ولم يُـحْدث شيءٌ من المشاهد إلا حين ضعُفت خلافةُ بني العباس وتفرقت الأمة وكثر فيهم الزنادقة الملبسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع في أواخر المائة الثالثة حين ظهر القرامطة العبيديون في المغرب ثم مصر وبنو بويه في المشرق، وفي خلال هذه المدة بنيت المشاهد وأظهرت...
أما بعد: أيها الإخوة اتقوا الله حق التقوى، وأخلصوا له العبادة، ولا تشركوا به أحدا.
... أشرقت أنوار الحق ببعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم لما اكتملت رسالته ساء ذلك أعداء الله على اختلاف نحلهم، فاليهود الذين كانوا يراقبون بعثته -صلى الله عليه وسلم- كفروا به وأنكروا نبوته وحاربوه، والفرس والروم رأوا في دعوته تهديدًا لسلطانهم الظالم؛ فناصبوه العداء.
ومن بعد ذلك جحافل التتر الجرارة التي اكتسحت رقعة واسعة من بلاد الإسلام، ثم الحملات المتكررة للصليبين الحاقدين على بلاد الإسلام والتي مازالت مستمرة إلى يومنا هذا بصُوَرٍ متنوعة.
كل هؤلاء وغيرهم حاربوا دين الله -عز وجل- وما زالوا، وقد لجئوا إلى أساليب خبيثة في ذلك الصراع، منها التظاهر بدخول الإسلام، ثم الكيد له من داخله، وهؤلاء شر الأصناف، نعوذ بالله من حالهم.
ومن هؤلاء من زينَ لجُهالِ هذه الأمة الشرك من جديد في ثوب التعظيم للمقبورين من الصالحين، كما هو واقع مشهور عند كثير من المنتسبين للتصوف، وعُباد القبور في معظم أقطار الإسلام.
أيها الإخوة: لقد بَدَّلَ هؤلاء دينَ الله تعالى، وبعثوا الشرك من جديد ليَنْخرَ في جسد الأمة مُبعدًا لها عن دين الله -عز وجل-، وحَسّنُوه للعوام بوسائل متعددة، كبناء القباب على القبور وتزويقها، وإيقاد السرج عليها، وغير ذلك.
وجعلوا لها سدنة هم في حقيقةِ أمرِهم كهنةً للأوثان، يغرون الناس بدعائها وطلب الحوائج منها.
واخترعوا الحكايات العجيبة التي تبين قُدرتهم المزعومة، وإمكاناتهم الخارقة، فأغروا الناس بذلك، وألفوا لهم الكتب، ودبجوا لهم القصائد، ووضعوا لهم أحاديث مختلفة؛ فعلوا ذلك كلَه لإغرائهم وتزيين الكفر لهم.
أيها الإخوة: لقد استشرى هذا البلاءُ، وعم معظمَ أقطار المسلمين، ولم يسلم منه إلا القليل بفضل الله -تعالى-، ثم بفضل جهود المخلصين من العلماء، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
أحبتي: زيارة القبور مشروعة للرجال فقط، والمقصود بالزيارة الاعتبار والاتعاظ وتذكر الموتِ والآخرة، والإحسان إلى الأموات، بالسلام عليهم، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وسؤال العافية لهم.
أما ما عليه بعض المسلمين اليوم من زيارة المشاهد والمساجد المبنية على القبور للصلاة أو الدعاء أو الطواف على هذه القبور وطلب الحاجات منها، أو التمسح والتبرك بها، وبتربتها، سواء سافر الزائرُ من أجل ذلك، أو ذهب إليها بدون سفر؛ فهذا حرام. فليتنبه لذلك.
وأما ما يفعل خلال الزيارة فإن كان من العبادة التي لا تصرف إلا لله فهو شرك، مثل دعاء أصحاب القبور، وطلب الحوائج منهم، كأن يقول بعضهم: يا سيدي فلان اغفر لي وارحمني وتب علي، أو يقول: اقض عني الدين. اشف مريضي. انصرني على فلان. ارزقني الذرية، وغير ذلك، فهذا -بلا شك- شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام موجب للخلود في النار لمن مات عليه، وإن صلى من يفعلُه وصام وتسمى بأسماء المسلمين.
ومن ذلك توسل بعض الجهال بأصحاب القبور ليدعو الله لهم، وهذا الفعل هو فعل المشركين مع آلهتهم، كما قال الله عن المشركين: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر:3].
ومن العبادات التي يفعلها بعض الناس عند القبور الصلاة عندها، أو إليها، تبركًا بها، وتحريًا للقبول وعِظَمِ الأجر؛ فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله.
ومما يفعل عند هذه القبور الطواف حول قبور الصالحين، وهذا الفعل من أعظم البدع المحرمة، ومن ذلك التقرب إلى أصحاب القبور بالذبح أو النذر لهم، ولقد شدد علماء الأمة على منع عبادة الله عند قبر الرجل الصالح، فكيف إذا عبده؟!.
ومن العادات الشائعة لدى بعض الناس التمسحُ بقبور الصالحين، وما بُنِيَ عليها من الجدران والأبواب والستائر، وتقبيلُها، أو الاستشفاءُ بتربتها، أو نقلُ شيء منها، أو إهداؤه للآخرين.
أيها الإخوة: ليس في كتاب الله -تعالى- ولا في سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على جواز التبرك بالقبور على أي صورة من صور التبرك المبتدع التي ذكرنا، فكيف بما يدل على مشروعية؟ ولن يستطيع أحد أن يأتي بدليل صحيح أو مقبول عن الله أو رسوله أو أحد من أصحابه أو تابعيهم رضوان الله عليهم أجمعين.
بل تواترت النصوص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنهي عن الصلاة عند القبور مطلقًا، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، ونحو ذلك.
بل اشتد نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك كله، وفيه مشابهة لليهود والنصارى، فعن جُنْدَبِ بن عبد الله -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: "أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ" رواه مسلم.
وعن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ -رضي الله عنهن- ذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَقَالَ: "إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". متفق عليه.
وعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا" رواه مسلم.
وعَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ". رواه مسلم. كل هذه الأحاديث في الصحيحين.
أيها الأحبة: أبعد هذا التحذير والبيان يبقى عند مسلم شك في تحريم البناء على القبور واتخاذها مزارات؟.
وعلى هذا التوجيه الكريم سار الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وانتهت القرون المفضلة ولم يحدث بناء على القبور بأي نوع من أنواع البناء، ولم تُبْن عليها القباب، فكل هذا بدعة مكروهة مخالفة لهديه -صلى الله عليه وسلم-.
وكانت قبور الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- لا مشرفة ولا لازقة بالأرض، وهكذا كان قبره الكريم وقبر صاحبيه.
أيها الإخوة: أول ما حدث من بناء على قبر كان في عصر المتوكل سنة مائتين وست وثلاثين، أي بعد وفاة الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي، وقريبًا من ذلك توفي الإمام أحمد.
ولم يبنه أحد من أهل السنة أو السلف الصالح، وإنما بناه الرافضة على قبر الحسين بن علي -رضي الله عنهما-، فلما علم الخليفة العباسي المتوكل بذلك أمر بهدم البناء المنسوب إلى قبر الحسين -رضي الله عنه- وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس أن من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهب به إلى سجن تحت الأرض؛ فلم يعد هناك بشر، واتخذ ذلك الموضع مزرعةً تحرث وتستغل. ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية".
ولم يُـحْدث شيءٌ من المشاهد إلا حين ضعُفت خلافةُ بني العباس وتفرقت الأمة وكثر فيهم الزنادقة الملبسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع في أواخر المائة الثالثة حين ظهر القرامطة العبيديون في المغرب ثم مصر وبنو بويه في المشرق، وفي خلال هذه المدة بنيت المشاهد وأظهرت البدع.
وتبع هؤلاء الزنادقة المتصوفة فجعلوا أهم شعائرهم زيارةَ القبور وبناءَ الأضرحة والطوافَ فيها والتبركَ بأحجارها والاستغاثةَ بالأموات ودعائهم من دون الله -عز وجل-، ولا يوجد شيخ صوفي متبَّع إلا وبنى لنفسه قبةً كبيرة ومقامًا، فأعادوا الشرك في أمة الإسلام جذعًا من جديد.
أسأل الله أن يجدد لهذه الأمة ما اندرس من دينها إنه جواد كريم. أقول قولي هذا...
أيها الإخوة: اعلموا أن معظم المشاهد الموجودة الآن في بلاد المسلمين لا أصل لها! فمثلا: قبر الحسين بن علي -رضي الله تعالى عنه- له مشهد مشهور في كربلاء بالعراق، وهذا باتفاق المؤرخين، وقد اتخذه الرافضة وثنًا؛ بل ربًا مدبرًا وخالقًا ومسيرًا من دون الله.
أما رأس الحسين فقد تعددت المدن التي يقال بوجود الرأس فيها، فقيل بالمدينة، وقيل بالقاهرة، وقيل بدمشق، وقيل بكربلاء، وقيل بحلب، وقيل بعسقلان، وقيل بمرو، وقيل بالرَّقة؛ ولقد تعددت المشاهد المنسوبة إلى الحسين- رضي الله عنه- بتعدد الأماكن؛ فجعل أهل البدع للحسين ثمانية رؤوس! والعجيب أن هذا التعدد لم يكن سبباً في تساؤلهم!.
قال شيخ الإسلام في الفتاوى: الْمَشْهَدُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- الَّذِي بِالْقَاهِرَةِ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ وَصِدْقِهِمْ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ عَالِمٍ مُسَمًّى مَعْرُوفٍ بِعِلْمِ وَصِدْقٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ صَحِيحٌ.
وقال رحمه الله: "إَنَّ هَذَا الْقَبْرَ الَّذِي بِالْقَاهِرَةِ مَشْهَدُ الْحُسَيْنِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ أَنَّهُ بُنِيَ عَامَ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَأَنَّهُ نُقِلَ مِنْ مَشْهَدٍ بِعَسْقَلَانَ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَشْهَدَ بِعَسْقَلَانَ كَانَ قَدْ أُحْدِثَ بَعْدَ التِّسْعِينَ وَالْأَرْبَعمِائَة؛ فَأَصْلُ هَذَا الْمَشْهَدِ الْقَاهِرِي هُوَ ذَلِكَ الْمَشْهَدُ الْعَسْقَلَانِي، وَذَلِكَ الْعَسْقَلَانِيُّ مُحْدَثٌ بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَهَذَا الْقَاهِرِيُّ مُحْدَثٌ بَعْدَ مَقْتَلِهِ بِقَرِيبٍ مِنْ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ اثْنَانِ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ كَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَمُصَنِّفِي أَخْبَارِ الْقَاهِرَةِ وَمُصَنِّفِي التَّوَارِيخِ".
وقال: فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ إضَافَةَ مِثْلِ هَذَا إلَى الْحُسَيْنِ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ أَصْلاً، وَلَيْسَ مَعَ قَائِلِ ذَلِكَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَمَدًا، لَا نَقْلٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ؛ بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ إلَى بَعْضِ الْقُبُورِ الَّتِي بِأَحَدِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَيَدَّعِي أَنَّ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا رَأْسَ الْحُسَيْنِ، أَوْ يَدَّعِي أَنَّ هَذَا قَبْرُ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ نَحْو ذَلِكَ مِمَّا يَدَّعِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَذِبِ وَالضَّلَالِ.
وأفاض -رحمه الله- بالبيان كعادته.
أسال الله بمنه وكرمه أن يهدي ضال المسلمين، وأن يدلهم إلى صراطه المستقيم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي