قصة هرقل مع أبي سفيان, وحِوارُهُ له عن الدين الإسلاميِّ وموقفه منه

أحمد بن ناصر الطيار
عناصر الخطبة
  1. موقف هرقل من كتاب الرسول الكريم إليه .
  2. قصة حواره مع أبي سفيان .
  3. موقف هرقل من الإسلام بعد ذلك الحوار .
  4. موقف عظماء الروم وتأثر هرقل بموقفهم .
  5. عرض لكتاب الرسول الكريم إليه .
  6. دروس مستفادة من القصة. .
اهداف الخطبة
  1. بيان موافقة الإسلام للفطرة
  2. وبيان أن الدنيا قد تكون السبب في الصد عن الحق.

اقتباس

وهكذا -يا أمة الإسلام- انتهتْ قصةُ هرقلَ ملكِ الروم, وانتهى حِوارُه مع أبي سفيان, فعلم حقَّ اليقين أنَّ محمداً -صلى الله عليه وسلم- هو رسولٌ من عندِ الله, وتمنَّى أنْ يُقابله ويخدمه, وسعى في إقناع الشعبِ والعلماء, فرفضوا ذلك وغضبوا, فاحتار هرقلُ: هل يُقدِّمُ الإسلام الذي اقْتنع به, ويتَّبعُ هذا الرسول النبي, الذي يجده مكتوباً عنده في الإنجيل؟ أم يتمسَّكُ بعرشه ومُلْكه ولو ذهب دينُه وأغضب ربَّه؟! فما كان منه...

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله وسلم عليه, وعلى آله وأصحابه, ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى, قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق:4].

أمة الإسلام: إنَّ من الملاحظ في الآونةِ الأخيرة, أنَّ دين الإسلام في انْتشارٍ عظيم, رغم التشويه العجيب من وسائل الإعلام, الذي لم يُسبق له مثيلٌ قبل ذلك, وما ذاك يا عباد الله, إلا لأن دينَ الإسلام دينٌ موافقٌ للعقل والفطرة, لا يُعرَضُ على عاقلٍ إلا اسْتحسنه, ولا يطَّلع عليه مُنصفٌ إلا قبِلَه.

ولْنأخذ مثالاً على ذلك, من أحد كُبرائهم, وأشهر عقلائهم, وهو هرقلُ ملكُ الروم, وموقفه عندما عُرض عليه الإسلامُ الصحيح, السالمُ من التحريفِ والتَّشْويه.

فقد ثبت في الصحيحين, عن عَبْد اللهِ بْن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ ملكِ الروم, يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلامِ، وَبَعَثَ كِتَابَهُ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ.

فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ حِينَ قَرَأَهُ: الْتَمِسُوا لِي مِنْ قَوْمِهِ مَنْ أَسْأَلُهُ عَنْ محمد.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، أَنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تُجَّارًا، وَذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، يَعْنِي مُدَّة الصُّلْح بِالْحُدَيْبِيَةِ.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَأَتَانِي رَسُولُ قَيْصَرَ، فَانْطَلَقَ بِي وَبِأَصْحَابِي، حَتَّى قَدِمْنَا إِيلْيَاءَ، وهي فلسطين، فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ، وَإِذَا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ.

فَقَالَ هرقلُ لِمنْ يُترجمُ كلامه: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ, الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا، فَقَالَ قَيْصَرُ: أَدْنُوهُ مِنِّي، ثُمَّ أَمَرَ بِأَصْحَابِه، فَجُعِلُوا خَلْفَ ظَهْرِه، لِئَلَّا يَسْتَحْيُوا من أبي سُفْيَانَ, أَنْ يُوَاجِهُوهُ بِالتَّكْذِيبِ إِنْ كَذَبَ.

ثُمَّ قَالَ لِمنْ يُترجمُ كلامه: قُلْ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا, عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللهِ! لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ، وهذا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ الْكَذِب، فالكذب قبيحٌ عند الشرفاء والعقلاء.

ثُمَّ قَالَ للِتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: كَيْفَ نَسَبُ هَذَا الرَّجُلِ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا.

قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ فِي الْكَذِبِ، قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا.

قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، وهذا في الْأَكْثَرِ الْأَغْلَب، فبعض الأشراف اتبعه كأبي بكرٍ -رضي الله عنه-.
 

قَالَ: فَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ، بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا.

وهذا يدل عباد الله, أنَّه لم يرتدَّ أحدٌ عن الإسلام كَراهةً له, وعدم رِضاً به, بل لهوىً في نفسه, ورغبةٍ في حظوظ الدنيا العاجلة.

قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ الْآنَ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ، وَنَحْنُ نَخَافُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ, أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا، أَنْتَقِصُهُ بِهِ غَيْرُهَا.

قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ كَانَتْ حَرْبُكُمْ وَحَرْبُهُ؟ قُلْتُ: كَانَتْ دُوَلًا سِجَالًا، يَنَالُ مِنَّا, وَنَنَالُ مِنْهُ.

قَالَ: فَبِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.

فَقَالَ هرقلُ لأبي سفيان, بعدما علم منه صفةَ وحقيقةَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا.

وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لقُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ.

وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ، قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ، لقُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ.

وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَ الناسِ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.

وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ.

وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ، بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ، حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوب، لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ.

وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ.

وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ، وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ يَكُونُ دُوَلًا، يُدَالُ عَلَيْكُمُ الْمَرَّةَ، وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، وَيَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ.

وَسَأَلْتُكَ: بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ, لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصِّدْقِ، وَالصَّلاةِ، وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَإِنْ يَكُنْ مَا قُلْتَ فِيهِ حَقًّا، فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَاللهِ! لَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ، أَيْ: أَصِل إِلَيْهِ، لَتَجَشَّمْتُ لِقاءَهُ، أَيْ: تَكَلَّفْت الْوُصُول إِلَيْهِ.

وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ على يقينٍ أَنَّهُ لَا يَسْلَم مِنْ الْقَتْل إِنْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-.

قال ابن حجرٍ رحمه الله: "لَكِنْ لَوْ تَفَطَّنَ هِرَقْلُ لِقَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْكِتَاب الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ: "أَسْلِمْ تَسْلَمْوَحَمَلَ الْجَزَاء عَلَى عُمُومه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، لَسَلِمَ لَوْ أَسْلَمَ مِنْ كُلّ مَا يَخَافهُ، وَلَكِنَّ التَّوْفِيق بِيَدِ اللَّه تَعَالَى".

قال: وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ، لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ, مُبَالَغَةً فِي الْعُبُودِيَّة وَالْخِدْمَة لَهُ، ليقينه برسالته وصدقه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[البقرة:146].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم, فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد الله رب العالمين, ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, الملكُ الحق المبين, وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المصطفى الأمين, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله : ويُكمل أَبُو سُفْيَانَ قصَّته مع هرقلَ فيقول: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَمَرَ بِهِ فَقُرِئَ، فَإِذَا فِيهِ:

"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ، إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ، وَ(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:64]".

والمرادُ بالْأَرِيسِيِّينَ: أي: الْفَلَّاحِينَ من رعيَّته، والمعنى: عَلَيْك إِثْمُ الضُّعَفَاء وَالْأَتْبَاع، إِذَا لَمْ يُسْلِمُوا تَقْلِيدًا لَك؛ لِأَنَّ صِغارَ الناسِ تبعٌ لكبرائهم وعلمائهم.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي، قُلْتُ لَهُمْ: لقْد أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ! أي: عَظُمَ شأْنُ محمدٍ، هَذَا مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ يَخَافُهُ.

وَابْنُ أَبِي كَبْشَة، أَرَادَ بِهِ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ لِأَنَّ أَبَا كَبْشَة أَحَدُ أَجْدَاده، وَعَادَةُ الْعَرَب إِذَا انْتَقَصَتْ أحداً، نَسَبَتْه إِلَى جَدٍّ غَامِض أو ناقص.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللهِ مَا زِلْتُ ذَلِيلًا مُسْتَيْقِنًا أَنَّ أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ اللهُ عليَّ الْإِسْلامَ.

ودَعَا هِرَقْلُ عُظَمَاءَ الرُّومِ، فَجَمَعَهُمْ فِي دَارٍ لَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرَّشَدِ آخِرَ الْأَبَدِ؟ وَأَنْ يَثْبُتَ لَكُمْ مُلْكُكُمْ؟ قَالَ: فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ، أي: ذهبوا إليها مسرعين يريدون الخروج, فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِمْ، فَدَعَا بِهِمْ فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا اخْتَبَرْتُ شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُم الَّذِي أَحْبَبْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ، وَرَضُوا عَنْهُ.

وهكذا -يا أمة الإسلام- انتهتْ قصةُ هرقلَ ملكِ الروم, وانتهى حِوارُه مع أبي سفيان, فعلم حقَّ اليقين أنَّ محمداً -صلى الله عليه وسلم- هو رسولٌ من عندِ الله, وتمنَّى أنْ يُقابله ويخدمه, وسعى في إقناع الشعبِ والعلماء, فرفضوا ذلك وغضبوا, فاحتار هرقلُ: هل يُقدِّمُ الإسلام الذي اقْتنع به, ويتَّبعُ هذا الرسول النبي, الذي يجده مكتوباً عنده في الإنجيل؟ أم يتمسَّكُ بعرشه ومُلْكه ولو ذهب دينُه وأغضب ربَّه؟! فما كان منه إلا أنْ تمسك بملكه على حساب دينه!.

وأمثالُه من البشر كثير, ممَّن يقتنع بهذا الدين الحقّ, لكنه لا يتَّبعه خوفاً على كرسيِّه ومكانته, أو إيثاراً لهواهُ وشهواتِه.

وصدق الله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص:50].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي