لقد بيّن الله لنا المنهج السليم والصراط المستقيم، وأرسل الرسل وأوضح المحجة، فما لأحد من عذر ولا نكير، فالناس في هذه الدنيا بين طائع لربه، وإذا وقع في زلة تاب وأناب إلى ربه، وبين مقصر ومعرض وهو مع ذلك معترف بذنبه، مقر بخطيئته، ويحاول الرجوع وتأبى عليه نفسه، ويغلبه هواه، وهو مع ذلك في صراع ويرجى له الرجوع والتوبة، وصنف من الناس أعاذنا الله وإياكم من حالهم من المعرضين الخاطئين...
إن الحمد لله...
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: إن المؤمن في دار العمل وهو يسير في دنياه تحت رقابة مولاه: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الإنفطار12:10] .
فكل عمل تعمله -يا ابن آدم- فإنه بعلم الله، وهو في كتاب: (وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ في ِالسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [يونس:61].
ثم إذا جاء يوم القيامة تكشفت الأمور، وظهر المكنون، وبدا للناس ما لم يكونوا يحتسبون: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49].
عباد الله: لقد بيّن الله لنا المنهج السليم والصراط المستقيم، وأرسل الرسل وأوضح المحجة، فما لأحد من عذر ولا نكير، فالناس في هذه الدنيا بين طائع لربه، وإذا وقع في زلة تاب وأناب إلى ربه، وبين مقصر ومعرض وهو مع ذلك معترف بذنبه، مقر بخطيئته، ويحاول الرجوع وتأبى عليه نفسه، ويغلبه هواه، وهو مع ذلك في صراع ويرجى له الرجوع والتوبة، وصنف من الناس أعاذنا الله وإياكم من حالهم من المعرضين الخاطئين، وهم مع ذلك يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فهم في غيهم يعمهون، فقل لي بربك متى يعود هذا وأمثاله: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف:104].
معاشر المؤمنين: إن من أخطر الأمور التي نقع فيها ويقع فيها كثير من الناس، الاغترار بالله، والأمن من مكره سبحانه مع العمل الدؤوب في الدنيا، والإغراق في ملاذها، والعزوف عن عمل الآخرة.
والبعض الآخر من الناس، قد أمن من مكر الله، اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه وضيعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند، قال معروف الكرخي: "رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق".
ومن تدبر في شرع الله تعالى وحدوده التي حدها للناس علم معنى أن الله شديد العقاب.
قال أبو الوفاء بن عقيل: "احذر ولا تغتر، فإنه قطع اليد في ثلاثة دراهم، وجلد الحد في مثل رأس الإبرة من الخمر، وقد دخلت المرأة النار في هرة، واشتعل الشملة نارًا على من غلها شهيدًا".
والحق -معاشر المؤمنين- أننا كلنا ذلك المغتر، وتتفاوت رتب الاغترار من شخص للآخر.
فلنحذر قبل فوات الأوان، ولنراجع ديننا ولنتلافَ أخطاءنا، ولا نكن كمن اغتر بما يرى من نعم الله عليه في الدنيا، ويظن أن ذلك من محبة الله له، وأنه يعطيه في الآخرة أفضل من ذلك، فهذا من الغرور.
وقال بعض السلف: إذا رأيت الله -عز وجل- يتابع عليك نعمة وأنت عاصيه فاحذره، فإنما هو استدراج منه يستدرجك به، وقد قال تعالى: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف33 :35]. وقد رد سبحانه على من يظن هذا الظن بقوله: (فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ) [الفجر15 :16]، (كَلاَّ) أي ليس كل من أنعمته ووسعت عليه رزقه أكون قد أكرمته، وليس كل من ابتليته وضيقت عليه رزقه أكون قد أهنته، بل أبتلي هذا بالنعم، وأكرم هذا بالابتلاء، وقال بعض السلف: "رب مستدرج بنعم الله عليه وهو لا يعلم، ورب مغرور بستر الله عليه وهو لا يعلم، ورب مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم".
قال ابن القيم: "إن أعظم الخلق غرورًا من اغتر بالدنيا وعاجلها، فآثرها على الآخرة، ورضي بها من الآخرة، حتى يقول بعض هؤلاء: الدنيا نقد والآخر نسيئة، والنقد أنفع من النسيئة، ويقول بعضهم: درة منقودة ولا درة موعودة، ويقول آخر منهم: لذات الدنيا متيقنة، ولذات الآخرة مشكوك فيها، ولا أدع اليقين للشك، وهذا من أعظم تلبيس الشيطان وتسويله، والبهائم العجم أعقل من هؤلاء، فإن البهيمة إذا خافت مضرة شيء لم تقدم عليه ولو ضربت، وهؤلاء يقدم أحدهم على ما فيه عطبه وهو ينظر إليه، وهو بين مصدق ومكذب، فهذا الضرب إن آمن أحدهم بالله ورسوله ولقائه والجزاء فهو من أعظم الناس حسرة؛ لأنه أقدم على علم وإن لم يؤمن بالله ورسوله فأبعد له".
معاشر المؤمنين: من تأمل هذا عجب كيف يجتمع في قلب العبد تيقنه بأنه ملاقي الله وأن الله يسمع ويرى مكانه، ويعلم سره وعلانيته، ولا يخفى عليه خافية من أمره، وأنه موقوف بين يديه، ومسؤول عن كل ما عمل وهو مقيم على مساخطه، مضيع لأوامره، معطل لحقوقه، وهو مع هذا يحسن الظن به، وهل هذا الأمن إلا خدع النفوس وغرور الأماني.
أخرج الإمام أحمد في مسنده قال: قال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: دخلت أنا وعروة بن الزبير على عائشة -رضي الله عنها-، فقالت: لو رأيتما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرض له، وكانت عندي ستة دنانير أو سبعة، فأمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أفرقها، قالت: فشغلني وجع رسول الله حتى عافاه الله، ثم سألني عنها فقال: "ما فعلت؟! أكنت فرقت الستة الدنانير؟!"، فقلت: لا والله، لقد شغلني وجعك، قالت: فدعا بها فوضعها في كفه فقال: "ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده!!"، وفي لفظ: "ما ظن محمد بربه لو لقي الله وهذه عنده!!".
فيا لله ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بالله إذا لقوه ومظالم العباد عندهم!! فإن كان ينفعهم قولهم حسنَّا ظنوننا بك لم يعذَّب ظالم ولا فاسق، فليصنع العبد ما شاء، وليرتكب كل ما نهاه الله عنه، وليحسن ظنه بالله، فإن النار لا تمسه، فسبحان الله ما يبلغ الغرور بالعبد!! وقد قال إبراهيم لقومه: (أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات86 :87]، أي ما ظنكم أن يفعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟!
اللهم أعذنا من الغرور، واجعلنا ممن استعد ليوم البعث والنشور.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين...
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا ربًّا أنتم ملاقوه، فمكلم كل واحد منا بلا ترجمان، وأعدوا للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا.
عباد الله: فرق بين حسن الظن بالله والأمن من مكر الله والاغترار به سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان:33].
فالفرق بين حسن الظن والغرور أن حسن الظن إن حَمَل على العمل وحث عليه وساعده وساق إليه فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي فهو غرور، وحسن الظن هو الرجاء، فمن كان رجاؤه جاذبًا له على الطاعة زاجرًا له عن المعصية فهو رجاء صحيح، ومن كانت بطالته رجاءً ورجاؤه بطالة وتفريطًا فهو المغرور.
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:218].
فتأمل كيف جعل رجاءهم فعل هذه الطاعات، (آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ)، ثم هم يرجون رحمة الله.
وقد قال تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النحل:110]، فأخبر سبحانه أنه بعد هذه الأشياء غفور رحيم لمن فعلها، فالعالم العاقل يضع الرجاء في مواضعه، والجاهل المغرور يضعه في غير موضعه.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئًا استلزم رجاؤه ثلاثةَ أمور: أحدها محبته ما يرجوه، الثاني: خوفه من فواته، الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان، وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني، والرجاء شيء والأماني شيء آخر، فكل راجٍ خائف، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات، وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة".
معاشر المسلمين: من تأمل حال أفضل الخلق بعد الأنبياء والرسل وما هم عليه من الزهد والصلاح وما اقترن بهم من خوف ورجاء، علم يقينًا أنه من المفرطين، فاسمع إلى شيء من ذلك، فهذا الصديق -رضي الله عنه- ذكر عنه أحمد أنه كان يقول: "وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن"، وذكر عنه أيضًا أنه كان يمسك بلسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، وكان يبكي كثيرًا ويقول: "ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا"، وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله -عز وجل-، وأتي بطائر فجعل يقلبه ثم قال: ما صيد من صيد ولا قطعت من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح، ولما احتضر قال لعائشة: :"يا بنية: أني أصبت من مال المسلمين هذه العباءة وهذه الحلاب وهذا العبد، فأسرعي به إلى ابن الخطاب"، وقال: "والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد"، وقال قتادة: "بلغني أن أبا بكر قال: ليتني خضرة تأكلني الدواب".
وهذا عمر بن الخطاب قرأ سورة الطور إلى قوله: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)، فبكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه، وقال لابنه وهو في الموت: "ويحك، ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني"، ثم قال: "ويل أمي إن لم يغفر الله لي"، ثلاثًا، ثم قضى، وكان يمر بالآية في ورده بالليل فتخيفه فيبقى في البيت أيامًا، ويعاد ويحسبونه مريضًا، وكان في وجهه -رضي الله عنه- خطان أسودان من البكاء، وقال له ابن عباس: "مصّر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح، وفعل وفعل"، فقال: "وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر".
وهذا عثمان بن عفان كان إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته، وقال: "لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير".
وهذا على بن أبي طالب -رضي الله عنه- كان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، قال: "فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما إتباع الهوى فيصد عن الحق، ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة، والآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل".
ولو استعرضنا حالهم -رضي الله عنهم- لطال بنا المقام، ولكن يستدل المرء بهذا على تفريطه، وإساءته، فلعله يراجع نفسه قبل فوات الأوان.
اللهم وفقنا لهداك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي