فهذا عمر بن الخطاب صرَّ أربعمائة دينار، وقال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تربص عنده في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه. وقال له: يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: اجعل هذه في بعض حوائجك. فقال له: وصله الله ورحمه، ثم دعا بجارية وقال لها: اذهبي بهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه السبعة إلى فلان، حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر وأخبره، فوجده...
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، والتزود ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
أيها الإخوة والأخوات في الإسلام: لكم تطرقنا إلى هذا الموضوع موضوع حق الجار في الإسلام، نظرًا لما له من الأهمية في حياة المسلم، وأذكر أني ذكرت في جملة تلك الكلمات العشرة الطيبة للعالم الجليل سفيان الثوري -رحمه الله- حيث ذكر عشرة أشياء من الجفاء أي من قلة المروءة والحياء والدين، ومنها: "ورجل شبعان وجاره جائع ولا يعطيه من طعامه"، وذكرت أثرًا رواه الإمام الخرائطي في مكارم الأخلاق وهو عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أغلق بابه دون جاره مخافة على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن، وليس بمؤمن من لم يأمن جاره بوائقه. أتدري ما حق الجار؟! إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا مرض عدته، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات تبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار ريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سرًا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده".
عباد الله: كنت قد شرحت هذا الأثر، لكني أحببت أن أتتبع حقوق الجار من خلاله، ولقد شرحت في خطبة سابقة الحقين الأولين: "وإذا استقرضك أقرضته، وإذا استعانك أعنته".
أيها المسلمون: في هذا الأثر تنبيه إلى كل مسلم ومسلمة من عدم التهاون بحقوق الجار وبعد بدايته يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من أغلق بابه دون جاره مخافة على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن"، فما معنى هذا؟! هل معناه أن نفتح بيوتنا لكل من هب ودب من الجيران ليدخلوا على نسائنا وأبنائنا دون تحفظ ولا حذر؟! أم معناه شيء آخر؟!
لقد أشرت في خطبة سابقة وقلت: معنى هذا هو الترغيب في بذل المعروف للجار الفقير وعدم إغلاق الباب في وجهه وفي وجه أولاده خوفًا على الأهل والمال، وليس معنى هذا أن يترك الباب مفتوحًا أمام الجار حتى ترفع الكلفة بينه وبين جاره بتلك الصورة المؤسفة التي شاعت وذاعت في زماننا هذا، والتي أصبحنا نرى فيه الجار غير المؤمن يدخل دار جاره ومسكنه دون مبالاة ولا حياء لا من الله ولا من الناس. وهذا من أخطر الأسباب المؤدية إلى انحطاط وخراب البيوت، فكثيرًا ما يكون هذا الاختلاط المشين -الذي لا يقره عقل ولا دين- بين الأقارب والجيران والأهل والأصدقاء يكون سببًا في ارتكاب هذا الجار غير المؤمن لأبشع جريمة في حق جاره، ألا وهي الزنا بزوجته -والعياذ بالله-، وقد جاء في الحديث المروي في الصحيحين عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الذنب أعظم؟! قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلقك". قلت: ثم أي؟! قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك". قلت: ثم أي؟! قال: "أن تزاني حليلة جارك".
وروى البخاري في الأدب المفرد عن المقداد بن الأسود قال: سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه عن الزنا فقالوا: حرام حرمه الله ورسوله. فقال: "لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره".
وروى الطبراني والبيهقي ورجاله رجال الصحيح عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط خير من أن يمس امرأة لا تحل له"، فلتكن هذه الأحاديث وغيرها أكبر واعظ للجار حتى يكون بعد ذلك مراعيًا لحرمة جاره، وحتى يؤكد إيمانه الذي لابد وأن يكون إحسانًا إلى جاره كما جاء في الحديث الآخر: "وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا".
وعلى الزوجة المؤمنة العاقلة أن تحافظ على شرفها وكرامة زوجها، وذلك بعدم السماح للجار أو من غير محارمها بالدخول إلى بيتها إلا في حضور زوجها حتى لا تمكن شيطانًا آدميًا من هدم بيت الزوجية الذي يجب أن ترفرف عليه راية المحبة والوفاء دائمًا وأبدًا. وأذكرها بحديث ابن ماجه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما استفاد المؤمن من بعد تقوى الله -عز وجل- خيرًا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله".
عباد الله: ومعنى: "حفظته في نفسها"، أنها لا تخرج من بيتها ما دام غائبًا إلا لضرورة، وأن لا تسمح لأحد من الرجال بالدخول عليها، وأن لا توطئ فراشه من يكره، وأن تكون على الحال التي يحبها منها، وأن لا تبادره بالشكوى والتضجر، وأن تلقاه عند رجوعه هاشة باشة. ونصيحتها له في ماله أن تجتهد في حفظه وتنميته، وأن لا تنفق منه إلا بقدر حاجتها بلا تبذير ولا تقتير لهذا كان من الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يكون حسن الأخلاق خاصة مع جيرانه، وقد سئل كثير من الأقدمين عن حسن الخلق فقالوا: "علامات حسن الخلق أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح صدوق اللسان، قليل الكلام كثير العمل، قليل الزلل قليل الفضول، برًّا بوالديه وأصحابه، وقورًا صبورًا شكورًا راضيًا حليمًا رقيقًا عفيفًا شفيقًا، لا لعانًا ولا سبابًا ولا نمامًا ولا مغتابًا، ولا عجولاً ولا قعودًا ولا بخيلاً ولا حسودًا، بشاشًا هشاشًا، يحب في الله ويبغض في الله ويرضى في الله ويغضب في الله".
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين، وبحديث سيد المرسلين.
أما بعد:
عباد الله: يقول الأثر المروي عن رسول الله حينما سئل عمن قال: أتدري ما حق الجار؟! "إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه".
تكلمت في خطبة سابقة عن الحقين الأولين ومع الحق الثالث الذي يقول: "وإذا افتقر عدت عليه"، أي أحسنت إليه وتعاونت معه تأكيدًا للمعنى الكبير الذي يشير إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا". متفق عليه.
وروى الطبراني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله خلقًا خلقهم لحوائج الناس: يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله"، ومن أجل ذلك فقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفضلاء، يتسابقون ويتنافسون في التعاون والتراحم فيما بينهم وبين أقربائهم وجيرانهم طمعًا في رحمة الله تعالى وعونه، وتأكيدًا لجوهر الإنسانية فيهم، وإليكم معشر المؤمنين والمؤمنات بعض أخبارهم وأعمالهم في هذا الموضوع، فهذا عمر بن الخطاب صرَّ أربعمائة دينار، وقال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تربص عنده في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه. وقال له: يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: اجعل هذه في بعض حوائجك. فقال له: وصله الله ورحمه، ثم دعا بجارية وقال لها: اذهبي بهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه السبعة إلى فلان، حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر وأخبره، فوجده قد أعد مثلها إلى معاذ بن جبل، وقال له: انطلق بها إلى معاذ بن جبل وانظر ما يكون من أمره، فذهب إليه، وقال له كما قال لأبي عبيدة، ففعل معاذ مثل ما فعل أبو عبيدة، فرجع الغلام وأخبر عمر فقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض.
وكان من أقوال علي بن أبي طالب: "قوام هذه الدنيا بأربعة، عالم يستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني جواد بمعروفه، وفقير لا يبيع آخرته بدنيا غيره".
فليذكر الأخ الجار كل هذا وليكن متعاونًا مع أخيه الجار إذا ما أصابته مصيبة في ماله وأولاده، وجاء عن ابن المقفع الأديب المشهور أنه بلغه أن جارًا له يبيع داره في دين ركبه وكان يجلس في ظل داره فقال: ما قمت إذًا بحرمة ظل داره إن باعها معدمًا، فدفع إليه ثمن الدار، وقال: لا تبعها.
وكذلك مع الجار المصاب أن يتجمل بالصبر مع الأخذ بالأسباب دون يأس أو قنوط، وحسبه أن يذكر دائمًا أن الله مع الصابرين وأن الله -سبحانه وتعالى- هو القائل: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح:5، 6]، ولذلك نظم الشاعر العربي قائلاً:
إذا اشتدت بك البلوى *** ففكر في ألم نشرح
فيسـرين يســرين *** إذا فكرتـه تفـرج
فاتقوا الله -عباد الله- وتعاونوا مع جيرانكم على الخير والمعروف، فإن يد الله مع الجماعة، وإلى الخطب المقبلة إن شاء الله مع الحقوق الباقية للجار.
اللهم وفقنا لطاعتك، واجعلنا من أهل مرضاتك، واحفظنا من غلبة الدين وقهر الرجال آمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي