لماذا يشككون في عاشوراء؟!

إبراهيم بن محمد الحقيل

عناصر الخطبة

  1. فضائل شهر المحرم
  2. تأملات في أَحَادِيث صِيَام عَاشُوراء وفقهها
  3. أهمية التذكير بأيام الله تعالى
  4. وجوب مخالفة المشركين
  5. أفضل درجات صوم عاشوراء
  6. الرد على المشككين في صوم عاشوراء
  7. حملات مكثفة لتشكيك المسلمين في شعائر دينهم
  8. كيف يقاوم المسلم الفتن والشبهات المضلة؟

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْخَالِقِ الْبَارِئِ المُصَوِّرِ، الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ المُشَرِّعِ؛ شَرَعَ لَنَا مِنَ الدِّينِ أَكْمَلَهُ، وَأَنْزَلَ مِنَ الْحَدِيثِ أَحْسَنَهُ، وَهَدَانَا لِأَفْضَلِ الْعَمَلِ وَأَجْزَلِهِ؛ فَعَمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَلِيلٌ لِقِلَّةِ أَعْمَارِهَا، وَثَوَابُهَا كَثِيرٌ لِتَضْعِيفِ أَعْمَالِهَا، فَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَتُكْتَبُ الْحَسَنَةُ بِنِيَّةِ عَمَلِهَا وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْهَا؛ فَضْلًا مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَرَحْمَةً بِهَا، وَإِكْرَامًا لِنَبِيِّهَا، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ ابْتَلَى عِبَادَهُ بِدِينِهِ، وَفَتَنَهُمْ بِأَبَالِسَةِ خَلْقِهِ؛ فَمَنْ عَصَاهُمْ وَتَمَسَّكَ بِدِينِهِ هُدِيَ وَنَجَا، وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَتَرَكَ دِينَهُ ضَلَّ وَغَوَى. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ لَا خَيْرَ إِلَّا دَلَّنَا عَلَيْهِ، وَلَا شَرَّ إِلَّا حَذَّرَنَا مِنْهُ، فَلَا زِيَادَةَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، وَلَا نَقْصَ فِيهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِمَا يُرْضِيهِ، وَاحْذَرُوا مَا يُسْخِطُهُ؛ فَإِنَّكُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَعَلَى أَعْمَالِكُمْ مُحَاسَبُونَ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].

أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ حِكْمَةِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِي حِفْظِ دِينِهِ أَنْ أَحَاطَهُ بِالشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ -سُبْحَانَهُ- بِعِبَادِهِ أَنْ شَرَعَ لِعِبَادِهِ صِيَامَ النَّافِلَةِ، وَجَعَلَ -عَزَّ وَجَلَّ- كَثِيرًا مِنَ الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ فِي مَوَاسِمَ فَاضِلَةٍ، كَصِيَامِ عَاشُورَاءَ فِي مُحَرَّمٍ، وَهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ، لَهُ مَزِيَّةٌ بِاخْتِصَاصِهِ بِالصِّيَامِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّـهِ المُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَاخْتُصَّ صِيَامُ عَاشُورَاءَ مِنْهُ بِمَزِيَّةٍ جَعَلَتْهُ شَعِيرَةً ظَاهِرَةً فِي الْأُمَّةِ، وَهِيَ كَوْنُ صِيَامِهِ يُكَفِّرُ سَنَةً كَامِلَةً، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «…وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّـهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَأَحَادِيثُ صِيَامِ عَاشُورَاءَ أَحَادِيثُ مُتَوَاتِرَةٌ، تُكْسِبُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهِيَ أَحَادِيثُ غَزِيرَةٌ بِالمَعْلُومَاتِ وَالْفَوَائِدِ:

فَمِنْهَا أَحَادِيثُ تُفِيدُ أَنَّ صِيَامَ عَاشُورَاءَ كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

فَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَقَايَا دِينِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَإِمَّا أَنَّ قُرَيْشًا أَخَذُوهُ مِنَ الْيَهُودِ لِاخْتِلَاطِهِمْ بِهِمْ فِي التَّعَامُلَاتِ التِّجَارِيَّةِ.

وَمِنْهَا أَحَادِيثُ تُفِيدُ أَنَّ صِيَامَ عَاشُورَاءَ كَانَ فَرْضًا فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، حَتَّى إِنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يُصَوِّمُونَ فِيهِ صِبْيَانَهُمْ، وَمِنْهَا حَدِيثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: «مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا، فَليَصُمْ»، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ. (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

وَمِنْهَا أَحَادِيثُ تُبَيِّنُ أَنَّ فَرْضِيَّةَ صَوْمِ عَاشُورَاءَ زَالَتْ بِفَرْضِ رَمَضَانَ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِاللَّـهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَفِيهِ أَنَّه لمَّا افْتُرِضَ رَمَضَانُ، قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّـهِ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

وَقَوْلُهُ عَنْ عَاشُورَاءَ: «يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّـهِ» مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللَّـهِ -تَعَالَى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّـهِ) [إبراهيم: 5]، فَيَوْمُ عَاشُورَاءَ مِنْ أَيَّامِ اللَّـهِ -تَعَالَى- الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَتَذَكَّرَهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ وَيَحْمَدُوا اللهَ -تَعَالَى- عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ أَنْجَى فِيهِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَفِيهِ أَنَّ شُكْرَ اللَّـهِ -تَعَالَى- عَلَى هَلَاكِ الطُّغَاةِ المُتَجَبِّرِينَ، وَالْفَرَحَ بِذَلِكَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ المُرْسَلِينَ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-.

وَيُبْرِزُ هَذَا المَعْنَى الْعَظِيمَ مَا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ فِي كَافَّةِ الشَّرَائِعِ مِنَ المَحَبَّةِ فِي اللَّـهِ -تَعَالَى- وَالْوِلَايَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَالْفَرَحِ بِمَا يَسُرُّهُمْ، وَالْحُزْنِ عَلَى مَا يَسُوءُهُمْ، وَأَنَّ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ مِنْ كُلِّ الْأُمَمِ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ أُمَّةُ المُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ أَعْدَاءَ الرُّسُلِ مِنْ أُمَّتِنَا لَيْسُوا مِنَّا وَلَوْ عَاشُوا مَعَنَا.

وَيَظْهَرُ ذَلِكَ جَلِيًّا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟»، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

فَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْلَى بِمُوسَى وَالمُؤْمِنِينَ مَعَهُ مِنْ كَفَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُ وَهُمْ أَعْدَاؤُهُ وَأَعْدَاءُ دِينِهِ. وَالمُؤْمِنُونَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.

وَمِنْ شِدَّةِ وِلَايَةِ مُحَمَّدٍ لِمُوسَى -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- أَنَّهُ كَانَ يَحْرِصُ عَلَى صِيَامِ عَاشُورَاءَ أَكْثَرَ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى صِيَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، حَتَّى قَالَ  ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ…» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

وَمِنْ أَحَادِيثِ عَاشُورَاءَ أَحَادِيثُ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ فِي صَوْمِهِمْ؛ لِتَتَمَيَّزَ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَنْ مُشَابَهَةِ غَيْرِهَا مُشَابَهَةً كَامِلَةً؛ فَإِنَّ عَاشُورَاءَ لمَّا كَانَ يَوْمَ شُكْرٍ لِلَّـهِ -تَعَالَى- عَلَى مَا مَنَّ بِهِ مِنْ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ الطَّاغِيَةِ كَانَ صِيَامُهُ مِنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِلَايَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَالْيَهُودُ قَدِ اتَّخَذُوهُ عِيدًا وَصَامُوهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمُخَالَفَتِهِمْ فِيهِ بِصِيَامِ التَّاسِعِ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِنَقْلِ يَوْمِ الشُّكْرِ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ غَيْرِ عَاشُورَاءَ مِنْ أَجْلِ مُخَالَفَتِهِمْ، رَغْمَ أَنَّ نَجَاةَ مُوسَى وَالمُؤْمِنِينَ كَانَتْ فِيهِ، فَكَانَتِ المُخَالَفَةُ بِضَمِّ يَوْمٍ إِلَيْهِ وَهُوَ التَّاسِعُ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَخَالَفَهُمْ أَيْضًا بِأَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَجْعَلْهُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ، وَتَتَّخِذُهُ عِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «صُومُوهُ أَنْتُمْ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ أَحَادِيثِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ، قَدْ أَفَادَتْ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَامَ عَاشُورَاءَ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصُومُهُ، ثُمَّ بَعْدَ الْبَعْثَةِ النَّبَوِيَّةِ فُرِضَ صَوْمُ عَاشُورَاءَ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ، فَصَامَهُ المُسْلِمُونَ فَرْضًا حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ، فَنُسِخَتْ فَرْضِيَّةُ عَاشُورَاءَ وَبَقِيَتْ فَضِيلَتُهُ، فَصَامَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شُكْرًا لِلَّـهِ -تَعَالَى- عَلَى نَجَاةِ مُوسَى وَالمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ يَتَحَرَّاهُ وَيَحْرِصُ عَلَيْهِ أَشَدَّ مِنْ أَيِّ يَوْمٍ آخَرَ.

وَلمَّا أَكْمَلَ اللهُ -تَعَالَى- الدِّينَ أَمَرَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِصَوْمِ التَّاسِعِ مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ، وَبَيَّنَ أَنَّ صِيَامَ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً كَامِلَةً؛ وَذَلِكَ فَضْلٌ عَظِيمٌ لَا يُفَرِّطُ فِيهِ إِلَّا مَحْرُومٌ.

فَأَفْضَلُ دَرَجَاتِ الصَّوْمِ أَنْ يَصُومَ التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ، وَلَوْ عَجَزَ عَنِ التَّاسِعِ فَصَامَ الْحَادِيَ عَشَرَ تَحَقَّقَتِ المُخَالَفَةُ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى صَوْمِ الْعَاشِرِ وَحْدَهُ نَالَ الْأَجْرَ المُرَتَّبَ عَلَيْهِ، وَفَاتَهُ فَضْلُ مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. 

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُعِينَنَا عَلَى مَا يُرْضِيهِ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا مَا يُسْخِطُهُ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحينَ، وَأَنْ يَقْبَلَ مِنَّا وَمِنَ المُسْلِمِينَ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ…

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَأَكْثِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَكُونُ ذُخْرًا لَكُمْ يَوْمَ عَرْضِكُمْ ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(8)﴾ [الزلزلة: 6- 8].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: أَحَادِيثُ صِيَامِ عَاشُورَاءَ جَاءَتْ عَنْ عَائِشَةَ وَالرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَمُعَاوَيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، ثَمَانِيَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَوَاهَا عَنْهُمْ جَمْعٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَاتَّفَقَ عَلَى إِخْرَاجِهَا جَمِيعًا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَأَحَادِيثُ أُخْرَى صَحِيحَةٌ أَوْ حَسَنَةٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ صَيْفِيِّ وَهِنْدِ بْنِ أَسْمَاءَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَبْدِ اللَّـهِ بْنِ بَدْرٍ الْجُهَنِيِّ، سِتَّةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-. ثُمَّ بَعْدَ كُلِّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ يَأْتِي مَنْ يُشَكِّكُ فِي صِيَامِ عَاشُورَاءَ.

إِنَّ ثَمَّةَ عَمَلًا مُمْنَهَجًا يَقُومُ بِهِ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ لِتَشْكِيكِ المُسْلِمِينَ فِي شَعَائِرِهِمْ، وَابْتَدَأَ هَذَا الْعَمَلُ المُنَظَّمُ بِإِبَاحَةِ بَعْضِ المُحَرَّمَاتِ كَرِبَا الْبُنُوكِ، وَاخْتِلَاطِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، وَسَفَرِ المَرْأَةِ بِلَا مَحْرَمٍ، وَخَلْوَةِ الرَّجُلِ بِالمَرْأَةِ، وَسُفُورِ المَرْأَةِ وَتَبَرُّجِهَا.. صَاحَبَهُ تَشْكِيكٌ فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ، كَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَإِعْفَاءِ اللِّحَى، وَتَشْمِيرِ الثِّيَابِ..

 ثُمَّ تَبِعَ ذَلِكَ حَمْلَةٌ مُنَظَّمَةٌ عَلَى نَوَافِلِ الصَّوْمِ المُؤَكَّدَةِ لِتَشْكِيكِ النَّاسِ فِيهَا كَصِيَامِ سِتِّ شَوَّالٍ، وَصَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْوَاقِفِ بِعَرَفَةَ، وَأَخِيرًا صِيَامُ عَاشُورَاءَ، فَيَخُوضُ فِيهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ، وَيُؤَيِّدُهُ فِي جَهْلِهِ مَنْ يَجْهَلُ، وَرُبَّمَا اسْتُئْجِرَتْ عَمَائِمُ مَفْتُونَةٌ لِهَذِهِ المُهِمَّةِ الْقَذِرَةِ.

وَتَهْدِفُ هَذِهِ الْحَمَلَاتُ المُمْنَهَجَةُ عَلَى شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ إِلَى تَزْهِيدِ النَّاسِ فِي الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ ابْتِدَاءً بِالسُّنَنِ، وَانْتِهَاءً بِالْفَرَائِضِ؛ لِخَلْعِ النَّاسِ مِنْ دِينِهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّعَائِرَ الظَّاهِرَةَ هِيَ أَقْوَى قِيَاسٍ لِمُحَافَظَةِ المُسْلِمِينَ عَلَى دِينِهِمْ، وَالْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَهُ.

كَمَا تَهْدِفُ هَذِهِ الْحَمَلَاتُ إِلَى تَعْوِيدِ المُسْلِمِينَ عَلَى الطَّعْنِ فِي شَعَائِرِهِمْ وَتَشْكِيكِهِمْ فِيهَا، وَجَعْلِ الشَّرِيعَةِ كَلَأً مُبَاحًا يُبْدِي رَأْيَهُ فِي رَفْضِهِ وَنَقْدِهِ الصُّحُفِيُّ وَالمُمَثِّلُ وَالمُغَنِّيَةُ وَالرَّاقِصَةُ وَأَمْثَالُهُمْ.

وَالْهَدَفُ الْأَكْبَرُ هُوَ ضَرْبُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ السَّنَدُ التَّفْصِيلِيُّ لِشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الْكَثِيرَةِ، بِحَيْثُ تَكُونُ مَوْضِعَ شَكٍّ عِنْدَ المُسْلِمِينَ.

وَكُلُّ ذَلِكَ يَعْمَلُونَهُ تَحْتَ مَشْرُوعَاتِ تَجْدِيدِ الْإِسْلَامِ، وَإِعَادَةِ قِرَاءَتِهِ، وَهَدَفُهُمْ هُوَ: إِفْرَاغُهُ مِنْ مُحْتَوَاهُ، وَإِلْغَاءُ شَعَائِرِهِ الَّتِي كَانَتِ السَّبَبَ الْأَهَمَّ فِي حِفَاظِ المُسْلِمِينَ عَلَى دِينِهِمْ.

إِنَّ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ هَاجَمُوا الْإِسْلَامَ مِنْ خَارِجِهِ فَطَعَنُوا فِي كِتَابِهِ وَنَبِيِّهِ وَأَحْكَامِهِ وَشَرَائِعِهِ، وَوَصَمُوهُ بِأَنَّهُ دِينٌ فَاشِيٌّ دَمَوِيٌّ، وَأَنَّ رَسُولَهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَوَّلُ إِرْهَابِيٍّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ دُسْتُورُ الْإِرْهَابِ، لَكِنَّ هَذِهِ الطُّعُونَ الَّتِي دَامَتْ عُقُودًا، وَاسْتُخْدِمَتْ فِيهَا كُلُّ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ، وَتَبَنَّتْهَا مَرَاكِزُ الِاسْتِشْرَاقِ لَمْ تَزِدِ المُسْلِمِينَ إِلَّا تَمَسُّكًا بِدِينِهِمْ، كَمَا أَنَّهَا جَبَذَتْ آلَافًا مِنْ أَبْنَاءِ الْغَرْبِ إِلَى الْإِسْلَامِ لمَّا عَرَفُوهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا كَمَا يُقَدِّمُهُ كَذَبَةُ الِاسْتِشْرَاقِ، وَمُرْتَزِقَةُ الِاسْتِعْمَارِ، فَضَاقَتْ حِيلَتُهُمْ مِنْهُ.

وَرَأَوْا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْوِيضُ الْإِسْلَامِ إِلَّا مِنْ دَاخِلِهِ، وَعَلَى أَيْدِي مَنْ يَنْتَسِبُونَ لَهُ، فَاسْتَأْجَرُوا المَفْتُونِينَ لِيُكَرِّسُوا جُهُودَهُمْ وَأَوْقَاتَهُمْ فِي تَشْكِيكِ النَّاسِ فِي شَعَائِرِ دِينِهِمْ، وَتَزْهِيدِهِمْ فِي شَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَطَعْنِهِمْ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِنْ سَمِعَ عَنْ حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ شَعِيرَةٍ مِنَ الشَّعَائِرِ مَا لَا يَعْرِفُ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَسْتَوْثِقَ قَبْلَ أَنْ يَغْتَرَّ، وَأَنْ يُرْخِيَ سَمْعَهُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ الرَّبَّانِيِّينَ لَا لِأَهْلِ اللَّهْوِ وَالْعَبَثِ وَالْهَوَى؛ فَلِلْعِلْمِ حَمَلَتُهُ وَرِجَالُهُ، وَلِلْعَبَثِ وَالْهَوَى صُنَّاعُهُ وَرُوَّادُهُ ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].

وَمَا نَهَى اللهُ تَعَالى عَنْ طَاعَةِ أَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْهَوَى إِلَّا حِفَاظًا عَلَى قَلْبِ المُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَجْعَلُهُ يَشُكُّ فِي شَرِيعَةٍ ثَابِتَةٍ، أَوْ يَرُدُّ سُنَّةً ظَاهِرَةً، أَوْ يُسْقِطُ وَاجِبًا، أَوْ يَسْتَحِلُّ مُحَرَّمًا، فَيَضِلُّ وَيَهْلِكُ (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّـهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: 50].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ…


تم تحميل المحتوى من موقع