هذا أول ما يزود الله به دعاة الحق وحملته، وفى طليعتهم وقمتهم صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام-، إلى جانب هذا هناك أمر يضعه الله في قلوب خدام الحق، هذا الأمر هو أنه مهما طال المدى فإلى الحق المصير، وأن الكفاح مهما كلف من خسائر، وحمل من عنت فإن القاعدة القرآنية لابد أن ترسو قواعدها وهي قوله -جل شأنه-: (فَأَمَّا...
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
فمما يروى أن أبا بكر -رضي الله عنه- قال يوصي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة لاتباعهم الحق، والحق ثقيل على النفوس، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة لاتباعهم الهوى، والهوى خفيف على النفوس".
والواقع أن خدمة الحق قد تكون معنتة متعبة؛ لأن أتباع الهوى يقفون ضده، ويكرهون مسيرته، ويعترضون انطلاقه إلى غايته، ثم إن الحق عندما يشق طريقه لابد أن يشعر أصحابه بمرارة الكفاح، وآلام الهزيمة التي لابد أن تصيبهم في مراحل الجهاد الطويل قبل أن يدركوا هدفهم، ويحققوا مرادهم.
وعندما نتأمل في ذكرى الهجرة نجد شواهد لذلك، وعندما نتأمل في سيرة أولاد النبي -صلى الله عليه وسلم- بعده، ومصابهم في أنفسهم وأموالهم بسبب دينهم واستمساكهم بالحق، نشعر بهذه المعاني حية في ضمائرنا.
كان الحسين بن علي -رضي الله عنه- يستطع أن يعيش قرير العين، وقد التقت في ساحته حسنة الدنيا وحسنة الآخرة. كان الرجل من ناحية الدنيا ممدود المال، عريض الجاه، جميل الوجه، شريف النسب، وكان من ناحية الدين عابدًا، مخبتًا، مخلصًا، يقوم الليل، ويصوم النهار، وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا، ولكن خدمة الحق كلفت الرجل أن يخرج ليؤدي واجبه، ولينهض بأعباء الرسالة التي شعر بضرورة القيام بها، وكلّفه ذلك وكلف إخوانه أن يفقدوا حياتهم واستقرارهم، حتى قال شاعر من شعراء الإسلام يومئذ يقارن بين حياة الحسين -رضي الله عنه وأهله- وبين حياة ملوك أمية وترفهم، يقول في البيوت التي خربت لأنها خدمت الحق، يقول:
مدارس آيات خلت من تلاوة *** ومنزل وحي مقفر العرصات
وآل زيـاد في القصور مصونة *** وآل رسول الله في الفلوات
يقصد زينب بنت علي -رضي الله عنها-، لكن الحسين وأخته وأهل البيت -رضي الله عنهم-، إنما سلكوا في هذا مسلك جدهم -صلى الله عليه وسلم- عندما هاجر؛ كان يستطع أن يعيش في بيته، له زوج صالحة، ومن أسرة نبيلة، وحوله من رغد العيش ما يطمئنه إلى حاضره ومستقبله، ولكنه لما بدأ يحمل أعباء الرسالة، بدأ يحمل المتاعب الثقال، وكان ورقة بن نوفل رجلاً خبيرًا بطبائع المجتمعات، وقضية الصراع بين الحق والباطل، فلما بدرت بوادر الوحي، وذهب يقص ما وجد على ورقة، قال له ورقة: "ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك"، فاستغرب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "أومخرجي هم؟!"، قال: "نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي".
إن الذين ورثوا الخرافة تعصبوا لها، والذين اطمأنوا لأوضاع باطلة تدر عليهم السمن والعسل يحبون أن تبقى هذه الأوضاع، وأن يعيشوا في ظلها، وهم يقاتلون دونها، ولذلك عندما وجدوا دينًا يعكر صفوهم، ويحارب إفكهم، ويمزق خرافاتهم، تنمروا له: (وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا)، يكادون يبطشون بهم، (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
لكن أهل الحق الذين يستميتون في الذود عنه، يرزقهم الله أمورًا تهوِّن عليهم الصعب:
من أول تلك الأمور: نفس رفيعة تمج الباطل، وتشمئز منه، وتشعر بالشقاء لو أنها قارفته أو اقتربت منه، نفس تأنس للحق، وتهش له، وتستحلي مرارة الدفاع عنه، وترى في ذلك كرامتها ومجادتها وعظمتها في الدنيا والآخرة.
إن الذي خلق الحقيقة علقمًا *** لم يخل من أهل الحقيقة جيلاً
في كل زمن يوجد من يحتضن الحق، ويستريح إليه، ومن هذا المعنى قول أحد العلماء وقد سئل: ما لذتك؟! قال: "في حجة تتبختر اتضاحًا، وشبهة تتضاءل افتضاحًا".
ربما كانت لذة الحيوان في أبناء آدم أكلة شهية، أو نومة هنية، ولكن هناك ناس يشعرون باللذة تغمر أقطار أنفسهم بالسعادة لأن للحق دليلاً قويًا ظهر، ولأن الباطل أخذ يتبدد تَبَدُّدَ الغيوم عندما تشرق أشعة الشمس.
هذا أول ما يزود الله به دعاة الحق وحملته، وفى طليعتهم وقمتهم صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام-، إلى جانب هذا هناك أمر يضعه الله في قلوب خدام الحق، هذا الأمر هو أنه مهما طال المدى فإلى الحق المصير، وأن الكفاح مهما كلف من خسائر، وحمل من عنت فإن القاعدة القرآنية لابد أن ترسو قواعدها وهي قوله -جل شأنه-: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).
وقد حدث فعلاً أن اصطدم حق وباطل من قديم، ولكن ما الذي انتهى الأمر إليه؟! من قاتل الحسين -رضي الله عنه-؟! نكرة في التاريخ لا يُعرف، باء باللعنة في يومه وغده، وذهب في خبر كان ينتظر غضب الله عندما يؤوب إليه.
أما الحسين فإن الله رفع له ذكره، كما رفع ذكر جده -عليه الصلاة والسلام-، وبقي الحق وبقي أهله، وتبخر الباطل وتبخر خدمه.
هذه حقائق نذكرها بين يدي حديثنا عن الهجرة النبوية الشريفة، لقد تناولت الهجرة النبوية في الخطبة الماضية من زاوية، وأريد في خطبة اليوم أن أتناولها من زاوية أخرى.
ألِف الناس في القرآن الكريم أنه ينزل تعليقًا على ما يكون من أحداث، فيوجه التوجيه الذي تفتقر الأمة إليه، إن كان الذي حدث نصرًا ذكر أسبابه بحق، وكسر الغرور الذي قد يصاحب المنتصرين، وإن كان هزيمة ذكر الأسباب بصدق، ومسح التراب الذي عفّر جباه المنهزمين.
على هذا النحو نجد أن سورة الأنفال نزلت في أعقاب غزوة بدر، وأن سورة الأحزاب نزلت في أعقاب الخندق، وأن سورة الفتح نزلت في أعقاب الحديبية، وأن سورة آل عمران نزل نصفها الأخير في أعقاب هزيمة أحد، قد يسأل أحد الناس فهل نزلت في حادثة الهجرة سورة ما كما حدث ذلك في أعقاب الغزوات التي وقعت؟!
والجواب: لا، لم يقع هذا، ولكن وقع ما هو أخطر وأهم، كأن الله -سبحانه وتعالى- حكم بأن قصة الهجرة أكبر من أن يعلق عليها في سورة واحدة، وأن تمر مناسبتها بهذا التعقيب وينتهي الأمر، فحكم -جل شأنه- بأن تكون ذكرى الهجرة قصة تؤخذ العبر منها على امتداد الأيام، وتذكر في سور كثيرة، وفي مناسبات مختلفة.
ولذلك فإني أعرض من سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والتوبة، والأنفال، آيات تناولت الهجرة، وتناول الهجرة في هذه السور المختلفة إنما تم في إطار الدواعي والملابسات التي قضت بالعودة إلى ذكرى الهجرة حديثًا عنها واعتبارًا بها، ففي سورة البقرة نقرأ قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، (أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ) يعني أن الرجاء في الله ليس حق الكسالى والعجزة، إنما هو حق المهاجرين والمجاهدين.
ولمَ ذكر هنا أمر الهجرة والجهاد؟! تنظر إلى الآية التي سبقت هذه الآية لتعرف السبب، فإن الله تعالى يقول للمسلمين: إن أعداءكم كثيرون، يتربصون بكم ويحاولون فتنتكم عن دينكم وينتهزون الفرص لإلحاق الأذى قل أو كثر بكم، قال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، ثم قال: إن النجاة من هذا الارتداد، ومن هذا الكفر الذي يراد إلحاقه بالمسلمين، يتطلب واحدًا من أمرين: إما الجهاد حتى تنكسر صولة العدو، وإما الهجرة إذا كان المؤمن أعجز من أن يقاتل.
هذا المعنى يستحق أن نذكر معه قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا"، ومعنى الحديث: أنه بعد أن تم فتح مكة فلا مكان للهجرة، انتهت الهجرة، وإنما في أعناق المؤمنين جهاد العدوان وكسر الطغيان إلى يوم القيامة، وإذا استنفرتم فانفروا، أي إذا أعلنت الدعوة إلى القتال وظهر النفير العام فانفروا، ومع ذلك فقد وردت أحاديث أخرى تفيد أن الهجرة باقية إلى يوم القيامة، وتفسير ذلك: أن بعض الناس قد يكونون في بيئات يعتزلون فيها ويستوحشون، هؤلاء ينبغي -كي يبقى الإيمان في أعقابهم- أن يلحقوا بكتلة الأمة الإسلامية، والحقيقة أني شعرت بهذا المعنى، وأنا أرقب حياة بعض الذين هاجروا من مصر إلى كندا، أو أستراليا أو غيرهما من بلاد الله، فإن بعض المسلمين هناك ضاع دينهم، أو فقدوا في البيئة الجديدة ما يربطهم بتراثهم وتاريخهم؛ ألحق الآباء أبناءهم بمدارس لا لغة فيها ولا صلاة ولا قرآن، فشب الأبناء على النحو الذي أتيح لهم وضاع بذلك دينهم.
الأمر يحتاج إلى علاج سريع، إما أن يعودوا إلى إسلامهم هنا، وإما أن نرسل إليهم في بيئاتهم من يستبقي علائقهم بالله ورسوله والقرآن وهداياته وإلا ضاعوا.
هذه آية من الآيات التي علقت على الهجرة بعد الهجرة بسنين، في سورة آل عمران نرى آية أخرى تحدثت عن الهجرة بعد هزيمة "أحد"، والهزيمة كانت مرة ووقعها كان شديدًا على النفوس، ولكن الله ينبه الرجال إلى أن المبادئ لا ينصرها المهازيل والضعاف، من طلب عظيمًا خاطر بعظمته، والأمم الضائعة والشباب الطري لا يمكن أن يكون سنادًا لهدف ضخم ولا حمالاً لواجبات عظيمة.
إذًا لابد أن يلقن المسلمون بعد أُحُد درسًا يذكرهم بالهجرة؛ قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).
في سورة النساء ذُكرت الهجرة، ذكرت على أساس يستحق أن ندرسه في عصرنا، فإن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت انطلاقًا بدعوة محبوسة مضطهدة إلى مكان جديد أو وطن جديد تستقر فيه وتحاول الانطلاق منه، ولذلك كان فرضًا على كل مسلم أن يترك مكة إذا كان يعيش في مكة، أن يترك جنوب الجزيرة العربية إن كان يعيش في جنوبها، أن يترك شمالها إن كان يعيش في شمالها، وأن يلحق بالإسلام الذي أسس مجتمعًا له في المدينة كي يدعم هذا المجتمع الجديد ويعلي فيه راية التوحيد، ويرد عنه عدوان الشرك، ويجعل قوى المؤمنين في هذا الوطن الجديد تتماسك وتتلاقى، ومن هنا فإن عدم الهجرة كان جريمة، واعتبر الذين يؤثرون الضعف في أرضهم اعتبروا حطب جهنم، وقال فيهم رب العالمين: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)، ثم استثنى القرآن أصحاب الأعذار الحقيقية فقال: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا).
الرجال: أي الشيوخ الفانين الذين لا يستطيعون الضرب في الأرض ولا التنقل من مكان إلى مكان، ماذا تكون عقبى هؤلاء؟! (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) والتعبير بكلمة (عَسَى) قطعٌ لدابر اختلاق الأعذار؛ لأن صاحب العذر الحقيقي لا يدرى أيغفر الله له أم لا؟! وإن كان الرجاء في الله محققًا، إلا أن التعبير جاء هكذا حتى لا يفتعل أحد عذرًا.
وفي سورة الأنفال نجد حديثًا عن الهجرة بعد النصر في معركة بدر، والحديث سببه أن المسلمين بدا منهم شيء من الرفق بالأسرى حتى تركوهم، ولكن تطهير الأرض من المجرمين لمصلحة الحياة نفسها، إن المجرمين جراثيم تنقل الخزي والذل والسرقة والأثرة والتشبع من الحرام، ومن مصلحة الحياة نفسها أن يختفي هذا الصنف من الناس.
ولذلك فإن القرآن الكريم ذكّر المسلمين بعد النصر بأيام الكرب والضرب التي كانت تلاحقهم في مكة وهم مضطهدون معذبون: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، ثم يقول الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
وهذه الآية تشرح المؤامرة التي حيكت خيوطها في مكة وهم يتحدثون كيف نخلص من محمد؟! فيرى بعضهم أن يسجن، ويرى بعضهم أن يقتل، ويرى بعضهم أن يطرد، إلى آخر ما اختلف القوم فيه.
ثم تأتي المناسبة الأخيرة التي ذكرت آياتها في سورة التوبة، وربما ظن بعض الناس أن هذه الآيات نزلت في أعقاب الهجرة؛ لأن الله يقول فيها: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
ناس كثيرون ربما ظنوا أن الآية بعد قصة الغار وما وقع فيها، وهذا خطأ، فإن هذه الآية نزلت بعد قصة الغار بتسع سنين، نزلت في سورة براءة، ونزلت كما أحكي لكم الآن لسبب، فإن الله يرجع الناس إلى قصة الهجرة ليعتبروا بها ولينتفعوا من أحداثها، وقد حدث بعد تسع سنين من الهجرة أن استدعى ما يقتضي عرض قصة الهجرة والغار والحوار الذي دار بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، عندما فرض على المسلمين علنًا أن يتجمعوا لمقابلة الروم، والروم أو الرومان -كما يدرس اسمهم في التاريخ- كانوا يومئذ الدولة الأولى في العالم، كانوا أشبه بأمريكا الآن، كانت دولة مرهوبة الجانب، عظيمة السلطان، باطشة بالشمال الإفريقي كله، وبآسيا الصغرى كلها، وعندما اشتبك الإسلام معها كانت خارجة من نصر تجرر أذياله فخرًا على الدولة الأخرى، دولة فارس، أي أن الأمجاد كلها كانت تكلل هامة الرومان، دولة عظمى ومنتصرة، وفي هذه اللحظات قيل للمسلمين: تحركوا إلى دولة الروم لتقاتلوها!! وقع الرعب في قلوب الناس، وقع التخاذل والقلق، وقال المنافقون: انتهى محمد، انتهى دينه، سيشتبك مع الدولة الأولى في العالم وسيتلاشى.
وشاء الله أن تنزل الآيات بعد أن تمت المعركة وبعد أن ذهب المسلمون في ثلاثين ألفًا، ما عرفت جزيرة العرب تعبئة بهذه الضخامة في أيام مرهقة بحرها وجدبها حتى سميت الغزوة غزوة العسرة، ونزل القرآن يبكّت المنهزمين الضعاف، يبكّت الذين خافوا القوة المادية ونسوا قوة الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا...).
وعاد إلى قصة الهجرة يذكّر بوقائعها، إن الرجل الفرد الذي تألبت عليه مكة كلها وهي يومئذ أم القرى وعاصمة الجزيرة العربية، إن الرجل الوحيد الذي خرج معه صاحبه يؤنسه ويخدمه، هذا الرجل ماذا حدث له؟! ما استطاع الناس أن يصنعوا له شيئًا، بل لقد تحول على امتداد الزمن إلى حضارة عمرت المشارق والمغارب بمنطق العقل، وأدب النفس، وسناء الخلق، وأقامت مجتمعًا لا تعرف الدنيا مثله تراحمًا وتناصرًا وعدلاً.
(لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا): صيحة العزاء في ضيق الغار وهجمة العدو واضطراب الدنيا، صيحة العزاء (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
لكن متى يكون الله مع أمة ما؟! يوم تكون هذه الأمة مع الله، وقد قلت لكم: إن أحد الصالحين قال لتلميذه: "إذا أردت أن تعرف مكانتك عند الله فاعرف مكانة الله في قلبك".
هكذا ذكر الإسلام قصة الهجرة، وهكذا عرضها القرآن الكريم في مواطن شتى من السور، نزلت تعلم، وتعلم إلى جانب ذلك أن صاحب الرسالة الجليلة -عليه الصلاة والسلام- ما فقد بالله ثقته، ولا وهن فيه أمله، عندما لاحقه سراقة بن مالك يريد أن يبطش به، وأن ينال الجائزة المرصدة لمن يجيء بمحمد -صلى الله عليه وسلم- حيًّا أو ميتًا، وعندما هزمته الأقدار كبا، وكبا فرسه، قال له المهاجر الوحيد المطارد في صحراء الجزيرة: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟!". وعاد الرجل كالمجنون، مَن الذي حدَّث ومن الذي سمعه؟!
وفتحت فارس، وجيء بسواري كسرى، ودعا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سراقة، وألبسه السوارين تحقيقًا لوعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ).
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
فإن الإسلام الذي جاهد من أجله محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- هو دين الله من الأزل إلى الأبد، هو الدين الحق من الأزل إلى الأبد، به بشر جميع الأنبياء من قبل، وبحقائقه أرسلوا، وبأركانه نهضوا بين الأمم، منذ نوح -عليه السلام- أبي البشر الثاني، يقول الله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
ويقول الله لعيسى ابن مريم -عليه السلام-: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ).
وبين عيسى ونوح رسل كثيرون، ذكر القرآن عناصر الوحدة الدينية التي تجمعهم كلهم والعنوان الفذ الذي عملوا تحت رايته، أي الإسلام.
لكن الإسلام عندما شرح القرآن الكريم حقيقته على هذا النحو كمّل المعاني فبيّن أن موسى ما كذبه عيسى، ولا عيسى كذب موسى، ولا محمد -صلى الله عليه وسلم- كذب واحدًا من الاثنين.
الأول كان يمهد للثاني، والثاني كان يصدّق الأول، هذه حقائق، لكن الأتباع الجهلة شردوا عن رسالة موسى وعن رسالة عيسى، ولذلك لما انحرفوا عن طريق موسى وعيسى وإبراهيم، أصبحوا لا يستحقون وصف الإسلام؛ لأن الإسلام إيمان بالله الواحد، وتصديق لما جاء به موسى، فأين ما جاء به موسى؟! وهل صدق اليهود بما جاء به موسى؟!
إن الإسلام إيمان بالله الواحد وتصديق للنبيين جميعًا، فإذا قال يهودي في إسرائيل: إن عيسى لقيط وأمه زانية، وإن محمدًا دجال ورسالته كاذبة. فهل يمكن أن يقال: إن هذا اليهودي يتبع موسى ويسمى مسلمًا؟! لا، لا، هذا غير صحيح، إن الإسلام الحق عبادة لله الواحد، ولو أن عيسى حي لرفض ممن يزعمون اتباعه أن يجعلوه إلهًا مع الله، ولقال لهم: إني عبد فقط، ولا يمكن أن يسمى من يشرك بالله أو يكذّب واحدًا من أنبيائه مسلمًا يعبد الله على طريقة موسى أو على طريقة عيسى.
إن محمدًا -عليه الصلاة والسلام- جاء بالحقيقة الكاملة والوحدة الدينية الشاملة، وهو مع ذلك وضع قاعدة إنسانية كلها رقة، وكلها عدالة، فبين أن الذي يرفضه -أي يرفض محمدًا صلى الله عليه وسلم- ولا يريد أن يتبعه فليرفضه وليبق على ما يريد: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
فنحن نشرح الحق ونؤيده ونسانده ونستميت في الدفاع عنه، ونرد كل فتنة تحاول أن تمسخ الدين أو أن تشوهه، ولكنا مع هذا الاستمساك والتشبث نعامل غيرنا كإنسان له ما لنا وعليه ما علينا، هذا هو الفهم الواعي والشرح الدقيق للإسلام، أما الزعم بأن الأديان كلها سواء لا خلاف بين يهودية أو نصرانية أو إسلام في عصرنا الحاضر، فهذا لغو من القول لا يلتفت إليه.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)..
أقم الصلاة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي