شبهات حول بعض الأحاديث النبوية

محمد الغزالي
عناصر الخطبة
  1. رد شبهات عن بعض الأحاديث النبوية الشائعة .
  2. \"من قال لا إله إلا الله دخل الجنة\" .
  3. حديث البطاقة .
  4. \"لن يدخل أحدكم عمله الجنة\" .

اقتباس

موضوعنا -إن شاء الله- رد شبهات عن بعض الأحاديث النبوية التي شاعت بين الناس وفهموها على غير وجهها. والمسلمون بحسبهم أن أعداءهم يتربصون بهم وينالون منهم، فلا ينبغي أن يعينوهم على أنفسهم بسوء الفهم للدين والافتراء على وحي الله بما... فإذا كان الإنسان يدَّعي الإيمان ثم لوحظ عليه أنه يفتري الكذب، وأنه يتلاعب بالوعود، وأنه يغدر بالعهود، وأنه يخوّن الأمانات، وأنه يفجر في الخصومة، فمعنى ذلك أن إيمانه...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

فأرجو أن أوفق إلى أداء خطبة اليوم رغم ما أعاني من بعض الأمراض المفاجئة.

موضوعنا -إن شاء الله- رد شبهات عن بعض الأحاديث النبوية التي شاعت بين الناس وفهموها على غير وجهها.

والمسلمون بحسبهم أن أعداءهم يتربصون بهم وينالون منهم، فلا ينبغي أن يعينوهم على أنفسهم بسوء الفهم للدين والافتراء على وحي الله بما لم يُردْه الله ورسوله.

من ذلك أن عددًا كبيرًا من الناس يجري على لسانه قوله -عليه الصلاة والسلام-: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة".

فيفهم من هذه الكلمة أن الإيمان يمكن أن يكون لفظًا عابرًا وقولاً فارغًا، وأنه ما دام قد تحصَّن وراء كلمة التوحيد التي أفلتت من بين شفتيه فلا عليه أن يقصر في جنب الله ولا عليه أن يفرط في حقوق الله!! وهذا تفكير لا أصل له في ديننا، فإن علماء الحديث قالوا: هذا الحديث له معنيان:

المعنى الأول: أن هذا الحديث إما قيل في صدر الإسلام يوم كانت مهمة النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يحارب الوثنية السائدة، وأن يحقّر عبادة الأصنام، وأن يفطم الناس عن الخرافات التي ألفوها، ويرفعهم عن مستواها إلى مستوى الإيمان بالله الواحد. فكانت الدعوة إلى التوحيد هي المهاد الأول والأساس الأوحد الذي بدأ الإسلام به، ولكن الإسلام بعد ذلك نما وأخذت تعاليمه تتنزل من لدن العلي الكبير ليعلم الناس حقيقة دينهم، وتمام شرعهم.

ومعروف أن القرآن ظل ينزل خلال ثلاث وعشرين سنة، وأن أركان الإسلام لم تكتمل لأول يوم جاء فيه هذا الدين الحنيف، وإنما ظلت أوامره ونواهيه تتنزل حلقة بعد أخرى حتى اكتملت سلسلتها قبل أن يذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى.

معروف أن صوم رمضان لم يشرع إلا بعد خمسة عشر عامًا من بدء الإسلام، ولم يكن صوم رمضان معروفًا في العهد المكي كله، ولا كان فريضة من فرائض الدين.

ومعروف أن الصلوات الخمس ما شرعت إلا ليلة الإسراء، وقبل ذلك كانت الصلاة ثنتين ثنتين.

ومعروف أن فريضة الحج لم تشرع إلا بعد أن استطاع المسلمون أن يفتحوا مكة، وأن يؤمِّنوا طريق الحج، وأن يشيعوا الأمان في أرجاء الجزيرة.

عندئذ -بعد أن كانت كلمة التوحيد هي الإسلام- قيل: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان".

ثم جاء حديث آخر وسع الدائرة وبيّن أن تعاليم الإسلام أكثر وهو: "الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، وحج البيت سهم، والصيام سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له".

إذن الرأي الأول أن هذا الحديث قيل في صدر الإسلام، وأن تعاليم الإسلام ظلت تتنزل خلال ربع قرن تقريبًا، فكان هذا الحديث تصويرًا لأول ما بدئ تعليمه، ثم جاءت بعد ذلك أشياء كثيرة لابد منها، ولا يتم الإسلام إلا بها، ولا تعتبر أركانه مستكملة إلا إذا أداها الإنسان جميعًا. هذا رأي تبناه أو فضّله وأشار إليه العلامة المنذري المحدث المشهور.

هناك رأي آخر يقول: ليس من الضروري أن تقول: هذا الحديث قيل أول الإسلام ثم جاءت بعد ذلك متممات له، إنما المقصود بـ"من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة"، من قالها مؤمنًا بها، موفيًا بحقوقها، وقّافًا عند حدودها، نازلاً على ما يرتبط بها من آثار في النفس والمجتمع.

والآثار المرتبطة بالإيمان كثيرة، وقد بين النبي -عليه الصلاة والسلام- هذه الآثار في أحاديث شتى، بيّن أن الإيمان لابد أن يكون مجموعة من الأخلاق الأساسية من صدق ووفاء وأمانة وضبط للمواعيد وشرف في الخصومة.

فإذا كان الإنسان يدَّعي الإيمان ثم لوحظ عليه أنه يفتري الكذب، وأنه يتلاعب بالوعود، وأنه يغدر بالعهود، وأنه يخوّن الأمانات، وأنه يفجر في الخصومة، فمعنى ذلك أن إيمانه مكذوب على نحو ما قال الله -جل شأنه-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).

وعلى هذا النحو جاء الحديث الشريف: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".

فهذا الحديث يعني أن الأخلاق من أركان الإيمان، ويجب أن يكون الإنسان صاحب خلق حتى يعتبر إيمانه مقبولاً ويقينه ناضجًا.

ولابد أيضًا للمؤمن من أن يؤدي الحقوق التي كتب الله عليه وهو منشرح الصدر، مطمئن النفس، فإذا طلبت منه زكاة رحّب بما يدفع، وإذا فرضت عليه نفقة نهض ولم يبخل.

إن المنافقين يعتبرون الزكوات التي يدفعونها غرامة كلفوا بها، ويعتبرون النفقات المطلوبة منهم مغارم لزمتهم وهم يودون لو فروا عنها، وهؤلاء يقول الله فيهم: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، ثم قال -جل شأنه-: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

يعني أن المؤمن عندما تطلب منه النفقة يذهب بها إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ويقول له: يا رسول الله: خذ ما فرض الله علينا وادع الله لنا.

وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يأخذ الصدقات المكتوبة، ويدعو لمن أداها كما أمره الله بذلك: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

والنفقة إذا كانت مع إيمان ضخم فإنها تعتبر لذة للإنسان، وقد كان سعد بن معاذ -رضي الله عنه- في معركة بدر يقول للنبي -عليه الصلاة والسلام-: "خذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت". هذا هو الإيمان.

أما المنافقون فإذا كانوا قد ضاقوا بالنفقات فهم أيضًا يضيقون بذكر الله، ويضيقون بالصلوات، ويضيقون بالأذان، وأبغض الصلوات إليهم الفجر والعشاء؛ لأنهم يحبون أن يناموا وأن يستريحوا وأن لا يحتشدوا مع المؤمنين في هذه الصلوات الجامعة، ووصفهم الله فقال: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا).

ولعل من المنافقين في عصرنا من يعلنون كرههم للأذان، ومن يتحدثون عن الأذان بغضب، ولقد رأيت ناسًا يجيئون إلينا في الوزارة يطلبون أن لا يسمعوا أذان الفجر!! قلت لهم: ولماذا؟! قالوا: لأننا نحب أن ننام. قلت: لكن أذان الفجر شرع حتى لا تناموا، وقد أودع الله فيه كلمة لم تودع في الأذان بقية الصلوات الخمس، وهي قوله: "الصلاة خير من النوم". فإذا كنتم تؤثرون النوم فإن هذه طبيعة الإنسان، وقد جاء في الحديث الصحيح: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان".

والمعنى أن الشيطان يجيء للإنسان من عند جهازه العصبي عندما يهدأ في فراشه ويستقبل النوم، وهذا سر التعبير النبوي: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم"، فإن القفا ملتقى المخ والمخيخ وما يتصل بالجهاز العصبي، وليست -بداهة- العقد هنا عقد حبل حسي، لا، هذه عقد معنوية، إن كل عقدة توعز للإنسان -وهو نائم- أن يستأنف النوم؛ لأن الشيطان يهجس في نفسه يقول له: أمامك ليل طويل، أمامك متسع للرقاد، أمامك ما تستريح به أكثر، وهذا كله لينيمه عن صلاة الفجر وليؤخره عن أداء حق الله.

والله لقد نظرت إلى هؤلاء الذين يعتبرون الأذان مزعجًا لهم ثم تذكرت قوله تعالى في المشركين: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ). لمَ هذا؟! كان ينبغي أن يهش هؤلاء لذكر الله، وأن يستجيبوا للنداء وهم يرحبون بتلبية من ينيمهم ومن يوقظهم، من يميتهم ومن يحييهم، من يطعمهم من جوع ومن يسترهم من عري.

ولكن هكذا الناس في عصرنا، يرون أن صوت المؤذن مزعج، وأن صوت الشيطان -عندما يقول لكل منهم: عليك ليل طويل فارقد- أحب إليهم من صوت منادي الرحمن.

كلمة "من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة"، كلمة زوَّر الشيطان مفهومها عند كثير من المسلمين، والغريب أنهم يدسون أصابعهم في كتب السنة ويستخرجون هذا الحديث دون أن يستخرجوا معه أحاديث أخرى تنبههم إلى ما يجب عليهم من سلوك وما يفرض عليهم من خطوات الكمال والترقي، فقد روي: "لا يدخل الجنة قتات"، أي نمام. وروي أيضًا: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". وروي أيضًا: "لا يدخل الجنة قاطع رحم". وروي أيضًا: "من غشنا فليس منا". وروي أيضًا: "ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه". وروي أيضًا: "ليس منا من خبب امرأة على زوجها". أي أفسدها عليه. وروي أيضًا: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". فلمَ تُنسى هذه الأحاديث كلها؟!

الواقع أن هناك أحاديث لابد من ذكر ملابساتها معها حتى تفهم على وجهها الصحيح، وحتى لا يضل المسلمون في فهم دينهم.

من ذلك ما يسميه بعض العلماء حديث البطاقة، وفي هذا الحديث يقول -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟! أظلمك كتبتي الحافظون؟! يقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟! فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب: ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فقال: فإنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء".

هذا ما روته كتب السنة، وتعليقنا على هذا أن الأمر يحتاج إلى فهم، فقد جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: أقاتل وأسلم؟! فقال: أسلم ثم قاتل، فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عمل قليلاً وأجر كثيرًا".

هذا رجل فعلاً كان مشركًا، وأعلن إيمانه بالله، وقاتل مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومات قبل أن يصلي، قبل أن يزكي؛ لأنه ما طالت به حياة حتى يفعل شيئًا من ذلك، هنا يمكن فعلاً أن يقال: إن كلمة التوحيد التي ختم بها حياته طهرت العمر كله، وجعلت الرجل ينقلب إلى ربه وقد ابيضت صفحته وأصبح من أهل الجنة.

هذا هو معنى حديث البطاقة، أما أن يتصور المسلمون أن يفسدوا وأن يعبثوا وأن يخونوا وأن يغدروا في ظل كلمة لم يحسنوا خدمتها ولا الوفاء بها يدخلون الجنة، فهذا كلام ما قاله أحد من العلماء الراسخين أو الأئمة المحترمين، إنما قاله الكسالى من المسلمين يوم أصبح الكسل شيمتنا، وكانت نتيجة هذا التكاسل أو التلاعب أن سقطت ألويتنا وأن ضحك الناس منا، وحدث للأمة الإسلامية ما حدث.

قال العلماء: إن كلمة التوحيد لكي تكون صادقة يجب أن يكون معها إيمان بأمرين، وتنفيذ لأمرين:

الرضا بأحكام الله، وعدم الشغب عليها، وعدم الطعن فيها، وعدم الاعتراض على إنفاذها. والجهاد في سبيل الله. وكلا الأمرين لابد منه للإيمان، والله -جل شأنه- يقول: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

وأما القاعدون عن الجهاد فإن القعود عن الجهاد كشف نفاقهم، فهل يُقبل -في عصرنا هذا- أن يجيء من يتندر أو من يسخر من أحكام الله، ومن ينكص ويجبن عن الجهاد في سبيل الله، ومن ينضم إلى حزب الشيطان معترضًا على الأذان ومن ومن... ثم يدعي بعد ذلك أنه مسلم؟! لا، كفى عبثًا بالإسلام، والله يقول في مثل هؤلاء: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).

يتصل بهذا الحديث حديث آخر في معناه، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لن يدخل أحدكم عمله الجنة"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: لا، "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة".

هذا الحديث طار به أهل الغفلة والسماجة والشغب على دين الله، طاروا به في كل ناحية يقولون: الجنة شيء يساق إلى الناس هكذا دون عمل، العمل ليس سببًا في دخول الجنة. وهذا من أكذب الكذب على الله ورسوله، والعيب أن الإسلام يتعرض لشرحه أحيانًا من لا عقل لهم ولا فقه لديهم.

أما أن العمل سبب لدخول الجنة ولابد منه في دخول الجنة فهذا نص القرآن الكريم في مواضع كثيرة منه، منها قوله -جل شأنه- في سورة الأنعام: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وقوله في سورة الأعراف: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، وقوله في سورة النحل: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، وقوله في سورة الزخرف: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ)، وقوله في سورة الأحقاف: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

ولو أردنا أن نسوق عشرات الآيات من مواضعها في سور القرآن تنص على أن العمل سبب دخول الجنة لاستعرضنا القرآن كله.

قد يسأل أحدكم: فما معنى قول الرسول -عليه الصلاة والسلام- إذًا: "لن يدخل أحدًا عمله الجنة"؟!

والجواب أن الرسول المؤدب الكريم الرقيق المهذب يريد أن يقول للناس: احذروا الاستكبار بالعمل، احذروا أن تغتروا بالعمل، احذر أن تعمل شيئًا ثم تقف بين يدي الله لتقول له: لقد أديت لك حقك، وما بقي لك عندي شيء، فعندك لي الجنة بعدئذ، كأنها دين عليه.
 

المقصود من الحديث كسر دابر الغرور وإشعار الناس بأنهم لو قطعت رقابهم في سبيل الله فما وفوا حق الله، العمل سبب لابد منه لدخول الجنة، ولكنه ليس الثمن الحقيقي للجنة.

هذا معنى الحديث؛ لأن الله قادر أن يقول لأي إنسان عمل صالحًا: تعال، ما لك عندي؟! عبدتني مائة سنة؟! رزقتك مائة سنة، فليس لك عندي شيء، أو يقول له: ليكن رزقي لك تفضلاً مني، عبدتني مائة سنة؟! خذ في الجنة مائة سنة تنعيمًا وتكريمًا ثم أفنيك وتتلاشى ولا يبقى لك وجود، بل قد يقول الله للإنسان: لو حاسبتك على ما تقدم من عمل لاستخرجت لك من الشوائب والعلل في عملك ما يجعل عملك يرفض، ما أرجى عمل لك بين يدي؟! صلاتك؟! إنك تقف مصليًا بين يديّ فتملأ الوساوس صدرك، وتسرقك الشواغل من بين يديّ فتسرح يمينًا وشمالاً، فلو جازيتك لعاقبتك على سوء أدبك.

إذًا الحديث لا يقصد منه منع العمل كما يفهم المغفلون، إنما الحديث يقول للإنسان: اكدح، اعرق في سبيل الله ثم قف منتفضًا بين يدي الله؛ لأنك ما أديت حقه، وهذا معنى قوله تعالى: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).

إن الأحاديث النبوية تحتاج إلى أيد خبيرة، إلى أصحاب بصر، يعرفونها ثم يضيفون إليها ما يلحق بها من أحاديث أخرى وآيات قرآنية، ثم تعرض على الناس لينتفع بها لا ليشغب بها على دين الله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ).

وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدًا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، واعلموا -أيها الناس- أنه لا يصح -في منطق عاقل أن يباع الشيء الواحد بألف جنيه وبمليم، كيف يتصور أن يباع بأغلى الأسعار وبأزهدها وأتفهها؟!

إن الله -عز وجل- قال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). فإذا كان قد باع الجنة بالنفس والمال فأي ثمن هذا؟! إنه ثمن كبير، وإن كان المؤمنون قديمًا قالوا: نحن الرابحون، فإن النفس هو خالقها، والمال هو رازقه، هو أولى بنا منا، فإذا أخذ ما يملك ومنح الجنة نظيره فنحن الرابحون.

على أي الأحوال النفس والمال ثمن الجنة في الآية، فهل يتصور أن تباع الجنة بالنفس وبالمال ثم يأخذها أحد الكسالى بكلمة ما فكر فيها ولا أدى حقها ولا عرف معناها ولا طهر نفسه بسناها؟!

هذا مستحيل، ينبغي أن نعقل، فإن الإسلام تألّب عليه أعداء لا ينامون من كثرة النشاط، لا يستبقون لأنفسهم شيئًا من كثرة التضحيات.

اجتمع يهود العالم الأغنياء وأعطوا ألوف الملايين في ساعة من الساعات، فإذا كان أعداء الإسلام يتنازلون عن ثرواتهم، عن ألوف مؤلفة من الملايين، وأبناء الإسلام لهم أرصدة هائلة رهيبة نشغل العالم الرأسمالي وهم يضنون بالعطاء منها في سبيل الله، فكيف يعتبر أولئك مؤمنين يساندون الإسلام، ويعتبر هؤلاء كفارًا يساندون الشيطان، ثم ينتظر أن ينتصر البخيل بنفسه، البخيل بماله، على المتطوع بماله الخاطر بنفسه؟! هذا مستحيل، ينبغي أن يعرف المسلمون من أصحاب المال الطائل أن الذي فرض عليهم الإسلام يطلب منهم أن ينفقوا أكثر مما ينفق الكفار في سبيل الشيطان، أما أن نبخل ونجبن ونعبث، أما أن تخرج الأمور من بين أيدينا مضطربة ثم يزعم المسلمون أن الجنة حكر عليهم، فهذا كذب على الله الذي يقول للمسلمين: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا).

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

أقم الصلاة.
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي