أول العام، وخصائص الجمعة والتبكير إليها

خالد بن عبدالله الشايع
عناصر الخطبة
  1. النهي عن ظلم النفس في الأشهر الحرم .
  2. ترك كثير من الدول التأريخ بالهجرة النبوية .
  3. وقفة محاسبة مع بداية العام الجديد .
  4. فضل صيام عاشوراء .
  5. مظاهر الفتور في العبادة .
  6. هداية المؤمنين ليوم الجمعة .
  7. من خصائص يوم الجمعة .

اقتباس

وقد أفتى جمع من أهل العلم بعدم جواز استخدام التأريخ الميلادي وهجر التاريخ الهجري، فعلى الأمة الإسلامية أن تجعل لنفسها وجودًا وكيانًا مستقلين، تستمد ذلك من الكتاب والسنة، وأن تتميز عن غيرها بما ميزها الله تعالى من الأخلاق والآداب والمعاملات، لتبقى أمة...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله...

أما بعد:

أيها المؤمنون: اتقوا الله، وتيقنوا أن لله تعالى الحكمة البالغة، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، ولا معقب لحكمه، سبحانه وهو العليم الخبير، ومن ذلك ما يصطفي الله من خلقه، فإنه سبحانه يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، ويفضل من الأوقات أوقاتًا، ومن الأمكنة أماكن.

فقد فضل الله سبحانه مكة على سائر البقاع، ثم بعدها المدينة مهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفضّل الله بعض الشهور والأيام والليالي على بعض، فعدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، وجعل خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، وجعل أفضل الليالي، ليلة القدر.

فعظموا -رحمكم الله- ما عظّمه ربكم، فإنه من تعظيم الها تعالى، ولقد بيّن سبحانه في كتابه أن الحسنات تضاعف في بعض الأمكنة والأزمان، وأن السيئات تعظم كذلك، قال سبحانه: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)، وقال -جل ذكره- عن المسجد الحرام: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).

وإنكم تعيشون في هذه الأيام، وهي من الأشهر الحرم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم، كما قال -جل ذكره-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ...).

فالتزموا -رحمكم الله- حدود الله تعالى، وأقيموا فرائضه واجتنبوا محارمه، وأدوا الحقوق فيما بينكم وبين ربكم، وفيما بينكم وبين الناس.

عباد الله: إننا في هذه الأيام نستقبل عامًا جديدًا، إسلاميًّا هجريًا، بدأ التأريخ به من هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- التي هي بداية لتكوين دولة إسلامية، بل لتكوين أمة إسلامية في بلد إسلامي، وإن التأريخ بهجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من حسنات عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، حيث لم يكن للمسلمين تاريخ يسيرون عليه قبل ذلك.

يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: إن من المؤسف حقًّا أن يعدل أكثر المسلمين في هذه الأيام عن التأريخ الإسلامي الهجري إلى تأريخ النصارى الميلادي، الذي لا يمت إلى دينهم بصلة، وإن ذلك لمن الانهزامية الكامنة في نفوس البعض، وقد أفتى جمع من أهل العلم بعدم جواز استخدام التأريخ الميلادي وهجر التاريخ الهجري، فعلى الأمة الإسلامية أن تجعل لنفسها وجودًا وكيانًا مستقلين، تستمد ذلك من الكتاب والسنة، وأن تتميز عن غيرها بما ميزها الله تعالى من الأخلاق والآداب والمعاملات، لتبقى أمة بارزة مرموقة متبوعة، لا تابعة لغيرها هاوية في تقليد من سواها تقليدًا يجريها إلى مظاهر الضعف والتبعية، وينسيها مجد أسلافها وعزهم.

أيها المسلمون: إنه ينبغي لكل مسلم أن يقف مع نفسه في بداية هذا العام، وقفة محاسبة صادقة، يصلح فيها عوار نفسه، وتقوم فيها اعوجاجها حتى يكون ممن إذا طال عمره حسن عمله، وإن من نعم الله على العباد أن شرع لهم صيام يوم يختمون به سنتهم، يكفر الله به سنتين، هو يوم عرفة.

كما شرع لهم صيام يوم في أول السنة، وهو يوم عاشوراء، يكفّر الله به سنة واحدة، أي تكفير صغائر الذنوب؛ وذلك تهيئة ليختم الإنسان سنته بتوبة، ويبدأ سنته بصحيفة جديدة، فعليكم -عباد الله- بالحرص على صيام يوم عاشوراء، فإنه يوم فضل عظيم، فقد كان يومًا معظمًا عند اليهود ومشركي قريش، فقد كانوا يصومونه في الجاهلية، وكان -صلى الله عليه وسلم- يصومه قبل هجرته إلى المدينة.

أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه.

وذلك أن هذا اليوم العظيم يوم نجّا الله فيه موسى وقومه وأغرق آل فرعون، فأظهر الله فيه الحق وأزهق الباطل، وقد اختلف أهل العلم هل صوم عاشوراء كان واجبًا قبل فرض صيام شهر رمضان أم أنه سنة مؤكدة؟! على قولين مشهورين لأهل العلم.

لما فرض الله صيام رمضان ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- تأكيد صيام عاشوراء على الصحابة، أخرج البخاري ومسلم من حديث معاوية -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هذا يوم عاشوراء، فمن شاء فليصم، من شاء فليفطر".

وفي آخر حياته -صلى الله عليه وسلم- عزم على أن لا يصومه مفردًا، بل يضم إليه يومًا آخر مخالفة لأهل الكتاب، أخرج مسلم من حديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر".

فحري لكل مسلم أن يستعد لصيامه، فقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يتحرى هذا اليوم لفضيلته، أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه سُئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صام يومًا يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم، يعني عاشوراء، وهذا الشهر، يعني رمضان.

اللهم وفقنا لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، يا سميع الدعاء.

الخطبة الثانية:

عباد الله: فإنه مما ينبغي للمسلم أن ينظر فيه من جملة أحواله هو مسألة الفتور في العبادة، التي عمت على الجميع إلا من رحم الله تعالى، ومن أبرز مظاهر الفتور: التأخر في الحضور لصلاة الجمعة، وذلك عام على جميع المساجد، بل إن البعض ليصليها ظهرًا لعدم إدراكه لها، وهذا خطر عظيم، أخرج الإمام أحمد والحاكم من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ترك الجمعة ثلاث مرات متواليات من غير ضرورة، طبع الله على قلبه".

فاحذر -أخي المسلم- أن يُطبع على قلبك وأنت لا تشعر.

أيها المسلمون: اشكروا الله تعالى على ما منَّ به عليكم من النعم، ومنها هذا اليوم المبارك، ويوم الجمعة، فقد أضل الله اليهود والنصارى، وهداكم له، أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة، هدانا الله له وأضل الناس عنه، فالناس لنا فيه تبع، هو لنا، ولليهود السبت، وللنصارى يوم الأحد"، وإن يوم الجمعة -عباد الله- هو يوم عيدٍ لكم.

أخرج الطبراني في الصغير من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في جمعة من الجمع: "معاشر المسلمين: إن هذا اليوم جعله الله لكم عيدًا فاغتسلوا وعليكم بالسواك".

ومن خصائص هذا اليوم -عباد الله- أنه لا يجوز إفراده بالصوم، فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث محمد بن عباد، قال: سألت جابرًا -رضي الله عنه- أَنَهَى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صوم يوم الجمعة؟! قال: نعم. وزاد غير أبي عاصم: يعني أن ينفرد بصومه.

كما أخرج أيضًا من حديث جويرة بنت الحارث -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: "أصمت أمس؟!"، قالت: لا، قال: "أتريدين أن تصومي غدًا؟!"، قالت: لا، قال: "فأفطري".

ومن خصائص هذا اليوم: قراءة سورة "ألم" السجدة، وهل أتى على الإنسان في فجرها، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الجمعة من صلاة الفجر "ألم تنزيل" السجدة، وهل أتى على الإنسان".

وجاء عند الطبراني في الصغير من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- يديم ذلك، وجاء عند الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس -رضي الله عنه- "في كل جمعة".

ومن خصائص هذا اليوم أن الساعة تقوم فيه كما أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة".

ومن خصائصه أن من مات فيه وقي من فتنة القبر، كما أخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وُقي فتنة القبر".

ومن خصوصيات هذا اليوم: فضل قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة أو يومها، فقد أخرج الدارمي من حديث أبي سعيد الخدري موقوفًا وله حكم الرفع قال: "من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة، أضاء له فيما بينه وبين البيت العتيق"، ورواه الخطيب بلفظ "يوم الجمعة".

ومن خصائص هذا اليوم أن فيه ساعة إجابة، كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر يوم الجمعة فقال: "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه"، وأشار بيده يقللها. وأرجى وقت لهذه الساعة آخر ساعة بعد العصر.

ومن خصائص هذا اليوم أيضًا: أن التبكير إلى صلاة الجمعة له فضل عظيم، ليس للصلوات الأخرى مثله، فالمبكر إلى الصلاة يوم الجمعة جمع بين عبادتين، عبادة بدنية وعبادة مالية، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ".

ألا تسمع يا من تأتي متأخرًا بعد صعود الإمام؟! كم فاتك من الأجر العظيم؟! كم فاتك من العلم النافع، وأجر الإنصات إلى الخطبة؟! فاتقوا الله يا من تتأخرون في حضوركم إلى الصلاة، وسارعوا إليها متطهرين، فإن يوم الجمعة له مزية على غيره، وكذلك صلاة الجمعة.

اللهم اهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا، وأعذنا من نزغات الشياطين.
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي