إن الإسلام لا يكتفي بأداء الأعمال، كل الأعمال، على أية صورة، وإنما يتطلب الإحسان في الأداء؛ وإنه لا يقنع من الناس بأن... أحبتي: إن هذا التوجيه النبوي ارتقاء بالمشاعر البشرية لتبلغ القمة التي ليس وراءها شيء، إنها الرحمة التي لا تقف عند الأناسي من الخلق، ولا يحكمها انحياز الإنسان لنفسه واعتداده بجنسه؛ وإنما تتعداها إلى...
أيها الإخوة: السُّنَّة النبوية المصدر الثاني من مصادر التشريع والتربية الربانية للأمة؛ لذا كان الحديث عن كنوزها لا ينتهي، ولعلنا هذا اليوم نقف مع أحد هذه الأحاديث.
عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رَضْيَ الَلَّه عَنْهُ- قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" رواه مسلم.
أيها الإخوة: كلما سمعت أو قرأت هذا الحديث انتابني شعور كبير بعظم هذا الدين وعظمة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، نعم! فيا الله! ما أعظم هذا الدين! وما أعظم رحمة نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-!.
تعالوا بنا نستلهم من هذا القول النبوي العبرة، ونأخذ منه القدوة، فقد قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"، متى يريحها؟ عجباً! كيف يريحها وهو مُقْدم على ذبحها؟! يريحها في هذا الوقت؟ نعم! إنها رحمة الأنبياء، ووحي الله لهم.
أحبتي: إن هذا التوجيه النبوي ارتقاء بالمشاعر البشرية لتبلغ القمة التي ليس وراءها شيء، إنها الرحمة التي لا تقف عند الأناسي من الخلق، ولا يحكمها انحياز الإنسان لنفسه واعتداده بجنسه؛ وإنما تتعداها إلى المجال الواسع الفسيح الذي يشمل كل الأحياء في الكون.
فالرحمة بالأحياء درجة مفهومة على أي حال، سواء وفق إليها القلب البشري أم انحرف عنها وشذ.
مفهوم أن تقول: لا تقتل هذا العصفور؛ فإنه ضعيف مسكين، وهو جميل لطيف لا يستحق القتل. ولا تقتل هذه الفراشة الطائرة القافزة الرشيقة؛ فماذا تستفيد من قتلها؟.
كل ذلك مفهوم، والقلب البشري الطيب يمكن أن يُوَجَّهَ إليه في يسر، فيعتاده، فيصبح من طباعه.
ولكن؛ هناك درجة وراء هذا المفهوم أعلى وأشف، وهي أن أقول لك: هذه الذبيحة التي ستذبحها، والتي لن تكون حية بعد لحظات، أحْسِنْ ذِبْحَتَها، ولا تطلْ آلامها، ولا "تمتها موتات!".
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: مَرَّ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على رَجُلٍ وَاْضِعٍ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ وَهُوَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ، وَهِىَ تَلْحَظُ إِلَيْهِ بِبَصَرِهَا، فَقَالَ: "أَفَلاَ قَبْلَ هَذَا؟ أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَات؟ هَلَّا أَحْدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا" ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري، ونحوه عند الطبراني، وصححه الألباني.
أيها الأحبة: لنتأمل قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث: "وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"، إنها كلمة تهز الوجدان هزاً كلما تذكرها وتمثلها! "وَلْيُرِحْ"، فقد حرص نبي الرحمة على إراحة الذبيحة وهي تذبح! وهي تساق إلى العدم وتصير إلى الفناء، إلى حيث لا توجد ولا تشعر! عجباً من هذه الرحمة!.
وهنا يبرز لنا سؤال: ما القيمة العملية لإراحة الذبيحة هذه الثواني المعدودة التي تنتقل فيها من عالم الوجود إلى عالم الفناء؟ بل؛ ما قيمة إراحتها وأنت مقبل على إيلامها أشدَّ ألم يمكن أن تتعرض له وهو الذبح؟.
في الظاهر: لا شيء! وفي الباطن: كل شيء! إن الذبيحة ميتة ميتة، أرحتها أم لم ترحها! وهي متألمة متألمة، سواء قطر قلبك رحمة بها أم كنت تذبحها مُجَرَّدَ القلب من المشاعر، متلبد الوجدان.
وهي لن تلقاك بعد اليوم فتشكو إليك عُنفك معها إن كنت ممن يفهمون عن هذه الخلائق، ويتجاوبون مع ما يصدر عنها من الأحاسيس! ولن يضيرها كثيراً وهي مسوقة إلى الفناء الكامل الوشيك في هذه الحياة أنها ذاقت قبل ذلك بلحظة شيئاً من الغلظة أو شيئاً من الجفاء!.
إذاً؛ فالقيمة العملية بالنسبة للذبيحة: لا شيء! ولكن القيمة العملية لك أنت: كل شيء!
وهل ثمة شيء أكبر من أن يكون لك قلب إنسان؟! قلب إنسان امتلأ بالرحمة حتى للحيوان؟!.
وحري بك أن تدرك رحمة الله التي وَعَدَ بها رسولُ الرحمةِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ، وَأَنَا أَرْحَمُهَا، أَوْ قَالَ: إِنِّي لَأَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا. فَقَالَ: "وَالشَّاة إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ، وَالشَّاة إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ" رواه البخاري بالأدب المفرد، وأحمد في مسنده، وصححه الألباني.
أيها الإخوة: لم تكن هذه الرحمة ولم يكن ذلك الإحسان مطلوبين في ذبح البهيمة فقط، بل هما مطلوبان كذلك في أمر القتل! أيّ قَتْلٍ! ولذلك قال الهادي البشير -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" رواه مسلم وغيره.
والمسلم المخاطب بهذا القول من الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يقتل إلا بالحق، يقول البارئ: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) [الأنعام:151]، (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63]، إلى أن قال: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) [الفرقان:68]، (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة:32].
ويقول المصطفي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ" رواه مسلم.
إذن؛ لا شبهة في أن الشخص الذي يقتله المسلم مستحق للقتل، منطبق عليه أحد موجباته، التي ذكر رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ" متفق عليه. أو غيرها من موجبات القتل التي دلت عليها الشريعة.
ولا شبهة في أن هذا القتل يتم بإذن من الله -سبحانه- لولي أمر المسلمين، وذلك في قائمة من الضوابط والتحفظات توجب العناية بحفظ الدماء، وتحسن عند الإذن بها في التنفيذ، كما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ".
مع أن القتيل لن يستفيد شيئاً من أن تحسن القتلة، فهو مفارق للدنيا، والألم واقع به ما له عنه من محيص، فيستوي أن تحسن أو لا تحسن، أو أن الفارق في الحقيقة ضئيل.
إذاً؛ لا قيمة عملية من إحسان القتل بالنسبة للقتيل! ولكن القيمة الكبرى نقولها مرة أخرى: هي لمنفّذ القتل بأن يكون له قلب إنسان!.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يهب لنا من لدنه رحمته، وأن يتم علينا نعمه ظاهرة وباطنه إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أيها الإخوة: هل يقف التوجيه النبوي الكريم في هذا الحديث عند هذين الأمرين: إحسان الذَّبْحَة، وإحسان الْقِتْلَةَ؟ نقول: لا؛ إنما ذكرهما رسول الله على سبيل المثال.
والمقصود من هذا الحديث هو ترسيخ مبدأ الإحسان، تأملوا قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ"، والإحسان هنا: هو الأداء الحسن. الأداء الكامل. الأداء المتقن. الأداء الجميل، وما الرحمة المصاحبة للذبح والقتل في المثالين إلا صورة من صور الإحسان.
أيها الأحبة: إن الخلاصة المستفادة من هذين المثالين هي أن الإنسان لا ينبغي أن يندفع مع دوافعه الطبيعية ويترك لها العنان، إنما ينبغي له وهو يأخذ في التنفيذ أن يهذبَ الوسائل وينظف الأداء، ليكون جديراً بتكريم الله له والخلافة في هذه الأرض.
ومن ثم فالحديث واسع شامل يشمل كل عمل، وكل فكرة، وكل شعور.
إن الأمر بالإحسان ثابت بنص اللفظ النبوي، وهو يشمل كُلَّ شَيْءٍ، بكل ما يحمله هذا اللفظ من الاتساع.
وهذا النص لا يعبر عن مجالين من مجالات العمل والحياة الإسلامية الأصيلة، أو فكرتين تلتقيان عند هدف واحد.
إن الإسلام لا يكتفي بأداء الأعمال، كل الأعمال، على أية صورة، وإنما يتطلب الإحسان في الأداء؛ وإنه لا يقنع من الناس بأن يؤدوا ضروراتهم بلا إتقان بحجة أنها ضرورة، وإنما يتطلب الإحسان في التنفيذ.
ويوضح هذا المعنى أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ" حديث صحيح.
إذاً؛ المطلوب هو الإتقان الذي تصحبه المشاعر الإنسانية الرقيقة، ويصحبه الإحساس بالله في قرارة الضمير، والعمل من أجل خشيته ومن أجل مثوبته ورضاه، بأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ.
اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة يا رب العالمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي