نقد الرأسمالية

سامي بن عبد العزيز الماجد

عناصر الخطبة

  1. الأزمة المالية وأسبابها وتداعياتها
  2. فلسفة النظام الرأسمالي
  3. مساوئ النظام الرأسمالي
  4. لماذا كانت الزكاة خيرًا من الضرائب وأجدى نفعًا؟
  5. نظام الإسلام صارم في منع الاستغلال لحاجة الناس
  6. مصائب تغييب أحكام الشريعة
  7. كثرة مزايا نظام التمويل الإسلامي
  8. والحق ما شهدت به الأعداء
  9. الاقتصاد الإسلامي وشهادات المنصفين من الغربيين

أيها الأحبة في الله: لا يزال الحديث موصولاً عن الأزمة المالية بأسبابها وتداعياتها، كان الحديث في الجمعة الماضية عن تفسير ما حدث، ولفت الأنظار إلى أن الأسباب الرئيسة للأزمة تنحصر في أمور ثلاثةٍ كلها محرمة في الإسلام، وهي: الربا، والميسر الذي من أشهر صوره المقامرات، والغرر الذي يكون الربح فيه لأحد الطرفين على حساب خسارة الطرف الآخر لزامًا.

وهذا أوان الحديث عن القاعدة العريضة التي نشأت عليها الأسباب الرئيسة للأزمة، وكانت لتلك الأسباب المهلكة بمثابة القانون الذي يسوِّغ وجودَها، ويباركُ نَتاجها، ويحمي المتعاملين بها…إنه النظام الرأسمالي الذي تتخلص فلسفته في المقولة الشهيرة: "دعه يعمل…دعه يمر" أي بدون ضرائب جمركية.

الرأسمالية تمنح للفرد مطلقَ الحرية في تكوين ثروته بأي وسيلة يرغبها، من غير تدخل للدولة في ذلك، والعجيب أن هذه الحرية المطلقة للتملك انقلبت على الدولة؛ إذ أسهمت مبادئ الرأسمالية في إخضاع الدولة لسيطرة الرأسماليين، وصارت أكثر نظمها في صالح الغني القوي على حساب الفقير الضعيف.

إن ما تفاخر به الرأسمالية من أنها تمنح للفرد حق التملك ليس تميزًا تنفردُ به عن سائر النُظم؛ فقد سبقها إلى ذلك الإسلام، فمنح للفرد حق التملك؛ لكنه قيّد ذلك بقيود تمنع مصلحةَ الفرد أن تُقدم على مصلحة الجماعة، وتمنع الأموال أن تتكدّس في قلةٍ تتحكم في كثرة؛ كما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: 7] فأعطى الضعفاء والفقراء من هذه الموارد من أجل ألا يكون المال حكرًا على الأغنياء يتداولونه بينهم، وهذه قاعدة في الأموال كلها لا تختص بمال الفيء.

وفي الإسلام شريعة الزكاة وهي خير من الضرائب وأجدى نفعًا؛ لأنها تؤخذ على رأس المال، وليس على الدخل؛ كما هو الحال في النظام الرأسمالي؛ حيث يعتمد النظر على دخل الفرد في السنة المالية، بغض النظر عما تكدس لديه سابقًا من رأس المال.

ونظام الإسلام صارم في منع الاستغلال لحاجة الناس، وهو في ذلك أشد صرامة من النظام الرأسمالي، فالاحتكار حرام، وتلقي الجلب والركبان حرام، ولكل واحد من المتبايعين حق خيار الغبن، بأن يفسخ العقد إذا وجد نفسه مغبونًا غبنًا فاحشًا في بيعه أو شرائه، إلى غير ذلك من التشريعات التي تمنع الاستغلال الفاحش لحاجات الناس وضروراتهم، بخلاف الرأسمالية التي لا تمنع إلا بعض صور الاحتكار فحسب.

أيها الأحبة: إننا لا نقارن بين التشريع الإسلامي والنظامِ الرأسمالي لأننا من أحكام ديننا في شك؛ ولكن نقارن لنبين وجه المفارقة الكبيرة بين إسلامنا ونظامِهم الرأسمالي. فقد توهّم بعض المسلمين أن الفروق بينهما يسيرة ليست بجوهرية.

وينبغي أن نعطف بأنظارنا إلى أمر آخر مهم، وهو أن تخلفنا وما أنتجه من مشكلات عويصة مردّه إلى ضعف تمسكنا بالإسلام ومخالفتنا لكثيرٍ من نظمِه وتشريعاته.

وربما اعترض بعضهم: كيف هذا ونحن نرى العاطفة الدينيةَ في الشعوب الإسلامية جيّاشة، وكيف هذا ونحن نرى التدين صبغة ظاهرة في المجتمعات الإسلامية.

والجواب: أن أكثر ما نراه من عاطفة التدين وصبغته وسماتِه وشاراتِه إنما هو تدين شخصي وفي شؤون العبادات بخاصة.

ولكن انظر إلى كثيرٍ من النظم القائمة في المجتمعات الإسلامية تجد كثيرًا من أحكام الشريعة فيها مغيَّبة، زيادة على أن تدين بعض الناس تدينٌ منقوص لا يمتد إلى بساط المعاملات المالية.

هذا هو الشأن في سبب تخلفنا، أما سبب المشكلات المالية الراهنة التي يعاني منها الغرب فليس مردُّ ذلك إلى كونهم لم يأخذوا النظام الرأسمالي بحذافيره، أو أنهم قد تخلوا عن بعض مبادئه، بل سبب مشكلاتهم المالية وما أفرزته من مشكلات اجتماعية أخلاقية هو تمسكهم بمبادئ الرأسمالية كلها من غير تعديل جوهري عليها.

وإنها لمفارقة بعيدةُ الأطراف: أن تقع مشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية بسبب تفريطنا في شرائع الإسلام، وأن تأتي مشكلاتهم بسبب فُرط تمسكهم بمبادئهم الرأسمالية.

وإذا كان العمل بالنظرية بحذافيرها هو الذي أفرز هذه الأزمة، فإن المنطق يملي في هذا الشأن شيئًا واحدًا، وهو أن علاج الأزمة يتطلب الخروج والتمرد على ما تقتضيه تلك النظرية المشؤومة.

وهذا ما أدركه بعض عقلاء الغرب اليوم، فمن الآثار الحسنة لهذه الأزمة أن كثيرًا من المفكرين من اقتصاديين وغيرهم لم يعودوا يؤمنون بالنظرية الرأسمالية القحة، بل صاروا يدعون إلى تدخل من الدولة لإقرار العدل ونصرة الطبقة الدنيا، ومنع الأنانية بكل صورها المالية.

يقول أحد أساتذة القانون في إحدى الجامعات الأمريكية العريقةِ في مقال له عن الكارثة الاقتصادية الحالية "لقد بات التمويل الإسلامي يثير قدرًا هائلاً من الفضول الأكاديمي. وكثيرون من الخبراء الذين شاركوا في المنتدى الثامن لجامعة هارفارد حول التمويل الإسلامي الذي أقيم في نيسان (أبريل) من هذا العام كانوا يتساءلون حول إذا ما كان بمقدور التمويل الإسلامي أن يمنع حالة الذوبان التي تشهدها الأسواق الأمريكية بسبب ديون الرهن والأوراق المالية المدعومة بالرهن- التي تعرف الآن بالاستثمارات السامة".

وفي افتتاحية مجلة "تشالينجز"، كتب "بوفيس فانسون" رئيس تحريرها موضوعا بعنوان (البابا أو القرآن) أثار موجة عارمة من الجدل وردود الأفعال في الأوساط الاقتصادية.

فقد تساءل الكاتب فيه عن أخلاقية الرأسمالية؟ وعن دور الكنيسة في تكريس هذا المنزع والتساهل في تبرير الفائدة، مشيرًا إلى أن هذا النسل الاقتصادي السيئ أودى بالبشرية إلى الهاوية.

وقال: "أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلاً من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود".

وكتب رئيس تحرير إحدى المجلات الفرنسية مقالاً بعنوان: "هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية؟ "

كما أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية قرارًا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية التي يتميز بها النظام الرأسمالي واشتراط التقابض في أجل محدد بثلاثة أيام لا أكثر من إبرام العقد، وهو ما يتطابق مع أحكام الفقه الإسلامي.

كما أصدرت الهيئة نفسها قرارًا يسمح للمؤسسات والمتعاملين في الأسواق المالية بالتعامل مع نظام الصكوك الإسلامي في السوق الفرنسية.

والصكوك الإسلامية هي عبارة عن سندات إسلامية مرتبطة بأصول ضامنة بطرق متنوعة تتلاءم مع مقتضيات الشريعة الإسلامية.

كما اقترح أحد الخبراء الاقتصاديين الغربيين وهو حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد للخروج من الأزمة وإعادة التوازن شرطين هما تعديل معدل الفائدة إلى حدود الصفر ومراجعة معدل الضريبة إلى ما يقارب 2%. وهو ما يتطابق تماما مع إلغاء الربا ونسبة الزكاة في النظام الإسلامي.

أيها الأحبة: إننا لا ننقل هذه المقولات الغربية لنزداد يقينًا بتشريعات ديننا، ولا لندفع عن أنفسنا الشك في بعض أحكامنا الشرعية؛ ولكنني أنقله لكم لتروا مبلغ المفارقة المحزنة بين المتغربين بعقولهم وأفئدتهم من أبنائنا الذين لا يقنعون بصحة شيء؛ إلا أن يأتي من الغرب أو يؤكده الغرب، وبين عقلاء غربيين بلغت بهم الشجاعة في زمن محاربة الإسلام وتشويه صورته وتجريم أهله بالإرهاب أن يقولوا هذا القول ويعلنوا به في الملأ في صحفهم ومجلاتهم.

اللهم اهد ضال المسلمين وردهم إليك ردًّا جميلاً، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد…

بارك الله

الخطبة الثانية:

أما بعد: فإنك حين تجد بعضَ دعاةِ الرأسمالية في الغرب لا يزالون يدافعون عنها على ما يرون من آثارها الضارة، فلا يوهِمنَّك ذلك أن سببَ الأزمة المالية لا يمتد لمبادئ الرأسمالية بصلة، أو أن الرأسمالية بريئة كل البراءة من أسباب الأزمة وتداعياتِها.

إن بعض دعاتها لا يزالون يدافعون عنها؛ لأنهم يظنون أن البديل الوحيد للنظام الرأسمالي الذي عهدوه هو النظام الماركسي الذي عرفوا صورا منه في عقود ماضية. وهم بهذا يخلطون بين كون الرأسمالية اقتصاد سوق وبين كون كل اقتصاد سوق هو بالضرورة اقتصاد رأسمالي.

لكن الحقيقة هي أن هنالك بديلاً ثالثًا هو الاقتصاد الإسلامي الذي هو اقتصاد سوق لكنها سوق منضبطة بضوابط القيم الإسلامية وهي قيم يغلب عليها مراعاة مصالح الضعفاء والمحتاجين يجنب المجتمعات ذلك التفاوت الواسع الذي تفرزه النظرية الرأسمالية وتورث به الطبقية في المجتمعات.

وبعد: فإن نقدنا للرأسمالية وذمَّنا لما تمارسه المؤسسات الماليةُ الغربية من استغلال واحتكار وجشع وأنانية مقيتة ينبغي ألا يُفهم منه أننا نمنح بذلك شهادات حُسنِ سيرة وسلوك لبعض بنوكنا التي تدعي التحول للمصرفية الإسلامية، فلا علاقة بين الأمرين، وذم ما في النظام الغربي الرأسمالي لا يعني مدح هذه البنوك المحلية، ففي كثير منها من مبادئ الرأسمالية الشيء الكثير تمارسه بغطاء تسمية تعاملات إسلامية، وإنما هي إجراءات شكلية لتستر سوأتها الرأسمالية، والعقلاء لا تنطلي عليهم هذه الحيل، ولا يندفعون بعاطفتهم إلى الدفاع عنها.  


تم تحميل المحتوى من موقع