وربما يفعلون ذلك أيضا من أجل الشهرة؛ ولكنها شهرة خزي وعار، يتبعون فيها سنة الأعرابي الذي بال في بئر زمزم، إذ أورد بعض المؤرخين أنه بينما الحُجاج يطوفون بالكعبة ويغرفون الماء من بئر زمزم إذا بأعرابي حسر عن ثوبه، ثم بال في البئر والناس ينظرون، فما كان من الحُجاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، وخلّصه الحرس منهم، وجاءوا به إلى والي مكة، فقال له: قبّحك الله! لِمَ فعلت هذا؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس، يقولون: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم! هكذا هم...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
غردت إحدى الليبراليات، ليبراليات هذه البلاد قبل عدة أشهر تغريدة قذرة قالت فيها: "سبحان من أبدع صوت -فلان- بين البقية"! وذكرت اسم مطرب مشهور، "ما تدري لما تباشر به أذنك هل أنت تسمع الله، أم الله يطربك، أم أن الله يحير عجزك بنغم أوتار، أو وتر نغم"!.
معاشر المسلمين: سؤال يُطرح: لماذا تتجرأ هذه وأمثالها على مثل هذا الكلام؟ أليس سؤالا محيرا فعلا؟ ما الذي يحملها على كتابة هذه العبارات الكفرية وإعلانها للناس، وقد كانت في عافية من ذلك قبله؟.
ربما لم يلاحظ البعض أن هناك طبعا عند الليبراليين العرب بالذات -ومنهم السعوديون- هو أنهم يبغون استفزاز أفراد المجتمع في أقدس شيء يؤمنون به، يهوون استهزاءهم بدينهم، بربهم، بسنة رسولهم، بأحكام شريعتهم.
إنّ الليبراليين -بتحطيمهم للمقدس في قلوب الناس- كأنما يريدون تحريرهم من قيود المعتقد وأحكام الدين، وتحريرهم من ضابط الحياء، وهو هدف رئيس للحماقات الليبرالية؛ لأن الليبراليين أهل أهواء وشهوات، يكرهون العيش في مجتمع محافظ، فلا بد -إذاً- أن يزيلوا هذه الطبيعة من المجتمع، ومن الطبيعي -إذاً- أن يعملوا على زعزعة ثوابته، والسخرية بدعاة الفضيلة، وكما قال -تعالى-: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا) [النساء:27].
وربما يفعلون ذلك أيضا من أجل الشهرة؛ ولكنها شهرة خزي وعار، يتبعون فيها سنة الأعرابي الذي بال في بئر زمزم، إذ أورد بعض المؤرخين أنه بينما الحُجاج يطوفون بالكعبة ويغرفون الماء من بئر زمزم إذا بأعرابي حسر عن ثوبه، ثم بال في البئر والناس ينظرون، فما كان من الحُجاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، وخلّصه الحرس منهم، وجاءوا به إلى والي مكة، فقال له: قبّحك الله! لِمَ فعلت هذا؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس، يقولون: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم! هكذا هم الليبراليون في طلبهم للشهرة، مع الأسف!.
أيها -الإخوة-: إن الأصل في الليبرالية كمنهج وفكر غربي الأصل أنها تقف من الدين والمتدينين موقفا محايدا؛ لأن الدين في الفكر الليبرالي يدخل ضمن حرية الفكر والرأي، فالحرية هي عماد الليبراليين، وهي ما تنص عليه مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أيضا.
الليبرالي في الغرب -في الجملة- يطبق هذا المبدأ، فالملحد الغربي في بلده لا يحمل بغضاً للمتدينين في مجتمعه، وليس لديه خصومة مع صاحب الكنيسة، مع أن صاحب الكنيسة يكفِّره ويصفه بالهرطقة، أي: الخروج عن تعاليم الكنيسة، بل ويحكم عليه بالنار، ويعلن ذلك على الملأ لا يخشى شيئا، ومع ذلك فإن الليبرالي لا يتضايق من حكمه ذاك أبداً، لأنه يرى أن من حق صاحب الكنيسة وغيره من الناس أن يبدي كل واحد منهم رأيه فيما يشاء، ويدين بما يشاء.
إنكار المنكر باللسان شائع ومقبول في بلادهم، أما الليبرالي العربي فلا، والسعودي خاصة شيء آخر! إنهم يعيشون أزمة حادة، يعيشون انفصاما فكريا أدى إلى انفصام شخصيةِ الواحدِ منهم بكاملها، فهو يعيش بجسده في بيئة لها موروث ديني وثقافي وتقويم اجتماعي محافظ يباين الغرب، يعيش في هذه البيئة بجسده بينما فكره وعقله بعيد عن ذلك تماما.
تسيطر عليه أفكار الغرب و قيم الغرب؛ لكنه مضطر للعيش في هذا المجتمع لأنه مجتمعه، وهنا تحدث المفارقة، ففي حين أن الليبرالي الغربي لا يهمه أن يوصف بالهرطقة، فإن الليبرالي السعودي يغضب إن وصف بالكفر أو النفاق أو الردة أو حتى الفسق، وتراه يدوس بقدميه على ما يؤمن به من حرية الرأي التي تمنحها الليبرالية للشخص حين تمنحها للشخص المقابل أو الخصم الذي يعتقد فيه من يشاء.
وإذا بهذا الليبرالي السعودي يتحول إلى ذات شخصية عدوه الذي يسخر منه في الصحف ويهاجمه أصلا، يتحول إلى متشدد، وواعظ متشنج، ترى ذلك الليبرالي يستشهد بنصوص [يكذبها]، ويسوقها ضد من وصف قوله بالردة أو الكفر أو النفاق، فهو بالتالي يناقض نفسه بشدة، كالذي يريد أن يكفر ولا يريد أن يوصف بالكفر، ويريد أن يرتد ولا يريد أن يوصف بالمرتد، ويريد أن يكون ملحدا ولا يطلق عليه وصفُ ملحد!.
فهو يزعم أنه يتبنى المبدأ الليبرالي الذي يقدس حرية التعبير؛ لكنه لا يقبل بالرأي المضاد أبداً، ويصد ذلك الرأي بعنف، شغله الشاغل السخرية بأقوال ومواقف الدعاة، بل إنك تجد أن كثيرا من الليبراليين الغربيين أرقى في تعاملهم مع قضايا ما يسمى بالإرهاب، وأكثر شفافية ومصداقية وعدلا حين التفريق بين من له علاقة بالموضوع ومن ليس له علاقة به، هم أكثر مصداقية من الليبراليين العرب الذين تقطر أحرفهم أحقادا سوداء يتمنون أن يحتلبوا بهذا الموضوع دماء مخالفيهم، كما قال -تعالى-: (يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) [الحج:72]، يكادون يبطشون بهم.
وهؤلاء الليبراليون مُكّن لهم في وسائل الإعلام بشكل لم يسبق له مثيل، لكنهم كثيرا ما يحرجون من يحميهم ويمكنون لهم في الإعلام باستفزازاتهم المتكررة وتنفيسهم عما في قلوبهم تجاه الدين وأهله، سواء في حوارات فضائية، أو برامج مخصوصة، أو مسلسلات ساخرة؛ هذا غير الكم الهائل من المقالات الصحفية التي تتندر بالإسلام وأهله، وببغض أحكام الدين، وتستعدي الناس على المتدينين والناهين عن المنكر، في حملة محمومة هي أكثر كثافة وأشد حدة مما يكتب في الصحافة الغربية كلها.
لكن؛ لماذا يعيش الليبرالي السعودي وغيره حالة عداء هيستيرية مع الدين وأهله، بينما الليبرالي الغربي لا يعيش هذه الحالة؟! أظن أنه يمكن تلخيص الجواب في سببين:
الأول: إن الليبرالي الغربي قاده الفكر إلى الشهوة، ففكرة الليبرالية الغربية -كما ذكرنا من قبل- هي ردة الفعل للاستبداد السياسي الفاسد والظلم والقهر والاضطهاد الذي كانت تعيشه أوروبا في عصر الظلام في ظل قهر الكنيسة والنبلاء، أما الفساد الأخلاقي الإباحي فكان موجودا إلى درجة ما في المجتمع ثم ازداد مع الزمن، ولكنه لم يكن دافعا أصيلا لتبلور الفكر، فازدياد انغماس الغرب في الشهوات هو نتيجة لفكرة الحرية التي تبشر بها الليبرالية.
الليبرالي الغربي قاده الكفر إلى الشهوة، أما الليبرالي العربي والسعودي فليس الفكر هو الذي قاده إلى الشهوة، بل العكس، شهوته هي التي قادته إلى الفكر، بمعنى أنه أصلا منحرف، والإسلام يمنعه من إشهار شهوته ومن التصرف على ما يريد، فوجد في فكرة الليبرالية والحرية ما يسند انحرافه فسار على الدرب.
ولذلك تجده حادا جدا في معاداته للدين، ويمكن أن يقال إنه لو قدر أن الليبراليين الغربيين قيدوا -من باب المصلحة- قيدوا الحرية الشخصية فمنعوا الزنى والخمور مثلا، وقضوا على الفساد في أوروبا، مع بقاء النظام السياسي ديمقراطيا، وفيه تداول للسلطة، لسخط الليبراليون العرب على الغرب وتقييدهم للحرية الإباحية، بالرغم من بقائه ديمقراطيا!.
ولو عاد نظام السلطة في الغرب استبداديا كما كان؛ لكنه أبقى الفواحش والخمور، لرضي الليبراليون العرب عن الغرب ولو كان مستبدا، ما دام منحلا!.
ويشهد لذلك موقف الليبراليين العرب من الأنظمة البائدة، واحتفاؤهم بها، مع أنها كانت أنظمة غير ديمقراطية لا تقبل الرأي الآخر، إذاً؛ لماذا؟ لأنها كانت تشرّع الفساد، وفي المقابل شراستهم مع كل نظام صاعد متدين محافظ ولو أعلن الديمقراطية والتسامح.
فالشهوة ضالة الليبراليين، نسأل الله العفو والعافية والسلامة، وأيما أحد حاول ترشيد هذا الدين قاوموه.
ويشهد لذلك أيضا موقفهم من قضايا المرأة؛ فإن في مجتمعنا ممارسات فيها ظلم للمرأة في مجالات شتى، كعضلها عن الزواج، ومنعها من حقها في الإرث في بعض المناطق، وتعليقها، وحرمانها من أولادها، وعدم إعطاء المطلقة حقوقها، وتدني الاهتمام بالأرامل، ونحو ذلك؛ ولكن، كل هذه المشكلات العميقة الأليمة التي تعاني منها المرأة أشد المعاناة لا يلقي الليبرالي السعودي لها بالا، ولا تحظى بأي اهتمام عنده!.
فما الذي يهمه من شأن المرأة إذاً؟ يهمه فتْح الأبواب على ما يجرِّئها على التبرج والاختلاط بالرجال، كتشجيع قيادتها للسيارة، أو تشجيع الرياضة النسائية، والطعن في القوامة، وفي المحرم، والدعوة إلى السفور والتبرج، والسخرية بالمجتمع ووصفه بالذكوري، والاستماتة في إخراج المرأة من خدرها وبيتها؛ فاهتمامه ينصبُّ على كل ما له تعلق بالشهوات.
السبب الثاني لحالة العداء التي يعيشها مع الدين وأهله: أصل النشأة الثقافية، فمن ركبوا الموجة الليبرالية هنا في أغلبهم على نوعين: النوع الأول: فلول الماركسيين والبعثيين والقوميين، وهؤلاء يحملون من الحقد على الإسلام أضعاف ما يحمله غيرهم؛ بسبب أن الضربة القاضية لفردوس الفكر الاشتراكي ودولته الحاضنة كانت على أيدي المجاهدين الأفغان ومَن عاونهم من المسلمين.
إذ تفكك الاتحاد السوفيتي عقب انسحابه من أفغانستان، فتفرقت أيتامه العرب على اتجاهات شتى، فمنهم من آب إلى رشده وتاب من فساد فكره، ومنهم من اعتزل عالم الأفكار وانكفأ وأقبل على دنياه، ومنهم من انتقل من الشرق إلى الغرب، أي: من الاشتراكية إلى الليبرالية، وانتظم جنديا ملتزما في صفوفها، وسادنا في معبدها، وهذا الصنف هم أكثر من يصف الإسلاميين بالأوصاف المنفرة، هذا النوع هم الذين تجدهم يكتبون أو يصفون الدعاة بتلك الأوصاف.
النوع الثاني: هم الناكصون على أعقابهم، نسأل الله الثبات على الهدى والحق، وهم ممن كانوا يوما ما ينتظمون في طريق أهل الدعوة والاستقامة ثم انحرفوا عنها إلى الليبرالية، وهؤلاء عداوتهم للإسلام ودعاته بسبب أنهم يريدون إثبات أن منهجهم الجديد الذي اختاروه خير من القديم، ويظنون أنهم كلما ازدادوا تصغيرا للمنهج القديم وطعنا فيه أقنعوا أنفسهم وأقنعوا من كانوا يعرفون [ماضيهم]، أقنعوهم بأن اختيارهم كان صحيحا، فهم يعيشون عقدة الماضي الذي حرمهم شهوات الدنيا في مقابل الحاضر الذي أغرقهم في المتعة والشهوات.
فالمنهج القديم ظلامي والجديد تنويري، ولعلك تلاحظ كثرة استخدامهم لهذا الوصف: ظلامي وتنويري، في مقالاتهم ولقاءاتهم.
أردت بهذا الكلام أيها -الإخوة- أن نعي السبب وراء كراهية الليبراليين العرب للتدين والدعاة إليه.
أسأل الله أن يثبتنا على الحق، وأن يقينا شبهات المبطلين، وأن يرحمنا برحمته إنه أرحم الراحمين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واهتدى بهداه
أما بعد: فقد بطل العجب، وعرفنا سبب هجوم الليبرالي على المقدس في المجتمع؛ لأن المقدس يمنع الناس من انفلات الشهوة والفوضى والإباحية، فينبغي -في نظرهم- زعزعته بهدوء في غالب الحال، وعلى شكل قنابل موجعة بين الحين والآخر.
وعرفنا كذلك لماذا يشنون حربا على الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، وعلى المتدينين ودعاة الفضيلة بشكل عام.
ولعل الله أن يمهلنا لنكمل الموضوع في مقام آخر.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي