتان وباطل، وإنهم أهل غدر وفجور.

أن تكون منصفًا شيء من أساس إيمانك، أن تنصف الناس، أكثر الناس، إما لهم إنسان يثنون عليه، فإن خالفهم ينتقصون منه، العبرة أن تكون مع الحق لا أن تكون مع نفسك، العبرة أن تكون مع الحق لا أن تكون مع هواك، العبرة أن تكون مع المنطق، ومع الحكم الموضوعي، والموضوعية -أيها الإخوة- قيمة من أرقى قيمة العلم، وهي قيمة من أرقى قيم الأخلاق، ولا يلتقي العلم والأخلاق إلا في الموضوعية.

وطِّن نفسك على أن تكون منصفًا، على أن تلقي حكمًا موضوعيًّا لا أن تبالغ في المديح، ولا أن تبالغ في الإساءة.

أيها الإخوة الكرام: أعود وأقول: الحق لا يخشى البحث، ولا يحتاج أن تكذب له، ولا أن تكذب عليه، ولا يحتاج أن تبالغ فيه، ولا أن تقلل من قيمة خصومه، إن الحق هو الله -عز وجل-، كن مع الحق ولا تبالي:

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنعام: 91].

ما أروع أن يكون الإنسان ذا أحكام موضوعية، أن يعرف ما للناس وما عليهم، قال بعضهم -وقد أعجبني قوله-: يجب أن تعرف ما للناس، ليس وما عليهم، وما عليك أنت تجاههم، اعرف ما لهم وما عليك تجاههم.

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، لك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحًا يقربنا إليك.

اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك، ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زادًا لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.  


تم تحميل المحتوى من موقع