حلاوة الإيمان

عبدالباري بن عواض الثبيتي

عناصر الخطبة

  1. ذاق طعم الإيمان
  2. حقيقة حلاوة الإيمان
  3. فضل من ذاق حلاوة الإيمان
  4. ثمن حلاوة الإيمان
  5. نماذج ممن ذاق حلاوة الإيمان
  6. مظاهر حلاوة الإيمان
  7. لذة العبادات

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله -عزّ وجلّ-، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].

عَن عبّاس بن عبد المطلِّب أنّه سمِع رسول الله يقول: "ذاق طعمَ الإيمان مَن رضيَ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا ورسولاً". أخرجه مسلِم.

إنَّ من رضِي بالله ربًّا أحبَّه وتوكَّل عليه واستعانَ به واكتفى به سبحانَه ولم يطلب غيره؛ لأنَّ الكلَّ غيرَه عاجزون ضِعاف، ومن لم يكفِه الله لم يكفِه شيء، ومن رضِي بالله حازَ كلَّ شيء، ومن استغنى بالله لم يكن فقيرًا إلى أيّ شيء، ومن اعتزَّ بالله لم يذلَّ لأيّ شيء، قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36].

عن أنسِ بن مالك -رضي الله عنه- عن النبيِّ قال: "ثلاثٌ من كنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذَف في النّار". أخرجه البخاري ومسلم.

حلاوةُ الإيمان استِلذاذ الطاعات وتحمُّل المشقَّات في رضَا الله -عزّ وجلّ-، وهي انشراحُ الصدر ولذّة القلب. للإيمانِ طعم وللإيمان حلاوة، لا يتذوَّقها إلاّ من كان لذلك أهلاً، فالإيمان إذا باشر القلبَ وخالَطَته بشاشتُه له من الحلاوةِ في القلب واللّذّة والسرور والبهجَة ما لا يمكِن التعبير عنه لمن لم يذُقه كما ذكر ذلك الصالحون: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:58].

مَن ذاق طعمَ الإيمان فمِن الصَّعب أن يتركَه ويولِّيَ وجهَه شطرَ غيره، حتى إنه ليتفانى في سبيلِه ويضحِّي بكلّ شيء من أجله. إنَّ حلاوةَ الإيمان إذا خالطَت بشاشةَ القلوب تجعل صاحبَها مع الله سبحانه في كلّ وقتٍ وحين، في حركاتِ العبد وسكناته، في ليله ونهاره، مع الله خالقه وبارئه وموجِده وناصره؛ ولذلك أمرنا رسولُنا أن نقولَ دائمًا: "رضِيتُ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا". أخرجه الترمذي.

عَن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "النظرةُ سهمٌ من سِهام إبليس مسمومَة، فمَن تركها مِن خوف الله أثابه -جَلّ وعزَّ- إيمانًا يجِد حلاوتَه في قلبه". مَن ترك المعصيَة أيَّ معصيةٍ مخافةَ الله واستحياءً منه سبحانه فإنَّ الله يكافِئه بأن يبدِلَه عن هذه المعاصي إيمانًا يذوق طعمَه ويجِد له حلاوةً في القَلب.

حلاوةُ الإيمان لها ثمنٌ باهظ، حلاوة الإيمان لها آثار مباركةٌ عَظيمة، ثَمنُ حلاوة الإيمان أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما. قال شُرّاح الحديث: أن يكونَ الله في قرآنِه والرّسول في سنَّته أحبَّ إلى المؤمن مما سواهما، وحينما تتعارَض مصلحتُك مع الشّرع تقدِّم الشرعَ ورضا الله، وتختار طاعةَ الله ورسولِه على هوى النّفس وغيرها، فيكون الله تعالى عنده هو المحبوب بالكلِّيّة، وعند ذلك تصير النفس متعلِّقةً بالله سبحانه في كلّ وقت وحين.

محبّةُ رسول الله تعني أن لا يتلقَّى المسلم شيئًا من المأمورات والمنهياتِ إلاّ من مشكاته، ولا يسلكَ إلا طريقتَه حتى لا يجدَ في نفسه حرجًا ممّا قضاه، ويتخلَّق بأخلاقِه في الجودِ والإيثارِ والحِلم والتواضع وغيرها.

وثمنُ حلاوةِ الإيمان أن يحبَّ المرءَ لا يحبّه إلا لله، وهذا يعني أن يبنيَ المؤمن علاقاتِه على أساسِ الإيمان؛ يوالي المؤمنين ولو كانوا ضعافًا وفقراء، يبغض العصاةَ والمشركين ولو كانوا أقوياءَ أغنياء.

حقيقةُ الحبِّ في الله أن لا يزيدَ بالبرّ ولا ينقصَ بالجفاء، والحديث بعمِّق معاني الأخوَّةِ الإسلاميّة التي لا تكونُ خالِصَةً ولا تكون متماسِكَة ولا تكون متعاوِنَةً إلا حين تكون للهِ وفي الله وفي مرضاةِ الله سبحانه.

الأخوَّةُ الإسلاميّة التي تُتَذوَّق بها حلاوة الإيمان تكون ملازمةً للتقوى، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10]، وقال تعالى: ﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67].

وثمنُ حلاوة الإيمان أن يكرَهَ أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذَفَ في النار، هناك من يعبُدُ الله على حرفٍ؛ إن أَصابَه خَيرٌ اطمَأَنَّ به، وإن أَصابَته فتنَةٌ انقَلبَ عَلى وَجهه خَسرَ الدّنيَا وَالآخرَةَ، إذا أقبلتِ الدنيا آمن، وإذا أدبرتِ الدنيا تبرَّأ من الإيمانِ وعاد إلى ما كان عليه، والمؤمن الحقُّ لا يتأثَّر بإقبالِ الدنيا ولا بإدبارها، ثابِتُ الجنان، صاحب عطاءٍ، في المنشَط والمكره، في الفقر والغِنى، في الصحَّة والمرض، الذين ذاقوا حلاوةَ الإيمان مِنَ السلَف وصفوا هذه اللذَّةَ، يقول أحدهم: "إنّه ليمرُّ بالقلب لحظاتٌ أقول: إن كان أهل الجنّة في مثل هذا إنّهم لفي نعيم"، ويقول آخر: "إنَّ في الدنيَا جنّةً من لم يَدخلها لم يدخُل جنّةَ الآخرة"، ويقول ثالث: "فإنَّ للإيمان فرحةً ولذّة في القلب، فمن لم يجِدها فهو فاقدُ الإيمان أو ناقِصُه، وهو من القِسم الذين قال الله -عزّ وجلّ- فيهم: ﴿قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات:14]".

مِن الذين ذاقوا حلاوةَ الإيمان خُبَيب بن عديّ -رضي الله عنه-، قيل له: أتحبّ أن يكونَ محمّد مكانَك وأنت معافًى في أهلِك، وكان على وشَكِ أن يقتَل صَلبًا، فقال: "والله، ما أحبّ أن أكونَ في أهلي وولَدي وعندي عافيَةُ الدنيا ونعيمها ويصابُ رسول الله بشَوكة".

التي ذاقَت حلاوةَ الإيمان بلَغَها أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قد قتِل في أحُد، فانطلَقَت إلى ساحةِ المعركَة فإذا أبوها مقتولٌ وأخوها مقتول وابنها مقتولٌ وزوجها مقتول فقالت: ما فعَل رسول الله؟! فلمّا وقَعت عينُها على شخصِ النبيّ اطمأنَّت وقالت: يا رسولَ الله: كلُّ مصيبةٍ بعدك جَلَل. أي: تهون.

الذي يذوقُ طعمَ الإيمان لو تقطِّعُه إربًا إربًا لا يتَزحزَح عن دينه، وضَعوا على صدرِ بِلال -رضي الله عنه- صخرةً ليكفُرَ فكان يقول: "أَحَد أَحَد، فَردٌ صمَد". وهِرقلُ مَلِك الروم عاصر النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- سألَ أبا سفيان: هل يرتدُّ أحدٌ منهم سَخطةً لدينه؟! فقال: لا، قال: كذَلِك الإيمان إذا خالَطَت حلاوتُه بشاشةَ القلوب.

إخوةَ الإسلام: إذا ذاقَ المسلم حلاوةَ الإيمان غدا إنسانًا آخر، لحياته طعمٌ آخر، يبنيها على العطاءِ، يسعَد بما يعطي لا بما يأخُذ، يقدِّم الخيرَ للآخرين، يحبّ أن يكون عظيمًا عندَ الله ولو كان عند الناسِ أقلَّ شأنًا، يبتَعِد عن الآمالِ ويتَّجِه إلى الأعمال، قال تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ [النساء:123].

مَن ذاق حلاوةَ الإيمان انشرَحَ صدرُه واطمأنَّ قلبه وسكنَت نفسُه، يعتقد من سُوَيداء قلبِه أنَّ الأرزاقَ بيد الله، وأنَّ ما بسطه الله على عبدٍ لم يكن لأحدٍ أن يمنعَه، وأنَّ نفسًا لا تموت حتى تستوفيَ رِزقَها وأجلَها.

مِن مظاهر حلاوةِ الإيمان أن يتحرَّرَ المؤمن من الهوى ونزعاتِ النفس الأمّارةِ وفتنةِ المال، يتحرَّر من الشحِّ المادّيّ والنفسيّ والإمساكِ والتقتير، يتحلَّى بالمراقبة لله والإخلاصِ له وبمعاني الكرَم والإيثار، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل:97].

بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحده لا شريكَ له إله البريَّات، وأشهد أنّ سيدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الهادي إلى سبيل المكرمات، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه.

أمّا بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ.

حلاوةُ الإيمان تضفِي على العبادات كلِّها لذّةً، قال أحدُ السّلف: "كلُّ مَلذوذ إنما له لذّة واحِدة إلاّ العبادة، فإنَّ لها ثلاثَ لذّات: إذا كنتَ فيها، وإذا تذكَّرتها، وإذا أُعطِيتَ أجرَها".

مَنْ ذاق حلاوةَ الإيمان ذاق لذّةَ الصلاة حين يؤدِّيها بخشوعٍ وحضور قلب، فتغدو الصلاة قرّةَ عَينه ونعيمَ روحِه وجنّةَ قلبه ومستراحَه في الدنيا، فما يزال في ضيقٍ حتى يدخلَ فيها؛ ولذا قال إمامُ المتّقين -صلى الله عليه وسلم-: "أرِحنا بها يا بلال".  

ولِقيام الليل عند الصحابة والتابعينَ والسلف منزلةٌ عظيمة ولذّة لا تبارَى، ها هو أحدُ المؤمنين يقول: "والله، لولا قيام الليل ما أحبَبتُ البقاء في هذه الدّنيا. والله، إنَّ أهلَ الليل في ليلِهم مع الله ألذّ من أهل اللّهوِ في لهوِهم"، ويقول: "إن كان أهلُ الجنّة في مثل ما أنا فيه إنهم لفِي نعيمٍ عظيم"، ويقول آخر: "ما بَقِي من اللّذاتِ في الدنيا إلاّ ثلاث: قيام الليل، ولقاءُ الإخوان، والصلاة في الجماعة".

والصيام -عباد الله- يتلذَّذ به السّلَف الصالحون أيّما لذَّة، أمّا الحجّ فإنَّ لذّته تدفع أصحابَه إلى ركوب المطايا وتجشُّم المشاقّ حنِينًا إلى البيت وشوقًا إليه، ولذِكرِ الله لذّةٌ وأيّ لذّة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والإنسانُ في الدّنيَا يَجِد في قلبِه بذكرِ الله وذكرِ مَحَامِده وآلائه وعبادَاتِه مِنَ اللّذّة ما لا يجِدُه في شيءٍ آخر". ثم هَل لقراءَة القرآن وتلاوته لذة؟! يشَخِّص حالَنا مع القرآنِ عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بقوله: "لو طهرت قلوبُكم ما شبِعَت مِن كلامِ ربِّكم".

فهلاَّ سَعَينا -عبادَ الله- بعملٍ مخلَص ومثابَرَة جادّة لنذوقَ حلاوةَ الإيمان ونعيشَ طعمَ الإيمان، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء:19].

ألا وصلوا –عباد الله- على رسولِ الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين…  


تم تحميل المحتوى من موقع