الحث على تعاهد الإيمان والحرص على الثبات عليه

محمد بن سليمان المهنا

عناصر الخطبة

  1. نعمة الهداية إلى دين الإسلام
  2. حرص المؤمن على تثبيت إيمانه وتقويته
  3. وجوب التواصي بالحق وبالصبر
  4. نماذج رائعة للثبات على الطاعة

أما بعد: إن الهداية إلى دين الإسلام عقيدة وعملاً ومنهاجاً أعظم منّة، وأكرم نعمة، ذلك أن بها صلاح الإنسان في حياته وبعد مماته؛ وأيُّ نعمة أعظم مما يورث مرضاة الكريم، ويُحِلُّ الإنسان جنات النعيم؟. 

ولذا يقول أهل الجنة عندما يرون غاية الإنعام والإكرام، يقولون بتمام اليقين والإيمان: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف:43].

وفي سورة ﴿يس﴾ في قصة مؤمن ﴿آل يس﴾ أنه لما دعا قومه إلى طاعة الله واتباع المرسلين فعصوه وكذبوه فغفر الله له وأكرمه وأدخله الجنة قال -عز وجل-: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ(27)﴾ [يس:26-27].

والمؤمن الحق يرى أن إسلامه وإيمانه جوهرةٌ نفيسةٌ نالها بفضل الله، لا بحوله وقوته، فتراه يسعى بكل ما أوتي من قوة وحيلة إلى تثبيت الإيمان وتقويته وتنقيته، وإلى دفع كل ما يُدنسه أو يشينه أو يُضعفه، وقدوته في ذلك إمام الخلائق وسيد ولد آدم، محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، الذي كان يستعيذ بعزة الله من الضلال بعد الهدى، ومن الحور بعد الكور، ففي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في دعائه: "أعوذ بعزتك -لا إله إلا أنت- أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون".

فكلما تمكن الإيمان من القلب زاد المسلمُ لـه حباً وتعظيماً، وزاد عليه شفقة وحرصاً وخوفاً، وشعر أنه بأمس الحاجة إلى ما يثبِّته ويقويه، فتراه سريعاً إلى الخيرات، بطيئاً عن السيئات ،كل همه مرضاة ربه، وشكره على نعمة الإيمان واليقين.

والعجب كل العجب من أقوام منَّ الله عليهم بالإيمان، وفتح عليهم أبواب البر والخير، فلما تذوقوه مضوا على طريقه رويداً! وما هو إلا قليل حتى شقَّ عليهم الأمر، وطال بهم الطريق، وجاءهم الشيطان، وثقَّل عليهم الأعمال، ووعدهم ومنَّاهم، فاستثقلوا الاستقامة، وتهاونوا بالصالحات، ودب إليهم الملل من كثير من العمل.

ألم يعلم أولئك أن طريق الجنة محفوف بالمكاره؟ ألم يعلموا أن طريق الجنة طويل وأنه مديدٌ بامتداد الحياة؟ ألم يسمعوا كلمة ذلك الإمام الرباني الحكيم عندما سئل فقيل لـه: متى يجد الرجل طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم يضعها في الجنة؟! نسأل الله أن يبلغنا إياها.

ولذا وجب على المسلمين رجالاً ونساءً، شيباً وشباباً، أن يذكّر بعضهم بعضاً، وأن يتواصوا بالاستقامة على الدين، والصبر عليه، وأولئك هم الفائزون كما قال -عز وجل- بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾ [سورة العصر].

فيا من استقام على أمر الله واتبع هداه، وآثر رضاه؛ يا من خالط الإيمان قلبه فأضاء، وأشرق لذلك وجهه، وطابت به نفسه؛ يا من حافظ على صلاته، وجاهد الشيطان أن يدخل عليه من باب التساهل بها؛ يا من منع أذنه وبصره عن الحرام، مع أنه من على طرف الثمام؛ يا من ترك الربا، وهجر كل مكسب محرم، فاكتفى بالطيبات، وردع نفسه عن الخبائث، مع أنه يرى الناس من حوله تتدفق عليهم الأموال، إلا أنه قد تركها لله!.

إلى كل شاب تشتعل بين جنبيه نار الغريزة، وهو مُستطيع إطفاءها لو أراد بأنواع المحرمات، لكنه يقرأ قول الله في صفات المتقين: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ [الرعد:22].

إلى كل شابة ترى الفتيات من حولها وهن يخرجن متبرجات متعطرات صارفات إليهن أبصار الرجال، لكنها علمت ما يجب عليها من الحجاب، وآثرت ما يحبه الله على ما تحبه هي وتهواه، فلبست الحجاب كما أمر الله، وأخفت زينتها، مع أنها ربما فاقت بجمالها وحسنها ملايين الفتيات، لا لشيء، إلا لتنال وعد الله القائل: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ [مريم:63].

إلى كل من أطلق لحيته حباً واتباعاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلى كل من منع أذنه عن الغناء، ولسانه عن الغيبة وسيِّء المقال، إلى أولئك جميعاً نقول: أَكْثِروا من حمد الله وشكره، فقد أنعم الله عليكم بأعظم النعم، وتفضل عليكم بأفضل المنن، فاللهَ اللهَ في المزيد والتسبيح والتهليل والتحميد، فإن الله شاكرٌ عليم.

ثم إنها دعوة ليثبت بعضنا بعضاً بأنواع المثبتات؛ فإن الشيطان لا يستطيع على المؤمن سبيلاً ما دام مستمسكاً بأمر الله، مستقيماً على شرعه، حتى إذا كثرت على المؤمن صوارف الحياة، وجد الشيطان على ذلك العبد المؤمن أنواع المداخل ليصده عند ذكر الله وطاعته.

ألا فليعلم كل مسلم ملتزم بطاعة الله أن طاعة الله واجبة على المكلف، لا يجوز لـه أن ينفك عنها بحال من الأحوال، ولا وقت من الأوقات، عملاً بقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر:99].  

ثم ليجادل الإنسان نفسه، فالعاقل خصيم نفسه: ماذا قدمت لديني، بماذا تقربت إلى ربي حتى أشعر باستثقال الطاعة وصعوبة الاستمرار على الطريق؟.

لقد سار رجالٌ على طريق الجنة وقد مُلئ بجبال المكاره، فما ثنى ذلك لهم عزماً، وما ألان لهم قناة، حتى نزل فيهم وفيمن سار على منوالهم قول الله -عز وجل-: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب:23].

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس -رضي الله عنه- قال: إن عمي أنسَ بنَ النضر -رضي الله عنه- غاب عن يوم بدر فشقَّ عليه ذلك فقال: لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليرين الله ما أصنع.

ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا الناس للخروج يوم أحد، فكان أنسُ بنُ النضر من أوائل الملبِّين، فلما دنت ساعة النزال إذا به يتقدم فيقول لـه الصحابة: إلى أين يا أنس؟ فيقول: إلى الجنة، واهاً لريح الجنة! إني لأجد ريحها من دون أحد.

قال أنس: فقاتل قتالاً شديداً حتى قُتل. قال: فوجدنا في جسده بضعة وثمانين بين ضربة وطعنة ورمية، فما عرفه منا أحد إلا أخته، عرفته ببنانه، أي بأصبعه؛ قال أنس: فنزلت هذه الآية: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب:23].

أما مصعب بن عمير فحاله أعجب حال! ونبؤه أغرب نبأ! كان شاباً من أحسن الشباب حالاً، وأجملهم وجهاً، وأعطرهم ريحاً، وأنداهم يداً؛ كان حديث الحسان من النساء، ومضرب المثل في النعمة والدلال والغنى؛ لكن الإيمان إذا خالط القلب غلبت لذته كل لذة، وقوي سلطانه على كل سلطان.

نعم، سمع مصعبٌ -رضي الله عنه- القرآن ينزل من فم النبي -صلى الله عليه وسلم- نزول الغيث على الأرض العطشى، فارتوى قلبه من معين القرآن، فحيي وأنار، فما كاد يخرج من مجلسه إلا وهو من أعظم الناس يقيناً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

لكن المصيبة كل المصيبة هي حال والدته تلك التي تفيض عليه المال، وقد عرفت بزعامتها وقوة شخصيتها وهيبتها، ماذا سيقول لها؟ وهل سيطيق خلافها؟ وما مصير الغنى والترف إن هو لم يطعها؟.

وما هو إلا قليل حتى علمت تلك الأم بحال ابنها، ففعلت كل ما تستطيعه لصدّه عن دينه، لكن ذلك لا يزيد ولدها إلا صموداً، فقطعت عنه النفقة، ثم ما لبث إلا أن غادر مكة إلى الحبشة فراراً بدينه من الفتن.

لقد هجر نعيم الإقامة إلى عذاب الهجرة والفراق، وترك الغنى والترف إلى الفقر والضيق والفاقة؛ مضحياً بالفانية، طامعاً فيما أعده الله للمؤمنين في الباقية.

ثم بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- داعية وسفيراً إلى المدينة، فكان أول سفرائه -صلى الله عليه وسلم-، وهدى الله به رجالاً من كبار الأنصار، رضي الله تعالى عنهم.

ثم جاءت معركة أحد، فحمل مصعبٌ -رضي الله عنه- لواء الإسلام في تلك المعركة، وما زال يقاتل حتى أقبل عليه فارس من المشركين فقطع يده اليمنى، فحمل اللواء بيده اليسرى، ثم قُطعت يده اليسرى، فضم اللواء إلى عضديه، ثم قُتل وسقط اللواء.

فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد المعركة ومعه أصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها، وحملوا مصعباً إلى قبره، وأرادوا أن يكفِّنوه، فما وجدوا لـه إلا كساءً لا يكفي إلا نصف جسده، فكانوا إذا وضعوه على رأسه ظهرت قدماه، وإن وضعوه على قدميه بدا رأسه، فأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجعلوه على رأسه، ويجعلوا على رجليه من نبات الأرض.

الله أكبر! بعد أجمل الحلل وأحسن اللباس لا يجد لـه كفناً يكفي سائر جسده! هذا والله هو الصبر، وذلك هو الاحتساب، وتلك هي التضحية من أجل رضوان الله!.

وأما التضحية بالمال فأمر يُقضى منه العجب، واستمع لهذا الموقف الذي يسطر بمداد الذهب: عندما دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى الهجرة إلى المدينة حاول المشركون صدهم ومنعهم، وكان منهم صهيب الرومي -رضي الله عنه- فلحقه المشركون، حتى إذا أوشكوا على القرب منه التفت إليهم، ونثر سهامه من كنانته، وصوب إليهم قوساًـ وقال: يا معشر قريش لقد علمتم أني من أعلمكم بالرمي، وواللهِ! لا أدع من سهامي هذه سهماً إلا أنفذته في كل واحد منكم حتى تفرغ، ثم أقاتلكم بسيفي فأقتلكم أو تقتلوني؛ لكن اتركوني وشأني.

فقالوا: لقد أتيت إلينا فقيراً فأغنيناك، أفنترك أموالك بعدما أغنيناك؟ قال: فإن دللتكم عليها أتأخذونها وتتركوني؟ قالوا: نعم، فدلهم عليها فتركوه، فلما وصل إلى رسول الله قال لـه -صلى الله عليه وسلم- قال له: ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى! قال المفسرون: وفيه وأمثاله نزل قول الله -عز وجل-: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة:207].

ومسك الختام يفوح من قصة خبيب بن عدي، ذلك الشاب الأنصاري المغوار الذي أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- في مهمة مع بعض الصحابة فاعتدت عليهم إحدى قبائل العرب، وأوثقوهم وأسلموهم إلى قريش، وكانت قريش تغلي بعد مقتل أشرافها في وقعة بدر، ففرحوا بهذه الغنيمة، وجمعوا الناس ليشهدوا إعدام هذا الصحابي الجليل انتقاماً لأسيادهم وكبرائهم.

واجتمع الناس من كل صوب ينتظرون مشهد الإعدام، وجيء بالشاب المؤمن، ولما وُضِع عند خشبة الصلب استأذنهم في أن يودع الدنيا بركعتين، فصلى ركعتين تمنَّى أن يطيلهما لكنه خشي أن يظن الناس أن به فزعاً من الموت.

ولما فرغ من صلاته التفت إلى المشركين وقال: "اللهم أحْصِهِم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً" ثم قال: وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمَاً *** عَلَى أيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصْرَعي وذلك في ذاتِ الإِلهِ وَإِنْ يَشَأْ *** يُباركْ على أوْصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

وهنا اقترب إليه أحد زعماء قريش فقال: أتحب أن محمداً مكانك وأنت سليم مُعافىً في أهلك؟ فانتفض خبيب -رضي الله عنه- وقال كلمته الشهيرة: والله ما أحب أني في أهلي ومالي وأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- يصاب بشوكة. فقال زعيم منهم: والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كما يحب أصحاب محمدٍ محمداً!.

هكذا كانت حال القوم، وكذلك كان صبرهم وتضحيتهم، فما بالنا لا نصبر على فرائضَ وواجباتٍ يسيراتٍ نؤديها آمنين مطمئنين عند أهلينا وبين أولادنا وأموالنا؟!.

فالثباتَ الثباتَ يا عباد الله! والحذرَ الحذرَ من العُجْبِ والغرور! فإنه يحبط العمل، والحذرَ الحذرَ من الملل والسآمة! فإن غُلب الإنسان على شيء من ذلك فليجدد إيمانه، ولْيَسْتَعِنْ بمولاه الذي لا يرد السائلين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات:17].


تم تحميل المحتوى من موقع