سقوط بغداد والعبرة بذلك

خالد بن عبدالله الشايع
عناصر الخطبة
  1. العبرة في تقلب الليل الليالي والأيام .
  2. وقفات مع سقوط بغداد .
  3. ما يجب على المسلم حال الفتن .

اقتباس

الوقفة الرابعة: أن القتال لغير الله لا قائمة له، واستعرض ما شئت من الحروب تجد أن القتال إذا كان من أجل الوطن أو العروبة ونحو ذلك فإن الهزيمة له ولو بعد حين، بل تجد أن رؤساء الحروب يولون مدبرين أو خائنين عندما يجدون مطمعًا دنيويًا كما حصل في أرض...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

أما بعد:

فيا أيها المؤمنون: إن في تقلب الأيام والليالي لعبرًا لكل معتبر، أمم تبيد، وتعقبها أمم وأجيال تبيد ويعقبها أجيال، وهذه الدار دار العجائب، الكل يسعى فيها لمصلحة نفسه إلا من رحم الله تعالى.

فطوبى لمن كانت نظراته فكرًا تنفعه في دنياه وآخرته، فإن ما جرى ويجري بأرض العراق حوادث عصيبة تدمى لها القلوب المؤمنة، وإن للمسلم وقفات مع تلك الحوادث، نأتي على بعض منها وهي لا يأتي عليها العد ولا الحصر، فمستقل ومستكثر، والسعيد من أورثت هذه المواقفُ له قلبًا سليمًا ينتفع به في الآخرة قبل الدنيا.

فمن تلك الوقفات: أن العداء بين المسلمين والكفار من اليهود والنصارى متأصل ولن يزول إلا بزوالهم في آخر الزمن كما صحت بذلك الأحاديث والأخبار: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)، (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ)، فمن ظن أن النصارى -وفي مقدمتهم أمريكا رأس الكفر في هذا الزمن- يسعون لإحلال السلام وتطبيع العلاقات فهو من أجهل الناس، ولا أدل على ذلك من تلك الوقائع التي حصلت بعد دخولهم بغداد.

الوقفة الثانية: عدم الانخداع بما تبثه وسائل الإعلام من مخادعات، وأن لا يتصرف المسلم على ضوء نقولاتهم.

الوقفة الثالثة: أن الكفر ملة واحدة، وإن اختلفت مشاربهم، ولكنهم في وجه الإسلام يجتمعون، ولو رأيت بعضهم عنهم بمعزل فاعلم أنه لم ينعزل عنهم من أجل المسلمين ولكن من أجل مصالحهم الدنيوية.

الوقفة الرابعة: أن القتال لغير الله لا قائمة له، واستعرض ما شئت من الحروب تجد أن القتال إذا كان من أجل الوطن أو العروبة ونحو ذلك فإن الهزيمة له ولو بعد حين، بل تجد أن رؤساء الحروب يولون مدبرين أو خائنين عندما يجدون مطمعًا دنيويًا كما حصل في أرض العراق البائسة، ولهذا قال الله: (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ)، فالنصر من الله لمن نصر دينه وقاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وهذا أمر مطرد إلا أن يشاء الله لحكمة أرادها سبحانه، ولهذا فإن الله ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة بفضل طاعتهم وإيمانهم، والله تعالى خرق سننه الكونية من أجل عباده المؤمنين الصادقين، فهو سبحانه فلق البحر لموسى، وأوقف الشمس ليوشع، ونصر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على كفار قريش، وقد كانوا ثلاثة أضعافهم في غزوة بدر.

الوقفة الخامسة: معرفة دلائل قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "ألا إن القوة الرمي"، وقول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، فمن أعدّ العدة، وجيش الجيوش هابه أعداؤه، ولكن قل لي بربك إذا لم يكن لديك قوة ولم تستعد بها، وقد جعلت عدوك قوتك، فمن يعينك بعد الله إذا هجم عليك من كنت ترجو منه النصر!! والله المستعان.

الوقفة السادسة: التوكل على الله في جميع الأمور، والاعتصام به مع بذل السبب، وأن لا يعلق المرء رجاءه بغير الله، ولو بلغ ما بلغ، ويزداد الأمر وقت الفتن، فمن لم يعرف الله في الشدة فمتى يعرفه؟!

الوقفة السابعة: عدم تطبيق ما ورد في الفتن من نصوص على الواقع المعاصر؛ لأن منهج أهل السنة والجماعة عند حلول الفتن هو عدم تنزيلها على واقع حاضر، وإنما يتبين ويظهر صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما أنبأ وحدث به أمته من حدوث الفتن عقب حدوثها واندثارها، ومن أضرار تطبيقها على الواقع أن المطبق لها ينساق على ضوء ما تمليه له تلك الأحاديث، ولربما تكون ضعيفة لا تصح كما هو الحال في أحاديث السفياني الذي نشره الناس في هذه الفتنة.

الوقفة الثامنة: أن يتعلم المسلم في وقت الأزمات الصبر وعدم الاستعجال؛ يقول الله تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فأمره بالصبر، وأخبره أن وعد الله حق، وأمره أن يستغفر لذنبه، ولا تقع فتنة إلا مِنْ ترك ما أمر الله به، فإنه سبحانه أمر بالحق، وأمر بالصبر، فالفتنة إما مِنْ ترك الحق وإما مِنْ ترك الصبر، فالمظلوم المحق الذي يقصر في علمه يؤمر بالصبر، فإذا لم يصبر فقد ترك المأمور".

ويضيف المسلم للصبر الحلم والأناة؛ لأن ذلك يجعل المسلم يبصر حقائق الأمور بحكمة، ويقف على خفاياها وأبعادها وعواقبها، كما قال عمرو بن العاص في وصف الروم: "إنهم لأحلم الناس عند فتنة". اللهم قنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

لك اللهمَّ الحمدُ أجمع، حمدًا يُرضيك عَجْزُهُ، ويَسْتَزِيدُك الإنعامَ تقصيرُهُ.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدُهُ ورسوله.

فاللهم صَلِّ على مُحمّد وعلى أزواجه وذُرِّيَّتِهِ كما صلّيتَ على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجِه وذُرِّيَّتِهِ كما باركتَ على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ.

أما بعد:

فيا أيها المؤمنون: الدنيا مليئة بالدروس والعبر، فمن العبر التي يستفيدها المرء في هذه الأزمة العراقية، أن الملك لله وحده، فهو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء كما قال سبحانه: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ...)، يقول الله تعالى: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)، وقد جعل الله لكل هزيمة سببًا، فإذا كان الصحابة في غزوة بدر لما هزموا وولى بعضهم على أعقابهم قال الله فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا)، فكيف بأجيال هذا العصر!! ولهذا قال سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)، فالمعاصي تذر الديار بلاقع، فما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه، ولما فتح المسلمون قبرص فرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، قال جبير بن نفير: فرأيت أبا الدرداء جالسًا يبكي، فقلت له: يا أبا الدرداء: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! فقال: "ويحك يا جبير!! ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه وضيعوا أمره!! فبينما هم أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى".

أيها المؤمنون: ما أحوجنا في هذه الأزمات أن نقف فيها موقف المسلم الحق على وفق منهج النبوة، وذلك بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى، قال بعض السلف: لما فقد قوم يونس نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المسوح وألهوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب، يقول الله تعالى: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)، ولذا قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة".

وكذلك كثرة الاستغفار؛ لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

وكذلك كثرة الأعمال الصالحة، كما أخرج مسلم في صحيحه أن خديجة -رضي الله عنها- قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق". وأخرج مسلم في صحيحه عن معقل بن يسار -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "العبادة في الهرج -أي في الفتنة- كهجرة إليّ".

وكذلك الإلحاح على الله بالدعاء: أخرج مسلم في صحيحه من حديث معقل بن يسار –رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن". رواه مسلم.

وكذلك التواصي بالصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)، قال: مصلحون، ولم يقل: صالحون. أخرج أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".

وكذلك اجتناب الظلم، وهو التعدي على الناس في دمائهم أو أموالهم أو أعراضهم بغير حق، يقول الله تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً).

ومما يجب على المرء أن لا ييأس من نصر الله أو يقنط من موعود الله، فإن العاقبة للمتقين، ولربما تأخر النصر لحكمة أرادها الله سبحانه، فلنثق بالله، ولنعمل على تصحيح العقيدة وتقوية الإيمان، ولنستعد للجهاد، ولا نستعجل حتى يكتب الله لهذه الأمة فرجًا من عنده سبحانه.

اللهم قنا شر الفتن...
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي