إن شرف المؤمن هو قيام الليل، وإن قيام الليل هو المدرسة المهيَّأة للأمور العظيمة، ولما اصطفى... يا أمة محمد: إن قيام الليل ومناجاة الرب خصلة عظيمة ومنزلة رفيعة لا ينالها إلا الأتقياء الخلّص، فمن تلطخ قلبه بالسيئات، وامتلأت صحيفته بالخطيئات، ليس أهلاً لمناجاة الرب العظيم، قال...
الحمد لله...
أما بعد:
عباد الله: إن من نعم الله علينا أن وهب لنا أوقاتًا نخلو فيها لعبادته، وجعلها خلفة بعضها لبعض: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً).
إن الصلاة -عباد الله- صلة بين العبد وربه، وهي خير موضوع، أخرج الإمام أحمد عن أبي ذر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن الصلاة قال: "خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر".
إن المؤمن إذا قوي إيمانه زادت صلته بربه وعظم يقينه به، وحسنت صلاته، وطال قنوته، إن سجود المحراب واستغفار الأسحار ودموع المناجاة صفات يحتكرها المؤمن.
ولئن توهم أهل الدنيا أن سعادتهم في الدنيا الدرهم والنساء والقصر المنيف، فإن جنة المؤمن في محرابه وذله بين يدي ربه -جل وعلا-.
أيها المؤمنون: مرّت بنا أيام ذاق فيها المصلون لذة المناجاة لربهم في جوف الليل، كابدوا فيها الأسحار للقاء العزيز الغفار، وإن مما يؤسف حقًّا هجر هذه العبادة بعد رمضان المبارك.
معاشر المؤمنين: إن شرف المؤمن هو قيام الليل، وإن قيام الليل هو المدرسة المهيَّأة للأمور العظيمة، ولما اصطفى المولى -جل وعلا- صفيّه وخليله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لحمل هذه الرسالة العظيمة، أمره بقيام الليل: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)، فكان قيام الليل وترتيل القرآن هو الإعداد لحمل هذه الرسالة العظيمة الشاقة.
ولو لم يكن في قيام الليل إلا أن الدعاء فيه يُسمع لكفى، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة إلى السماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟! من يسألني فأعطيه؟! من يستغفرني فأغفر له؟!"، أترضى -يا أخي المسلم- أن ينادي -جل ذكره- بهذا وأنت في سبات الغفلة والإعراض، في نوم طويل عريض.
اعلموا -رحمكم الله- أن قيام الليل من أسباب دخول الجنة، أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"، كما أنه دأب الصالحين قبلنا، فقد أخرج الإمام أحمد وغيره من حديث بلال -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد".
فيا من يشكو من قسوة قلبه، وضعف بصيرته: إن أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فانطرح بين يديه، واطلب حاجتك إلى الكريم الرحمن، أخرج الترمذي والنسائي من حديث عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن".
ألا تعلم -أيها النائم- وقت القيام أن رب الأرباب يباهي بالقوام الملائكة ويعجب من صنيعهم، أخرج الإمام أحمد وغيره من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عجب ربنا من رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحبه إلى صلاته، فيقول الله -جل وعلا-: "أيا ملائكتـي: انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي".
وفي الحديث الآخر: "انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه ويسألني!! ما سألني عبدي فهو له".
ألا تعلم -أيها الغافل المسكين- أن الله -جل وعلا- أعد لأهل القيام ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله -عز وجل-: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". ثم قرأ هذه الآية: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "تأمل كيف قابل ما أخفوه من قيام الليل بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس، وكيف قابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقومون إلى صلاة الليل بقرة الأعين في الجنة".اهـ.
وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام".
عباد الله: إن شرف المؤمن بالدنيا قيام الليل، فما بالنا قد نسينا شرفنا، فما عدنا نعرف من الليل إلا النوم، والله المستعان!! اللهم أيقظ الرقدات، وأعنا على قيام الليل واغتنام الأوقات، وارزقنا الأعمال الصالحة قبل الممات.
عباد الله: إن النفس لتشتاق إلى قيام الليل ومناجاة العليم الخبير، ولربما حاول الكثيرون أن يكونوا من أهل القيام ولكن باؤوا بالفشل، فيا ليت شعري ما السبب لذلك؟!
إن الذنوب والمعاصي سموم فتاكة، تدخل على القلب فتفسده وتضعفه وتقطع سيره إلى ربه ومولاه أو تكاد.
يا أمة محمد: إن قيام الليل ومناجاة الرب خصلة عظيمة ومنزلة رفيعة لا ينالها إلا الأتقياء الخلّص، فمن تلطخ قلبه بالسيئات، وامتلأت صحيفته بالخطيئات، ليس أهلاً لمناجاة الرب العظيم، قال رجل لإبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: "إني لا أقدر على قيام الليل، فصف لي دواءً"، فقال: "لا تعصه بالنهار، وهو يقيمك بين يديه في الليل"، فإن الوقوف بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف.
قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "حُرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته"، وقال رجل للحسن البصري -رحمه الله-: "يا أبا سعيد: إني أبيت معافى وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟!"، فقال الحسن: "ذنوبك قيدتك"، وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطاياك"، ودخل رجل على العبد الصالح كرز بن وبرة -رحمه الله- وهو يبكي فقال: ما لك؟! فقال: "بابي مغلق، وستري مسبل، ولم أقرأ حزبي البارحة، وما ذلك إلا لذنب أحدثته"، وهذا لأن الخير يدعو إلى الخير، والشر يدعو إلى الشر، والقليل من كل منهما يجر إلى الكثير.
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل وصيام النهار".
أيها المسلمون: كم من معصية منعت قيام ليلة؟! وكم من نظرة منعت من قراءة سورة؟! وكم من كلمة منعت لذة مناجاة؟! وإن العبد ليأكل الأكلة أو يفعل الفعلة المحرمة فيحرم بها قيام السنة كلها، فرحم الله السلف الأبرار، لما قلّت ذنوبهم علموا من أين أتوا، ونحن لما كثرت ذنوبنا دخل الشيطان علينا من كل باب فلم ندرِ أي باب نغلق وأي ثغرة نسد!!
عباد الله: إن القلب ليحيا بذكر السلف الصالح، وإن الإيمان ليزيد بسماع أخبارهم، قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله، فأفتح القرآن فأصبح وما قضيت نهمي، وجاء عن سيّد التابعين سعيد بن المسيب -رحمه الله- أنه صلى الفجر خمسين سنة بوضوء العشاء"، قال المعتمر بن سليمان: "مكث أبو سليمان التيمي -رحمه الله- أربعين سنة يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان يصلي صلاة الفجر بوضوء العشاء الآخرة".
وقالت معاذة العدوية -رحمها الله- واصفةً حال زوجها صلة بن أشيم -رحمه الله- مع قيام الليل: "ما كان صلة يجيء من مسجد بيته إلى فراشه إلا حبوًا، يقوم حتى يفتر".
وقال أبو إسحاق السبيعي -رحمه الله-: "ذهبت الصلاة مني، وضعفت ورق عظمي، إني اليوم أقوم في الصلاة فما أقرأ إلا البقرة وآل عمران، وكان -رحمه الله- قد ضعف عن القيام، فما كان يقدر على القيام حتى يقام، فإذا أقاموه فاستتم قائمًا قرأ ألف آية وهو قائم".
وكان زين العابدين علي بن الحسين -رحمهما الله- يكثر الصلاة بالليل، حتى إنه كانت لركبتيه ثفنات كثفنات البعير من كثرة صلاته، وكان يقطعها في العام مرتين، وكان أبو سليمان الداراني -رحمه الله- يقوم الليل حتى إذا آلمته قدماه ضربها بعصا عنده، ثم قال: أيظن أصحاب محمد أنهم يفوزون بمحمد من دوننا، والله لنعملن حتى يعلموا أنهم قد خلفوا رجالاً.
وكان كثير من السلف مصلاه في بيته كبرك البعير من كثرة الصلاة، وهذه ابنة جار منصور بن المعتمر -رحمه الله- تقول لأبيها: يا أبتِ: أين الخشبة التـي كانت في سطح منصور قائمة؟! قال: "يا بنية: ذاك منصور كان يقوم الليل".
وهذا إمام أهل السنة أحمد بن حنبل -رحمه الله- قال إبراهيم بن شماس العابد: "كنت أرى أحمد بن حنبل -رحمه الله- يحيي الليل وهو غلام".
وقال ابنه عبد الله: "كان أبي ساعة يصلي عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو".
وقال ابن عبد الهادي تلميذ ابن تيمية -رحمه الله- واصفًا شيخه: وكان في ليلة منفردًا عن الناس كلهم خاليًا بربه، ضارعًا مواظبًا على تلاوة القرآن العظيم مكررًا لأنواع التعبدات الليلية والنهارية، وكان إذا دخل في الصلاة ترتعد فرائصه وأعضاؤه حتى يميل يمنة ويسرة.
نسأل الله أن يرحمنا برحمته.
لا تعرض ذكرنا في ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ
أيها المسلمون: نحن في زمن غربة؛ قال ابن القيم -رحمه الله-: "اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السبيل بتوبة نصوح، ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق، وبالجناح وقد علِّق، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي