بدأ بولس في تحريف عقيدة النصارى شيئًا فشيئًا، وألغى أحكام التوراة ووضع لهم عهدًا جديدًا، وحصل بينه وبين كبار النصارى خلاف عظيم إلا أنه حرف الكثير من ديانتهم، ولم يزل النصارى في اضطهاد من اليهود حتى اعتلى عرش روما الإمبراطور قسطنطين حيث رسخ مبدأ القيصرية البابوية، ومن هنا زادت...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه...
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله ووحدوه واعلموا أن الله -جل في علاه- لا يرضى أن يشرَك معه أحد في عبادته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا شيء أعظم عند الله من الشرك، ولهذا أرسل الرسل لتحذير الناس منه وأمرهم بالتوحيد وتعليمهم إياه.
معاشر المسلمين: لقد نزل آدم -عليه السلام- إلى الأرض وتكاثرت ذريته، وهم على التوحيد الذي فطرهم الله عليه، واستمروا على ذلك عشرة قرون كلها على التوحيد لا تعرف الشرك كما أخرج الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
وهكذا كلما هلك نبي بعث الله غيره كما قال تعالى: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى)، وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي".
حتى بعث الله إبراهيم -عليه السلام- فجعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فلا نبي بعده إلا من ذريته، فكانت اليهودية والنصرانية في ذرية إسحاق بن إبراهيم، وكان دين الإسلام في ذرية إسماعيل.
فأول ما نزل من الديانتين اليهودية ثم تلتها النصرانية، وسيكون حديثنا اليوم عن النصرانية وأهلها، يسمون أنفسهم بالمسيحيين، والصواب أنهم نصارى كما سماهم الله في كتابه والمسيح منهم براء، ولنبسط القول في نشأتها، وما مر بها من انحراف، فهي ديانة سماوية نزلت على عيسى ابن مريم -عليه السلام-، وقد مرت النصرانية بعدة مراحل وأطوار تاريخية مختلفة، انتقلت فيها من رسالة منزلة من عند الله تعالى إلى ديانة مُحرَّفة ومبدلة، تضافر على صنعها بعض الكهان ورجال السياسة.
قبل الحديث عن النصرانية ما لها وما عليها لا بد من معرفة أمر مهم وهو أن النصرانية كان مبدأ أمر انحرافها عن مسار الديانة السماوية عندما دخل فيها شاول الطرسوسي اليهودي، الذي كان يُذيق أتباع المسيح سوءَ العذاب، فقد أعلن إيمانه بالمسيح بعد زعمه رؤيته عند عودته من دمشق، مؤنبًا له على اضطهاده لأتباعه، آمرًا له بنشر تعاليمه بين الأمم، فاستخف النصارى، فصدقه أغلبهم، وبما كان يمتلك من حدة ذكاء وقوة حيلة ووفرة نشاط استطاع أن يأخذ مكانًا مرموقًا بين الحواريين وتسمى ببولس.
وبهذا سيطرت عقائد وأفكار بولس على النصرانية؛ يقول دبليو ريد: "إن بولس قد غيَّر النصرانية لدرجة أنه أمسى مؤسسها الثاني، إنه في الواقع مؤسس المسيحية الكنسية".
بدأ بولس في تحريف عقيدة النصارى شيئًا فشيئًا، وألغى أحكام التوراة ووضع لهم عهدًا جديدًا، وحصل بينه وبين كبار النصارى خلاف عظيم إلا أنه حرف الكثير من ديانتهم، ولم يزل النصارى في اضطهاد من اليهود حتى اعتلى عرش روما الإمبراطور قسطنطين حيث رسخ مبدأ القيصرية البابوية، ومن هنا زادت سلطات أسقف روما وتحوَّل كرسيه إلى بابوية لها السيادة العليا على الكنيسة في بلدان العالم المسيحي الغربي، ومن ثم دب النزاع بين الكنائس على المناصب، واختلفوا اختلافًا شديدًا في عقائدهم، خصوصًا في المسيح وأمه إلى زمننا هذا، ولعلنا نتطرق لبعض مصطلحات النصرانية التي يتبين منها ماهية ديانتهم، فمن ذلك: الألوهية والتثليث، مع أن النصرانية في جوهرها تُعنى بالتهذيب الوجداني، وشريعتها هي شريعة موسى -عليه السلام-، وأصل اعتقادها هو دين الإسلام كما أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد"، لكن بعد ضياع الإنجيل وظهور العشرات من الأناجيل والمجامع والدعاوى المنحرفة استقرت أصول عقائد النصرانية على ما يلي:
الإله: الإيمان بالله الواحد، الأب مالك كل شيء، وصانع ما يرى وما لا يرى.
المسيح: هو ابنه الوحيد يسوع المسيح بكر الخلائق ولد من أبيه قبل العوالم، وليس بمصنوع -تعالى الله عن كفرهم علوًّا كبيرًا-، ومنهم من يعتقد أنه هو الله نفسه –سبحانه وتعالى عن إفكهم–، وقد أشار القرآن الكريم إلى كلا المذهبين، وبيَّن فسادهما، وكفَّر معتقدهما؛ يقول تعالى: (وقَالت اليهودُ عُزيرٌ ابنُ الله وقَالت النصارى المسيحُ ابن الله) [التوبة: 30]، وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيحُ ابنُ مَريم) [المائدة: 72].
روح القدس: هو الذي حلَّ في مريم لدى البشارة، وعلى المسيح في العماد على صورة حمامة، وعلى رسل المسيح من بعد صعوده، الذي لا يزال موجودًا، وينزل على الآباء والقديسين بالكنيسة يرشدهم ويعلمهم ويحل عليهم المواهب، ليس إلا روح الله وحياته، إله حق من إله حق.
الأقانيم: ولذلك يؤمنون بالأقانيم الثلاثة: الأب، الابن، الروح القدس، بما يُسمونه في زعمهم وحدانيةً في تثليث، وتثليثًا في وحدانية. وذلك زعمٌ باطل صعُب عليهم فهمه، ولذلك اختلفوا فيه اختلافًا متباينًا، وكفرت كل فرقة من فرقهم الأخرى بسببه، وقد حكم الله تعالى بكفرهم جميعًا إن لم ينتهوا عما يقولون، قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المائدة: 72].
الصلب والفداء: المسيح في نظرهم مات مصلوبًا فداءً عن الخليقة، لشدة حب الله للبشر ولعدالته، فهو وحيد الله –تعالى الله عن كفرهم– الذي أرسله ليخلص العالم من إثم خطيئة أبيهم آدم وخطاياهم، وأنه دفن بعد صلبه، وقام بعد ثلاثة أيام متغلبًا على الموت ليرتفع إلى السماء.
قال تعالى مبينًا حقيقة ما حدث وزيف ما ادعوه: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً).
الدينونة والحساب: يعتقدون بأن الحساب في الآخرة سيكون موكولاً للمسيح عيسى ابن مريم الجالس -في زعمهم- على يمين الرب في السماء؛ لأن فيه من جنس البشر ما يعينه على محاسبة الناس على أعمالهم.
الصليب: يعتبر الصليب شعارًا لهم، وهو موضع تقديس الأكثرين، وحملُه علامة على أنهم من أتباع المسيح، ولا يخفى ما في ذلك من خفة عقولهم وسفاهة رأيهم، فمن الأولى لهم أن يكرهوا الصليب ويحقروه لأنه كان أحد الأدوات التي صلب عليه إلههم وسبب آلامه.
مريم البتول: يعتقد النصارى على ما أضيف في قانون الإيمان أن مريم ابنة عمران والدة المسيح -عليه السلام- هي والدة الإله، ولذا يتوجَّه البعض منهم إليها بالعبادة.
وعمومًا فإن النصارى يُعتبرون بالنسبة للمسلمين أهل كتاب مثل اليهود، وحكمهم في الإسلام سواء، فقد كذَّبوا برسول الله وآياته، وأشركوا بالله، فهم بذلك كفار لهم نار جهنم خالدين فيها؛ يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) [البينة: 6]، لكنهم مع ذلك يعاملون بما أمر الله تعالى به من الإحسان والبر والقسط إليهم، وأكل طعامهم والتزوج من نسائهم، ماداموا لم يقاتلونا في الدين ولم يخرجونا من ديارنا، فهم أهل ذمة إذا عاشوا في ديار المسلمين، ودفعوا الجزية؛ ما لم ينقضوا عهدهم، فإن نكثوا عهدهم وتجرؤوا على الإسلام والمسلمين؛ بأن حاولوا الدعوة إلى باطلهم وكفرهم بين أبناء المسلمين، أو طعنوا في الدين مثلاً.
من هذا نخلص بفوائد:
أن النصارى كفار ومن أهل النار، وهذا حكم الله فيهم؛ قال الله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ).
لا يجوز التوقف في الحكم على عموم النصارى بالنار؛ فإن في ذلك تكذيبًا لكلام الله.
أن جميع الأديان التي قبل الإسلام منسوخة بالإسلام؛ قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
أن لا نغتر بالهوس الإعلامي في تبجيل البابوات والقساوسة من كفرة النصارى، حتى كتب الإعلاميون فيهم وتكلم من لا خلاق له في مدحهم، وقال من ينسب إلى الإسلام ما لم يقله في كبار علماء المسلمين.
عدم الاغترار بتلك الأقاويل أن كبير البابوات يدعو إلى الحرية وإلى السلام، فهم جميعًا أعداء للدين كما قال تعالى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).
اجتماع أعداء الملة على عداء الإسلام وإن زعموا أنهم دعاة سلام، فهم في الحقيقة يسعون بعقيدة، ألم تروا كيف أن رؤساءَ كبارِ الدول يخضعون لكبير البابوات ويقبلون يده من كل صقع!! وهذا يدل على أنهم أهل ملة يدعون لها وينافحون عنها.
اللهم اكفنا شر الأشرار وكيد الفجار، وأعذنا أن نكون من أهل النار.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي