إذا كان الموظف العامل يحترم لأنه يؤدي العمل عن المسلمين, بل إذا كان عامل النظافة يحترم لأنه يزيل الأذى عن الطرقات, فالناصح المصلح الذي يزيل أذى المعاصي, ويسعى لنظافة الأخلاق والسلوك, والذي يدافع المنكر, ويرد الشر, ويقوم المعوج, وينبه المخطئ، ينبغي أن يحترم ويكرم, فنظافة الدين...
الحمد لله السميع البصير، اللطيف الخبير، أحاط بكل شيء علما، ووسع كل شيء رحمة وحلما، يحصي على العباد أعمالهم، ثم يجزيهم بما كسبت أيديهم، ولا يظلم ربك أحدا.
أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صاحب النهج الرشيد، والقول السديد؛ اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: النصيحة جماع الدين، ودليل الإيمان, ولا يستغني عنها أحد من المسلمين؛ ليست النصيحة ربعَ الدين، ولا نصفه، بل هي الدين كله, وفي الصحيح: "الدين النصيحة".
النصيحة قيمة نبيلة, ووسيلة للإصلاح شريفة, هي سرّ خيريتنا وخيرية أمتنا, فلقد شرفنا لتناصحنا فيما بيننا: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران:110].
ومجتمع لا ناصحين فيه لا بد أن تنحرف مسيرته, ويخبو توهجه, يتعثر فلا يجد المعين, ويخطئ فلا يجد الناصح.
فما هي النصيحة؟ ما هي النصيحة التي بايع عليها النبي-صلى الله عليه وسلم-الصحابة؟ حتى قال جرير: "بايعنا النبي-صلى الله عليه وسلم-على النصح لكل مسلم"، وكيف تكون النصيحة؟ وما هي جريرة من أباها؟.
النصيحة -أيها الكرام- والتي عليها مدار حديث اليوم؛ هي إرادة الخير للمنصوح له, ولربما كانت في أمور الدين أو الدنيا, ولربما كانت للعامة أو للولاة أو للعلماء أو لغيرهم, وفي الصحيح: "لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
ولأجل هذا فقد كانت النصيحة ديدن الفضلاء, وعمل الكُمّلِ النبلاء, فأشرف الخلق وأفاضلُ الناس وهم الأنبياء كانوا ناصحين للناس, مقوِّمين للمعوج، وموجهين للمقصر؛ فلقد بُعثوا للخلق ناصحين, وعن الشر والقبائح محذرين, فقَبِلَ منهم أقوامٌ, وصَمّ فئامٌ عن النصيحة آذانهم فكانوا ممن لا يحبون الناصحين.
وفي القرآن عن نوح -عليه السلام-: (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ) [الأعراف:62]، وعن هود -عليه السلام-: (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) [الأعراف:68]، وهكذا في جملة من الأنبياء -عليهم السلام-.
بل إن من حق المسلم على المسلمين أنه إذا رآهم على أمر فيه تقصير, أو طلبوا منه التوجيه والتذكير، أن يبادر بالنصحية والتغيير, ففي الصحيح في حق المسلم: "إذا استنصحك فانصح له".
ومن تأمل حياة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وجد النصح يفيض في تعامله مع الناس كافة, رأى جابراً فنصحه أن يتزوج بكراً, واستشارته فاطمة بنت قيس في زوجٍ فأشار لها بالأصلح, ونصح الخاطب أن ينظر لمخطوبته.
أما نصحه في أمر الدين فقد قال: "مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلمّا أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الهوامّ الّتي في النّار يقعن فيها، وجعل يحجزهنّ ويغلبنه فيتقحّمن فيها". قال: "فذلكم مثلى ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النّار. هلمّ عن النّار، هلمّ عن النّار، فتغلبوني وتقحمون فيها".
أما سلف الأمة فكم سطرت كتب التاريخ مناصحتهم لعامة المسلمين, ولعلماء المسلمين, ولأئمة المسلمين, وذاك واجبُ الجميع, كلٌ بقدر جهده وطاقته.
معشر الكرام: وللنصيحة طريق، قمن بمن سلك دربها أن يوليه عنايته.
فالأمانة في النصيحة واجبة, أمانةٌ فيما تنقل، وفيما تذكر، وفيما تفعل؛ وفي إرادة الخير للمنصوح مطلب ملح تحلى به الأنبياء, ففي خبر هود -عليه السلام-: (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) [الأعراف:78], ومحمد-صلى الله عليه وسلم-كان هو الناصحَ الأمين.
والصدقُ في نصحك, والحكمةُ في توجيهك, واللين واللطف في نصيحتك, كلها وسائل ينبغي تعاهدها لمن تولى النصيحة, وفي القرآن: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125]، (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159].
وتعمد النصيحة بانفراد, وتجنب النصح أمام الملأ والأفراد، فلربما أورث التشهير تعنتاً وتمنعاً, والشافعي قد قال:
تعمَّدْني بنُصْحِكَ في انفرادٍ *** وجنِّبْنِي النصيحةَ في الجماعَهْ
وكم ترى من امرئ يُعلن النصيحة وهو يُشهِر بالفضيحة! فيذكرك بما يسوؤك, ويزجرك أمام الملأ, وما ذاك فعل الناصح الموفق؛ ولقد قال مسعر بن كدام: "رحم اللّه من أهدى إليّ عيوبي في سرّ بيني وبينه، فإنّ النّصيحة في الملأ تقريع".
وفي هدي المصطفى-صلى الله عليه وسلم-: "ما بال أقوامٍ!"، فلم يكن ليسمي, بل يعرّضُ ويكني.
معشر الكرام: والناصح لا يعنيه أن يرى ثمرة نصحه, بل لربما سُدّت الطرق في وجهه, وصُمّتِ الآذان عن سماع نُصحه, لكنه يسعى لذلك, ويفرح للقبول, ويكفيه أنه يرى الأثر يوم أن يلقى الله.
إنه رحيم بالخلق, ينظر للعصاة نظر رحمة، فقد أغواهم الشيطان, ويسعى جهده أن ينقذهم من النيران, وفي خبر مؤمن سورة يس -إذ نصح لقومه وأبلغ, فكان جزاؤه أن قُتل- حين رأى أثر النصح والإيمان قال -كما في القرآن-: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس:26-27].
عباد الله: وأول ما ينبغي أن تعتني به في النصح نصحَك لنفسك, فاردعها عن القبائح, وكن لها زاجراً, قال الآجري: "لا يكون ناصحا للّه -تعالى- ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم إلّا من بدأ بالنّصيحة لنفسه".
فابدأْ بنَفْسِكَ فانْهَهَا عن غَيِّهَا *** فإذا انْتَهَتْ عنهُ فأنتَ حكيمُ
فهناك يُقْبَلُ ما تقولُ ويُقْتَدَى *** بالقولِ منك وينفع التعليمُ
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأتي مِثْلَهُ *** عارٌ عليكَ إذا فعلْتَ عَظيمُ
ثم انصح لعامة المسلمين, فإن رأيت قصوراً في دين وطاعة, أو ولوغاً في ذنب ومعصية, فوجّه له وانصح ولو ضجر وتمنّع, وامحض له النصيحة وإن عدّها فضيحة.
ومن تمام النصيحة أن تحب لهم ما تحب لنفسك, فإن قدرت فذاك غاية الكمال, وعنوان صفاء الحب للإخوان, وإلا فلا أقل من النصيحة عند حصول الخلل.
إرشاد الناس للخير, وتعليم الجاهل، وتذكير الغافل, نوع من النصيحة.
وحين ترى مسلماً مجانباً للصواب, في تجارةٍ أو معيشة أو تربية أو غيره، فالموفق من يبادر بالنصح للمسلمين, ولا يتحرى غرة ليغش.
ولقد اشترى جرير فرساً بأربعمائة درهم, ثم لما تجاوز رجع للبائع وقال: فرسك يساوي ثمانمائة درهم, إنا بايعنا النبي-صلى الله عليه وسلم-على النصح لكل مسلم. فأين هذا ممن يفرح بمسلم ليغشه ببيع أو معاملة أو غيره؟.
والنصح لطالب الاستشارة, والصدق في الرأي والقول والعبارة, نوع من النصيحة, وليس بناصحٍ من يراك تقع في الهلكات, هلكاتِ الدين أو الدنيا ثم هو يراك فلا ينصح.
وجماع ذلك أن تدل الناس على الخير أينما كان, وتردهم عن الشر أينما كان.
اللهم صل وسلم على سيد ولد عدنان, وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان.
إذا كان الموظف العامل يحترم لأنه يؤدي العمل عن المسلمين, بل إذا كان عامل النظافة يحترم لأنه يزيل الأذى عن الطرقات, فالناصح المصلح الذي يزيل أذى المعاصي, ويسعى لنظافة الأخلاق والسلوك, والذي يدافع المنكر, ويرد الشر, ويقوم المعوج, وينبه المخطئ، ينبغي أن يحترم ويكرم, فنظافة الدين أوجب وأهم وأولى ولا شك.
فبالنصيحة كم من سفيه ارتدع وتجنب الخطأ والفساد, وكم من عرضٍ حُمي بغيرة الناصحين, وكم من شرٍّ دُفع عن الأمة بسبب نصح الناصحين, فهم صمام أمان، وما يقوم به الناصح من أعظم أسباب النجاة والحفظ, وفي القرآن: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117].
معشر الكرام: ومن تأمل التاريخ وجد أن ردّ نصيحة الناصح سببٌ للنقص والخسارة, وربما السقوطِ والفشل, وإن أخطر شيء على الإنسان, وأحب شيء للشيطان, أن يتعالى المرء على النصح وصوتِ الإيمان, فتجده يغلق أذنيه عن سماع النصح, ولا يغشى الأماكن التي يسمع فيها النصيحة, ولا يَلِجُ مجالس يسمع فيها التذكير, إن سمع بموعظة قام, أو تذكيرٍ أصم أذنيه وتولى, أو جاءه الناصح لبيته أو مقر عمله أغلق بابه ورد الناصح بقوته وسلطانه.
ولعمري! فما ردَّ الناصحَ إلا مخذولٌ, فمن لم يقبل رأي الناصح وإن أحزنه، عاد ضرره عليه، كالمريض الذي يترك ما يصف له الطبيب ويعمد لما يشتهيه فيهلك, وقال أبو ساسان: أمرتُكَ أَمْرَاً جازِمَاً فَعَصَيْتَنِي *** فأصبحتَ مسلوبَ العبارةِ نادما
إن صاحب النصح قد حملته غيرته، ودفعه حرصه، وحثته تقواه على أن يوجه المخطئ، ويذكر الغافل، ويحذر المجترئ على المعصية والجرم والخطأ.
وإن سدّ باب الاحتساب وقطعَ الطريق أمام النصيحة؛ له آثاره الوخيمة، وعواقبه الخطيرة، على البلاد والعباد، فهو سبب للعقوبة, وفي الحديث: "إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك الله أن يعمهم بعقابه" رواه الترمذي.
وقالت زينب بنت جحش: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم؛ إذا كثر الخبث" رواه أهل السنن.
نعم؛ قد يحل الهلاك مع وجود المصلح, لكون الفساد قد كثر, فما بالك إن حُمي المنكر ودوفع عنه وحُرس أهله وزيد عنهم؟ وفي قصة ثمود عبرة, فلقد كان المفسدون تسعة، (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [النمل:48]، وكانت النهاية: (أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [النمل:51].
لقد عرفتُ بعض الناصحين ربما هجر النومُ عينيه, وأقض الهمُّ مضجعه لأجل منكرٍ سمع به, وربما قام ليلهُ يدعو لمن رآه مقصراً, أو يدعو للبلاد أن يحميها شر الفتن, رأينا وعرفنا أقواماً همُّ النصيحة لا يفارقهم, شابت على ذلك لحاهم, ودفعوا أموالهم، وبذلوا أوقاتهم, كي يَصلُح الناس, ولسانُ حالهم ما قاله عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه: "لوددت أنك قد فعلت كذا ولو غلت بي وبك القدور في الله".
والله إنه لا خير فينا إن لم نجلّ الناصحين منا, وإن لم نقدُرهم قدرهم, ولم نسمع منهم؛ وإنه حين نستمع صوت الغششة, ونُبعد النصحة, فإننا على شفا هلكة, وهل زلّ من زل, وانحرف من انحرف, بل وهل سقط من البلدان ما سقط, إلا حينما خُوِّن الأمين, وأوصد الباب أمام الناصحين؟.
وفي خبر صالح -عليه السلام- وهو يرى العذاب يتنزل, يقول متحسرا على قومه إذ دعاهم فأبوا, (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف:79].
إنها رسالة لنا جميعاً, أن نفرح بالناصح, أن نفتح آذاننا لناصح لنا في ديننا أو دنيانا.
رسالة لمديرٍ ومسؤول يأتيه الناصحون يخوفونه ويوجهونه: افتح الأبواب والآذان للناصح, فما أفلح من أوصد الباب عنهم!.
ورسالة لنا جميعاً: علينا أن نتواصى بالبر والتقوى, ونتواصى بالحق والصبر, فمن أراد النصيحة فليوطن نفسه لاحتمال الأذى.
وليعلم أنه لا أحد فوق النصيحة, لا جارٌ ولا مدير ولا مسؤول ولا أمير, فالمؤمنون نَصَحَة, والمنافقون غشَشَة, لا خير فينا إن لم ننصح, ولا خير في المنصوح إن لم يقبل.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي