التوازن

عقيل بن محمد المقطري
عناصر الخطبة
  1. تعريف التوازن .
  2. تعريف التنازع .
  3. أنواع التنازع .
  4. عدم الاهتمام بالفنون التقنية والتجريبية. .

اقتباس

الإسلام دين الوسطية ودين التوازن، فلا يدعو إلى الرهبنة والانقطاع للعبادة، وإنما يدعو إلى الوسطية بين طلب الدنيا وطلب الآخرة.. ومن الملاحظ أن منتسبي الدعوة السلفية في بلدنا يندر أن يهتموا بالفنون التقنية والتجريبية والعلوم الدنيوية الأخرى، فتراهم يتهافتون على كليات محدودة كالتربية والآداب والشريعة، وقل المنتسبون...

الحمد لله رب العالمين، شرع فيسَّر، وما جعل علينا في الدين من حرج، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: عباد الله: إن الإسلام دين الوسطية ودين التوازن، فلا يدعو إلى الرهبنة والانقطاع للعبادة، وإنما يدعو إلى الوسطية بين طلب الدنيا وطلب الآخرة، قال الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 77].

موضوعنا لهذا اليوم المبارك سيكون بإذن الله عز وجل حول التوازن، هذا الموضوع المهم الذي جهله كثير من الناس إلا من رحم الله تعالى.

فالتوازن: كما قال ابن فارس: إن الواو والزاي والنون يدل على التعديل والاستقامة. ووزين الرأي معتدله هو راجح الوزن إذا نسبوه إلى رجاحة الرأي وشدة العقل. [معجم مقياس اللغة].

التوازن هو إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص، وهو ينشأ عن معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، ومعرفة حدودها وغاياتها ومنافعها، وهو الحكمة المنوّه بها في قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الأَلْبَابِ) [البقرة: 269].

وقبل أن ندخل في الموضوع نعرج إلى ضده، وهو التنازع حتى نضع النقاط على الحروف وبضدها تتميز الأشياء.

فالتنازع: كما قال صاحب المصباح المنير في مادة (نزع ): "ونازعت النفس إلى الشيء نزوعا ونزاعًا اشتاقت، وبعير وناقة نازع: حنت إلى أوطانها ومرعاها".

وفي لسان العرب: "نازعتني نفسي إلى هواها نزاعا غالبتني، ويقال للإنسان إذا هوى شيئًا ونازعته نفسه إليه وهو ينزع إليه نزاعا".

والتنازع التجاذب ومنه حديث "مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ"، أي أجاذب في قراءته؛ وذلك أن بعض المأمومين جهر خلفه فنازعه قراءته، فشغله، فنهاه عن الجهر بالقراءة في الصلاة خلفه.

إن كل إنسان له نوازعه التي يشتاق إليها ويحن، وتحصل المجاذبة فيها بينه وبين نفسه لتحقيقها وتحصيلها.

ولا يخفى على اللبيب أن كل إنسان ينزع إلى ما تدفعه همته إليه، فمن كان عالي الهمة شريف النفس نزع إلى المعالي، ومن كان جذبته الدنيا إليها، وكبّلته بحبها نزع إلى ما يزيده حبًّا فيها وتعلقًا بها والبون بين الفريقين شاسع. ونحن سنتحدث حول من كانت همته عالية شريفة تطمح لنيل الفضائل والدرجات العلى.

إخوة الإسلام: إن النوازع التي يمكن أن تتجاذب هذه النفس خمس؛ المطلوب التوازن في تحصيلها؛ حتى لا يطغى نازع على آخر، وهي:

- طلب العلم الشرعي .
- كثرة العبادة وإحسانها.
- الدعوة إلى الله تعالى .
- الجهاد في سبيل الله عز وجل .
- طلب المال الصالح.

هذه النوازع ما اجتمعت في قلب عبد إلا منعته الرقاد وورثته السهاد، فلا يطيب عيش حتى يحكم أمره فيها، ويختار منها ما يوفقه الله تعالى إليه، وقد يمن الله عليه، ويجمعها أو غالبها فيكون إمامًا قدوة، كما سيأتي بإذن الله تعالى .

إن الجامع بين هذه النوازع المختلفة بطريقة محكمة هو الذي يملي على التاريخ ما يكتبه، وهو الذي يجعله الله ملجأ وملاذًا للناس حال نزول الخطوب والمدلهمات، وهو الذي إن عاش كان رمزًا، وإن مات صار حديثًا للأجيال، وأما من اجتهد في جانب أو جانبين من الفضائل واقتصر على ذلك فهو في حال حسنة لكنها مفضولة.

يقول ابن الجوزي رحمه الله: "نظرت إلى علو همتي فرأيتها عجبًا، وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه؛ لأنني أحب نيل العلوم على اختلاف فنونها، وأريد استقصاء كل فرد، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه، فلا أرى الرضا بنقصان العلوم إلا حادثًا عن نقص الهمة..


ثم إني أروم نهاية العمل بالعلم فأتوق إلى تورع بشر، وزهادة معروف، وهذا مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق ومعاشرتهم بعيدٌ.


ثم إني أروم الغني عن الخلق واستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم مانع من الكسب، وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية، ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد ما أتوق إلى تحقيق التصانيف لبقاء الخلفين نائبين عني بعد التلف، وفي طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد.


ثم إني أروم الاستمتاع والمستحسنات، وفي ذلك امتناع من جهة قلة المال، ثم لو حصل فرق جمع الهمة.


وكل ذلك جمع بين أضداد فوا قلقي من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع مع إعادة العلم وشغل القلب بالتصانيف وأسفًا على ما يفوتني من المناجاة بالخلوة، مع ملاقاة الناس وتعليمهم، ويا كدر الورع مع ما لا بد منه للعائلة، غير أني قد استسلمت لتعذيبي وتهديدي في تعذيبي، وإن بلغ همي مراده، وإلا فنية المؤمن خير من عمله
" انتهى كلامه رحمه الله.

فلنبدأ بأولها وهو طلب العلم، وهذا النازع متجذر في نفوس كثير من الملتزمين لأسباب كثيرة منها:

1- بسبب ورود النصوص في فضله.
2- لأن العلماء سبب الهداية ومجددون للدين .
3- لأنهم ينفون عن الدين البدع وغير ذلك…

والحقيقة أيها الإخوة ينبغي أن نقف وقفة تأمل حول هذه النقطة، وهي أن كثيرًا من الشباب الملتزم ربما ترك العلوم الصناعية والدنيوية ليطلب العلم الشرعي الكفائي، وهذا لا يحسن، بل ينبغي أن يتخصص بعض الشباب في مثل هذا العلوم؛ لحاجة الأمة لهذه التخصصات. صحيح أنه لم تكن للصناعات والفنون في عهد السلف هذه المنزلة، لكن قوة الأمم اليوم تُقاس بالتقدم التقني والعلمي مع عدم إهمال العلم الشرعي.

مع أننا نجد بعضًا من السلف الصالح مهتمين بهذه الفنون والصناعات، رغم بدائيتها، فهذا القفال/ الحداد/ الزجاج/ الفراء/ الخياط، وغيرهم كثير.

وقد عاب بعض السلف تضييع الفنون والصناعات، فها هو الإمام الشافعي يقول: "لا أعلم علمًا بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه".

وقال: حرملة بن يحيى التجيبي: "وكان الشافعي يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب ويقول: "ثلث العلم وكلوه إلى اليهود والنصارى".

على أنه قد سهل عند بعض السلف الجمع بين الصناعات والفنون وبين طلب العلم الشرعي، لكن اليوم يندر أن تجد من يجمع بين ذلك.

فإذا صعب عليك الجمع، فلعل الله أن يجعل فيما تقتنيه نافعًا لأمتك، ويجعلك ممن يصنعون التاريخ لا الذين يقرءون أحداثه فحسب.

الخطبة الثانية :

أيها الإخوة: إن من الملاحظ أن منتسبي الدعوة السلفية في بلدنا يندر أن يهتموا بالفنون التقنية والتجريبية والعلوم الدنيوية الأخرى، فتراهم يتهافتون على كليات محدودة كالتربية والآداب والشريعة .

كم عدد المنتسبين للهندسة والطب والحاسوب والعلوم والفيزياء والجيولوجيا وغير ذلك؟!

مع مراعاة عند التخصص بهذه الفنون أن يكون المتخصص على إلمام بالأحكام الشرعية التي لا بد منها والتي لها علاقة بفنه.

هناك جوانب للتوازن يحتاج إلى النظر والتخيير في العلوم ليعلم بأيها يبدأ وأيها يؤخر.

قال يحيى بن عمار السجستاني: "العلوم خمسة: علم هو حياة الدين وهو علم التوحيد، وعلم هو قوة الدين وهو العظة والذكر، وعلم هؤلاء بين السلف وهو علم الكلام".

وقيل للإمام مالك رحمه الله: ما تقول في طلب العلم؟ قال: "حسن جميل، ولكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح إلى أن تمسي فالزمه".

وعلى الطالب أن يراجع (تذكرة السامع والمتكلم) لابن جماعة (والحث على طلب العلم) لأبي هلال العسكري، وتعلم طرق التعلم لبرهان الدين الأزنوي.

ثم نأتي إلى قضية التوازن بين طلب العلم وطلب ترقيق القلب، وهذا من أهم المهمات؛ فقد حث عليه السلف كثيرًا، وحذروا من تركه والتفريط فيه؛ لأن الشخص حال انشغاله في طلب العلم قد ينسى هذا الأمر المهم، فهذا محمد بن عبادة المعافري -رحمه الله- يحدّث أنه وصحبه كانوا عند أبي شريح المعافري – رحمه الله- فكثرت المسائل فقال: "وقد درنت قلوبكم، فقوموا إلى خالد بن حميد المهري، فاستبدلوا قلوبكم وتعلموا هذه الرغائب والرقائق، فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجري الصداقة، وأقلوا المسائل؛ فإنها في غير ما نزل تقسي القلب وتورث العداوة".

وقال شعبة رحمه الله: "إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن صلة الرحم فهل أنتم منتهون".

وقال ابن الجوزي رحمة الله: "تأملت العلم والميل إليه والتشاغل به، فإذا هو يقوّي القلب قوة تميل به إلى نوع قساوة… فإذا تأملت إلى باب المعاملات قل الأمل ورق القلب وجاءت الدموع، وطابت المناجاة وغشيت السكينة فالصواب والعكوف على العلم مع تلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعًا لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم".

وتأتي قضية التوازن بين طلب العلم وحقوق الأهل، فحب طالب العلم للعلم أعظم من حب الناس للمال والنساء، وإذا لم يوازن بين الحقوق المختلفة فسيضعف عن إكمال مسيرته.

قال سفيان بن عيينة رحمه الله: "لا تدخل هذه المحابر بيت رجل إلا شقي أهله وولده، أي أشقاهم بكثرة انشغاله عنهم وانشغاله عن طلب الرزق".

وسأل رحمه الله رجلاً: "ما حرفتك؟" قال: طلب الحديث، فقال له: "بشّر أهلك بالإفلاس".

وقالت ابنة أخت الزبير بن بكار لزوجته: "خالي خير رجل لأهله لا يتخذ ضرة ولا سرية! فقالت المرأة: والله هذه الكتب أشد عليَّ من ثلاث ضرائر".

ونختم بقضية التوازن بين طلب العلم وفعل التطوعات، وهذه أرقت طالب العلم الجاد حيث إنه يفضل طلب العلم على فعل التطوع، ويظل هذا الأمر يجول في صدره زمانًا طويلاً خاصة عند قراءة سير العابدين.

فسددوا أيها الإخوة وقاربوا، والقصد القصد تبلغوا، فمن دعاء النبي عليه الصلاة والسلام "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر".

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي