فضائل شهر رمضان

عبدالعزيز بن عبدالله آل

عناصر الخطبة

  1. فرح المسلم بأداء فرائض الإسلام
  2. حكمة مشروعية الصيام
  3. فضائل شهر رمضان
  4. الهدي النبوي في استقبال شهر رمضان
  5. بعض أحكام الصيام

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدين. 

أمَّا بعد:

فيا أيُّها النَّاس: اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.

عباد الله: حياة المسلم موصوفة بالطيب والسعادة: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل:97]، فوُصفت حياة المؤمن بأنها طيبة، ووصفت بأنها السعادة: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود:108].

هذه الحياة الطيبة السعيدة، ما سبب حصول المسلم عليها؟ إن حصوله عليها إنما استحقه بكمال تعلق قلبه بربه محبة وخوفا ورجاء، فالمؤمن يعلم حقا أن الله خلقه لعبادته وحده لا شريك له، ليعمر الأرض بطاعة الله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56].

المؤمن يعلم حقا أنه عبد لله، خاضع لأوامره، مطيع له، مجتنب لنواهيه، لأن هذا هو الذي يمثل حقيقة الإيمان بالله.

إذا؛ فالمؤمن على يقين جازم بأنه خُلق ليعبد الله وحده لا شريك له: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58)﴾ [الذاريات:56-57].

فخلَقه الله لعبادته وحده لا شريك له، لتكون كل حياته لله: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ(163)﴾ [الأنعام:162-163].

ثم إن المؤمن مع هذا فرحٌ بخطاب الله له بما يأمره به وبما ينهاه عنه، فعندما يسمع الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:21]، يعلم أن هذا شرف من الله له، وعلو لمنزلته أن خاطبه بأمره بعبادته، وأنه خلقه لذلك.

ثم يسمع الله يناديه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج:77]، فيستجيب لهذا النداء، ويسمع الله يقول: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة:5]، ويسمع الله يقول له: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة:43]، ويسمع قول الله له: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة:283]، فيعلم أنه أُمر بالصلاة والزكاة.

ثم يسمع الله يقول له: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران:97]، فيحج بيت الله، ويعلم أنها تكريم من الله له، ثم يسمع الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ(184)﴾ [البقرة:183-184]، فيتلقى هذا الأمر برحابة صدر وفرح والسرور؛ ذلك لأن الله خاطبه باسم الإيمان، خاطبه بأسماء صفاته، وهو إيمانه بالله، مذكرا له بذلك الواجب العظيم، والركن الأكيد من أركان الإسلام: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.

فالمسلم دائما فرح بأداء فرائض الإسلام، إنْ أدى فريضة فالقلب متعلق بأداء الفريضة الأخرى، وإن أدى زكاةَ عامٍ فالقلب معلق بأنه -بتوفيق الله- سيؤديها في عام آخر، إن صام رمضان فقلبه متعلق متطلع إلى ذلك الشهر متى يأتي، وإن حج فالقلب في رغبة في تكرار الحج وأدائه.

إذا؛ فالمسلم في هذه الدنيا فرح، قلبه مملوء فرحاً وسروراً وارتباطا بتعلقه بربه، وقوة صلته بربه، واستجابته لأمر ربه، وإعراضه عما نهى الله عنه.

أيها المسلم: هذا اليوم، يوم الجمعة، أول شهر رمضان المبارك، أول شهر التاسع شهر رمضان، أهلَّ الشهر علينا بفضل الله وكرمه ونحن في أمن واستقرار وثبات، وخيرات متتابعة، ونعم مترادفة؛ فلنشكر الله على هذه النعمة، ولْنثني عليه بما هو أهله، ونسأل الله أن ينقذ الضعفاء والمظلومين من ظلم الظالمين، وعدوان المعتدين.

أيُّها المسلم: هذا شهر رمضان، أحد أركان الإسلام، الركن الخامس أو الرابع من أركان الإسلام، افترض الله صيامه على أمة الإسلام كما افترضها على مَن قبلنا من أتباع الأنبياء: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، أمرنا بصيام هذا الشهر، فنحن نصومه طاعةً لله، واستجابةً لأمر الله، وتنفيذا لذلك.

هذا الشهر العظيم الذي افترضه الله علينا بين لنا حكمته في ذلك فقال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، فبيَّن -تعالى- أن حكمته من فرض الصيام علينا لنكون بهذا الصيام من المتقين، ولنبلغ بهذا الصيام درجة المتقين الذين اتقوا الله في قلوبهم فقوي الإيمان، واتقوا الله بالقول في اللسان، واتقوا الله بعمل الجوارح، هذه التقوى إذا تأصلت في القلب أدت بصاحبها إلى العمل الصالح، "التقوى ها هنا"، فالتقوى الحقيقية في القلب، وهو الذي يثمر الأعمال الصالحة المتعددة.

أيُّها المسلم: لهذا الشهرِ فضائلُ عديدةٌ، وخصائصُ كثيرةٌ، بيَّنها ربُّنا، وبيَّنَها نبيُّنا محمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-، يذكِّر الإنسانُ بها نفسَه وإخوانَه؛ ليزدادَ المؤمنُ يقيناً ورغبةً في الخير، وحُبَّاً له. والمؤمن مسلمٌ للهِ أمرَه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب:36].

فمن فضائل هذا الصيام حصول التقوى للمسلم إذا صام هذا الشهر -بتوفيق من الله- بإخلاص ويقين.

ومن فضائله أن الله افترضه على المسلمين قديما وحديثا: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.

ومن فضائله أنه سبب لتكفير ما مضى وسلف من الذنوب: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غَفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ".

ومن فضائله أن الله أضافه إليه، وأضاف جزاءه إليه، يقول -صلى الله عليه وسلم-: قال الله: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلاَّ الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، فإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ؛ وإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ؛ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ! لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، ولِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ إذا أفطر عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ إذا لقي رَبِّهِ فرح بلقاء ربه".

أيُّها المسلم: كل عملك لك، إلا الصوم؛ فإن الله أضافه إليه، لأن الصوم سر بين العبد وبين ربه يظهر فيه الإخلاص الصادق، إذ المسلم في بيته يخلو بطعامه ومائه وزوجته؛ لكن يمتنع من ذلك في نهار الصيام طاعةً لله، لعلمه أن الله يرضى منه ذلك، وأن الله مطلع على سره وعلانيته: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19]، فيزداد خوفا من الله، ورغبةً فيما عند الله.

وثانيا: أن الله تكفل بجزائه فقال: "وَأَنَا أَجْزِى بِهِ"، والله -مِن فضله- جعل حسنة المؤمن بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، لكن الصائم يوفى أجره بغير حساب؛ لأن الصوم من الصبر، والله يقول: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر:10].

والصوم جُنة؛ يقيك المكارة وزلات اللسان والأخطاء، " وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ"، فهو جنة يمنعك من أن تخوض مع الجاهلين في خوضهم، ومع السفهاء في سفههم؛ بل تترفع عنهم بقولك: "فإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ شاتمه؛ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ"، أي: أذكرك بأني صائم وصومي يمنعني من اللغو والرفث، ويحملني على مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [الأحزاب:36].

و"لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ"، إذ عندما تخلو المعدة من الطعام والشراب تتصاعد منها أبخرة كريهة في مشام الناس، لكنها عند الله أطيب من ريح المسك.

أيُّها المسلم: والصائم يفرح فرحتين: فرحة عند فطره عندما يباح له الطعام والشراب، هذا طبع النفس، فيفرح بذلك، إلا أن فرحه هذا مقرون بطاعة ربه، وشكره لله، وثنائه على الله.

ثم فرحته الكبرى وفوزه الأعظم حينما يلقى ربه فيجد ثواب صيامه مدخراً له وهو أحوج ما يكون إليه: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً﴾ [آل عمران:30]، يوم ينادَى الصائمون ليدخلوا من أحد أبواب الجنة المخصصة لهم، "إن في الجنة بابا يقال باب الريان، يدخل منه الصائمون، لا يدخل منه أحد غيرهم"، "فإذا دخلوا أغلق ذلك الباب".

أيُّها المسلم: خصكم الله -يا أمة محمد- بأن ملائكة الرحمن تستغفر لكم حتى تفطروا، وبأن الله يصفد الشياطين والجن فلا يخلصوا في رمضان إلى ما كانوا يخلصون بغيره؛ لعظم الطاعات، وقلة السيئات، وأن الله يزين جنته كل يوم ويقول: "يُوشِكُ عِبَادِى الصَّالِحُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمُ الْمَئُونَةَ وَالأَذَى وَيَصِيرُوا إِلَيْكِ"، وأنه يغفر لنا في آخر ليلة: قَالَ: "لاَ وَلَكِنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا يُوَفَّى أَجْرَهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ".

أمة الإسلام: استقبلوا هذا الشهر بالفرح والسرور، واحمدوا الله أن بلغكم صيامه، واسألوه القبول والتأيد والثواب، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مَرَّ بِالْمُسْلِمِينَ شَهْرٌ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهُ بِمَحْلُوفِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَمَا مَرَّ بِالْمُنَافِقِينَ شَهْرٌ شَرُّ لَهُمْ مِنْهُ بِمَحْلُوفِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، إِنَّ اللَّهَ لَيَكْتُبُ أَجْرَهُ وَنَوَافِلَهُ قَبْل أَنْ يُدْخِلَهُ، وَيَكْتُبُ إِصْرَهُ وَشقَاءَهُ قَبْل أَنْ يُدْخِلَهُ، وَذَاكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُعِدُّ فِيهِ النفقة للقوة على الْعِبَادَةِ، وَيُعِدُّ فِيهِ الْمُنَافِقُ تتبع عورات الناس وغَفَلاَتِهم، فغُنْمٌ لِلْمُؤْمِنِ يَغْتَنِمُهُ الْفَاجِرُ".

ويقول -صلى الله عليه وسلم- يوما عندما يحضر رمضان: "أتاكم رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه فيحط الخطايا، ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فالمحروم من حرم فضل الله".

ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَعَرَفَ حُدَودَهُ، وَتَحَفَّظَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَفَّظَ منه، كَفَّرَ مَا كَانَ قَبْلَهُ".

وكان -صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه ويزف لهم البشرى بمقدم هذا الشهر، فيروى عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر جمعة من شعبان فقال: "أيها الناس، أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، مَن تقرب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فيه فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه.

وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن، مَن فطّر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه، وعتقاً لرقبتِه من النار، وكان له من الأجر مثل أجور الصائم من غير أن ينتقص ذلك من أجر الصائم شيئاً، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفف فيه عن مملوكه غفر الله له، وأعتقه من النار.

فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضُون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان تُرضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، والخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما: تسألون الله الجنة، وتسعيذون به من النار. ومن سقى فيه صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة".

فاحمدوا الله على بلوغه، وسلوه التوفيق والسداد، واستقبلوه بالسرور، واحمدوا الله على هذه النعمة، وتقربوا إلى الله فيه بما يرضيه. أسأل الله لي ولكم الثبات على الحق، والاستقامة عليه.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني إيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.

أما بعدُ: فيا أيُّها النَّاس، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.

عباد الله: شريعة الإسلام قامت على اليسر والتيسير: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾ [البقرة:185]، ويقول: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة:6]، فالحمد لله على كل حال.

هذا الشهر العظيم افترض الله صيامه على المسلم، البالغ، العاقل، القادر، المقيم، هذا يلزمه الصوم أداءً بلا شك؛ لأنه أحد أركان الإسلام.

أما غير المسلم الذي لم ينطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فلا يخاطَب بالصيام وهو على كفره وضلاله، إذ لا ينفع مع الكفر إيمان: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر:65].

ويؤمر به الصبي ويروض عليه قبل بلوغه لعله أن ينشأ محبا له ما لم يكن في الأمر مشقة، كان أصحاب رسول الله يصوِّمون صبيانهم ويعطونهم اللعب في نهارهم حتى يشغلهم ذلك عن طلب الماء والشراب.

ولا يخاطَب به غير العاقل؛ فالمجنون لا يخاطب إلا إذا فاق من جنونه، والهرِم، الذي بلغ فيه مبلغا لا يحسن ما يقول، ولا يدري ما يقول، فهذا ملحق بفاقد العقل، فلا شيء عليه.

والمريض الذي أثبت الطب الحديث أن صومه لا يتفق مع مرضه الخطير، كالمصابين بالسرطان -عياذا بالله- أو بالوباء الكبدي أو الفشل الكلوي أو غير ذلك من الأمراض الخطيرة التي يثبت الطب بأنه لا ينفع الصيام معها؛ فإن المسلم هنا يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً، لأن الله جعل الإطعام قائما مقام الصيام في أول الأمر قبل أن ينسخ فقال: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة:184]، ثم أوجب الصيام على القادرين: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة:185]، ويبقى الإطعام يقوم مقام العاجز عن الصيام.

أما المرض الآخر غير المحظور فهو على مراحل، إما أن يكون المرض يسيرا لا يتنافى مع الصوم فعلى المرء أن يصوم، وإن كان صومه مع المرض فيه مشقة عليه وتعب فعليه أن يفطر، ولْيقْضِ يوما آخر، وإن كان الصوم يؤخر البرء ويزيد المرض أو يثقله فإنه يفطر، والله يقول: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة:195].

المسافر له أن يترخص في السفر؛ لأن الله يقول: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ [البقرة:185]، فللمسافر أن يفطر إذا كانت المسافة تزيد على ثمانين كيلو.

وإذا رأى أن الصيام أيسر له، وحتى لا يتحمل القضاء فصام فلا شيء عليه، وحمزة الأسهمي قال: يا رسول الله، إني شاب ولي جمَل أعالجه، أكريه وأسافر عليه، ويدركني هذا الشهر وأنا شاب أقوى على الصيام، وأرى أن الصيام أولى بالفطر، فماذا ترى؟ قال: "أي ذلك شئتَ يا حمزة".

قال أنس: "كنا نسافر مع رسول الله، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم".

وإن صام المسافر أجزأه ذلك، وإذا كان يخشى من مشقة القضاء ولا مشقة للسفر فصام فله ذلك.

والحائض والنفساء يفطران بمجرد الحيض والنفاس، ولا يصح صومهما مع ذلك.

ومن احتاج إلى فطر لإنقاذِ شخص، كفِرَق الدفاع المدني وأمثالهم الذين ربما تصادفهم في الشهر بعض المتاعب والمشاق من إطفاء الحرائق أو نحو ذلك، وإنقاذ الغرقى، وأمثال ذلك من الحوادث الذي لا بد فيها من نشاط وجد، فلهم أن يفطروا حتى يؤدوا مهمتهم الواجبة عليهم. أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.

أخي المسلم: إن من هدي نبينا -صلى الله عليه وسلم- المبادرة بالفطر بعد تحقق غروب الشمس؛ لأن الله يقول: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة:187]، فإذا غربت الشمس وتأكدنا من غروبها سن لنا المبادرة بالإفطار؛ لأن نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول لنا: "إِنَّ أَحَبَّ عِبَاد إِلَىَّ الله أَعْجَلُهُمْ فِطْراً"، وقال: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ".

وكان -صلى الله عليه وسلم- يفطر قبل أن يصلي، هذه سنته، أما الذين يؤخرون الفطر حتى تظلم النجوم ويذهب النور وتعلو الظلمة فليس هؤلاء من أهل الإسلام، فالمسلمون يبادرون بالفطر متى تحققوا من غروب الشمس، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ".

أخي المسلم: إن أكل السحور سنة مباركة، وسنة نبيك -صلى الله عليه وسلم-، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلُ السَّحَرِ"، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً"، وقال: "تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِجُرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى المُتَسَحِّرِينَ".

فتناول -أخي المسلم- وجبة السحر وإن قلّتْ، وإن كنت ممن وجبات أكلهم تتأخر في الليل إلى قبل السحور فتناول، لكن عند السحور اجعل ولو شيئا يسيرا؛ لتحيي به السنة، وتقتدي بنبيك -صلى الله عليه وسلم-.

أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن نقضي أيام شهرنا في أمن واطمئنان واستقرار، وسعادة في الدنيا والآخرة، إنه على كل شيء قدير.

واعلموا -رحمكم الله- أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ. وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.

وصَلُّوا -رحمكم الله- على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].

اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.

اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا، وأصلح ولاة أمور المسلمين عامة.

اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبد الله بنَ عبدِ العزيزِ لكل خير، اللَّهمَّ كن له عونا ونصيرا في كل ما أهمّه، اللَّهمّ أمده بتوفيقك وتأيدك ونصرك، اللَّهمّ أمده بتوفيقك وعونك ونصرك، وألبسه ثوب الصحة والسلامة والعافية، واجعله بركة على نفسه وعلى المجتمع المسلم.

اللَّهمَّ شُد أزره بولي عهده سلمان بن عبدِ العزيزِ، ووفقه للصواب فيما يقول ويفعل، واهده إلى الحق، وأعنه عليه، واجعله من أنصار دينك، إنَّك على كل شيء قدير.

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر:10]، ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف:23].

اللَّهمّ أهلَّ علينا رمضان بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، اللَّهمّ وفقنا فيه لصالح القول والعمل.

لقد صمنا هذا اليوم بناءً على رؤية شرعية ثبتت لدى المحكمة العليا القضائية، رؤية اشترك فيها أكثر من ثمانية عدول شهدوا أنهم رأوا الهلال، فصيامنا -ولله الحمد- موافقٌ لسنة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا نزال عليها -إن شاء الله- دائما في صومنا وفطرنا وحجنا، لأننا نسمع لرسول الله يقول: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ"، وقال: "لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوه، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ" فرأيناه وصمنا طاعة لربنا، واقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-.

فالحمد لله على كل حال، فلا شكوك ولا ظنون ولا أوهام، ولا قيل ولا قال، سُنّة محكمة اتبعناها طاعة لله، سلكها ولاة أمرنا قادة المسلمين، سلكوا هذا المسلك وعملوا به وساروا عليه، ونحن -إن شاء الله- على ذلك سائرون.

ولْيعْلَم أدعياء الفلك أنه لا اعتبار لقولهم ما دامت السنة واضحة جلية، فالحمد لله على هذه النعمة، ونسأله الثبات على الحق.

عبادَ الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.

 


تم تحميل المحتوى من موقع