عباد الله: إن الغفلة هي سهو يحدث للإنسان نتيجة عدم التحفظ والتيقُّظ والانتباه، فإذا سها وغفل عن الله وابتعد عنه أصيب بتبلد المشاعر، وموت القلب، وضعف الإحساس، فيسهل عليه الوقوع في المعاصي والسيئات، وتفتر جوارحه عن الطاعات، وتبتعد عن الخيرات، فتأتي...
الحمد لله الذي أعزّ مَن أطاعه، وأذل مَن عصاه، ومَن أعرض عنه أخزاه وأرداه، وكتب عليه الغفلة إلى يوم يلقاه، وبثوب الهوان كساه.
أحمده -سبحانه وتعالى- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله التوفيق للسعي والعمل، والابتعاد عن الغفلة والكسل.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، قام بأمر ربه خير قيام، وحذر من الغفلة وأيقظ الغافلين النيام، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه، الذين أزالوا ظلمات الكفر بنور الإسلام، وسلم تسليمًا كثيرًا مباركاً مزيداً.
عباد الله: أريد اليوم أن أحدث نفسي وإياكم عن موضوع هام جداً، حذرنا الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم من الوقوع فيه؛ لأنه مرض خطير يفسد القلوب، ويهلك النفوس، ويصرف العبد عن كل خير، إنه "مرض الغفلة"، هذا الداء الدوي، والمرض المستشري، الذي أصابنا جميعاً إلا من رحم الله.
يقول الله -سبحانه وتعالى- محذراً لنا من الوقوع في هذا المرض، أو الإصابة بأعراضه: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف:205].
ينهانا الله -سبحانه وتعالى- أن نكون من أهل الغفلة، الذين غفلوا عن عبادة الله، وغفلوا عن ذكره، والغافلين عن الصلاة، والغافلين عن أداء الواجبات، الواقعين بكل سهولة في المعاصي والفواحش والمنكرات.
إن الغفلة حجاب يحجب العبد عن ربه، ويحول بينه وبين خالقه، ويجعل في صدره ضيقا ووحشة لا يزيلها إلا ذكر الله والأنس به، وترك الغفلة عنه.
فالإنسان إذا وقع في الغفلة تمكّن الشيطان منه، وجثم على قلبه، وحلّ في صدره، ومن ثم لعب به واستهواه، وتصرف فيه كما يريد.
يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف:36]. أي: من يعرض عن ذكر الله ويغفل عنه فلا يخاف سطوته، ولا يخشى عقابه، يسلط الله عليه شياطين الإنس والجن، وأراذل الخلق، وظلَمتهم، فيكونون له قرناء سوء يؤذونه ويتسلطون عليه.
عباد الله: إن الغفلة هي سهو يحدث للإنسان نتيجة عدم التحفظ والتيقُّظ والانتباه، فإذا سها وغفل عن الله وابتعد عنه أصيب بتبلد المشاعر، وموت القلب، وضعف الإحساس، فيسهل عليه الوقوع في المعاصي والسيئات، وتفتر جوارحه عن الطاعات، وتبتعد عن الخيرات، فتأتي عليه مواسم الخيرات وفرص الطاعات وهو بارد القلب، غير مبال بها، ولا يجهد نفسه في اغتنامها، مع أنه يعلم فضلها، ويعرف قدرها، ويسمع الآيات والأحاديث التي حثت عليها، ورغبت فيها.
من منا لا يعرف فضل صلاة الجماعة، وفضل قراءة القرآن، وفضل السنن الرواتب قبل الصلاة وبعدها، وغيرها من الفضائل والعبادات الجليلة؟ ومع ذلك؛ فكم منا من لا يصلي أو يصلي في بيته؟ وكم منا من يمر عليه الأسبوع أو أكثر لم يفتح فيه المصحف، ولم يقرأ فيه شيئاً من القرآن؟ وكم منا من لا يحافظ على صلاة الوتر، ولا يحافظ على غيرها من السنن المؤكدة التي حثنا عليها نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ورتّب على عملها والقيام بها فضائل عظيمة، وأجورا كبيرة؟.
لقد انغمسنا في الدنيا وملذاتها، وغفلنا عن الآخرة وأهوالها، وصرنا نعطي أنفسنا هواها، فقست قلوبنا، وغفلت نفوسنا، وقحطت عيوننا، فلا نتأثر بالمواعظ، ولا تؤثر فينا الآيات والعظات، نسمع القرآن فلا يحرك في قلوبنا ساكناً، ونرى الجنائز ونمشي خلفها ونرى الموت كل يوم ومع ذلك فكأن شيئاً لم يكن، ونسمع ونشاهد الزلازل والأعاصير، والآيات والنذر، ثم إذا بنا وكأننا لم نشاهد شيئاً! إنها الغفلة!.
أيها المسلمون: إن أعظم الغفلة أن يغفل الإنسان عن هدفه وغايته التي خلق من أجلها، والمهمة التي جيء به إلى هذه الحياة ليقوم بها، ألا وهي عبادة الله وتوحيده، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].
لو سأل كل واحد منا نفسه: هل هو قائم حق القيام بهذا الهدف أم أنه في غفلة عنه؟ هل عبدنا الله كما أمرنا وانتهينا كما نهانا أم سيطرت الغفلة علينا وحلت فينا؟ هل استشعرنا فعلاً أننا جئنا إلى الدنيا من أجل عبادة الله، وأننا سنرحل منها عما قريب وسنرجع إلى الله إذا حان موعد أجلنا، أم أننا نعيش في غفلة عن الله ولقائه والدار الآخرة؟ فأين نحن من هذا كله؟ ماذا دهانا؟ ما الذي أصابنا؟ إنها الغفلة.
يقول الله -سبحانه وتعالى-: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء:1-3].
نعم والله! إنها الحقيقة، التهت قلوبنا عن الساعة التي اقتربت، وغفلت نفوسنا عن القرآن ولعبت، يقول السعدي -رحمه الله- في تفسير قول الله -تعالى-: (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)، أي:" قلوبهم غافلة معرضة لاهية بمطالبها الدنيوية، وأبدانهم لاعبة، قد اشتغلوا بتناول الشهوات والعمل بالباطل، والأقوال الردية، مع أن الذي ينبغي لهم أن يكونوا بغير هذه الصفة، تقبل قلوبهم على أمر الله ونهيه، وتستمعه استماعا، تفقه المراد منه، وتسعى جوارحهم، في عبادة ربهم التي خلقوا لأجلها، ويجعلون القيامة والحساب والجزاء منهم على بال، فبذلك يتم لهم أمرهم، وتستقيم أحوالهم، وتزكو أعمالهم".
ورحم الله أبا الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- يوم قال: "أضحكني ثَلَاثٌ، وَأَبْكَانِي ثَلَاثٌ: أَضْحَكَنِي: مُؤَمِّلُ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَغَافِلٌ لَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ، وَضَاحِكٌ وَلَيْسَ يَدْرِي أَرَاضٍ اللهُ عَنْهُ أَمْ سَاخِطٌ عَلَيْهِ؛ وَأَبْكَانِي: فِرَاقُ الْأَحِبَّةِ مُحَمَّدٍ وَحِزْبِهِ، وَهَوْلُ الْمَطْلَعِ، وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ تَبْدُو السَّرَائِرُ، ثُمَّ لَا أَدْرِي إِلَى جَنَّةٍ أَمْ إِلَى نَارٍ".
يَا غَافِلاً عَنْ مَنَايَا سَاقَهَا الْقَدَرُ *** مَاذَا الَّذِي بَعْدَ شَيْبِ الرَّأْسُ تَنْتَظِرُ
عَايِنْ بِقَلْبِكَ إِنَّ الْعَيْنَ غَافِلَةٌ *** عَنِ الْحَقِيقَةِ وَاعْلَمْ أَنَّهَا سَقَرُ
سَوْدَاءُ تَزْفُرُ مِنْ غَيْظٍ إِذا سُعِرَتْ *** لِلظَّالِمِينَ فَمَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ
لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ غَيْرَ الْمَوْتِ مَوْعِظةٌ *** لَكَانَ فِيهِ عَنِ اللَّذَّاتِ مُزْدَجَرُ
عباد الله: بسبب غفلتنا كثرت ذنوبنا، واستصغرنا سيئاتنا، وقست قلوبنا، وابتعدت عن عمل الخير جوارحنا، وثقلت عن ذكر الله ألسنتنا، وصرنا نكثر من ذكر غير الله، نكثر من ذكر الأموال، والأولاد، والمتاع الدنيوي، ونستبشر إذا ذكر غير الله، ونضيق ونتباعد إذا ذكر الله وحده!.
انظر حين يعلن عن درس أو محاضرة أو دورة شرعية إلى الحضور! عدهم عداً! وانظر عددهم، وقارن بين هذا العدد وعدد الحاضرين في الاحتفالات الغنائية والمهرجانات الرياضية وحفلات الخنا والرقص.
انظر وقارن نسبة الحضور بين مجالس الخير، ومجالس الغفلة واللهو والرفث! (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].
وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول، كما في حديث عبد الله بن عبّاس -رضي الله عنهما-، عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن سكن البادية جفا، ومن اتّبع الصّيد غفل، ومن أتى السّلطان افتتن" رواه الترمذي.
فساكن البادية يبتعد غالباً عن العلم ومجالس والعلماء فتصيبه الغفلة، وكذلك من أسرف في الرحلات، والولهات، وتتبع الصيد، فإن أكثر أوقاته تضيع في مثل هذه التفاهات، فتصيبه الغفلة.
وهكذا؛ مَن يتتبع اليوم الإنترنت، وما يسمى بالشات أو الدردشات، ويقضي أوقاتاً طوالاً فيها في حديث لا يُسمن ولا يغني من جوع، هذا إذا كان في محادثة بكلام مباح، وإلا فالغالب -وللأسف!- في مثل هذه الدردشات هو كلام العشق، وعبارات الهوى والحب والغرام، فكيف لا يصاب المرء المبتلى بداء الغفلة!.
إن الغفلة جعلتنا نألف المعاصي، ونستمرئها، ونتعود عليها، حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، بل صيرت الغفلة المعروف عندنا منكراً، والمنكر معروفاً، والحق باطلاً، والباطل حقاً، وهذا يوصل بنا -والعياذ بالله- إلى مرحلة خطيرة وهي مرحلة المجاهرة بالمعاصي، نجاهر بمعاصينا، ونتبجح بسيئاتنا، ونفخر بها، ونتباهى بين أصحابنا وخلاننا بفعلها؛ فأي غفلة هذه التي بلغناها؟ وأي درجة من درجات البعد عن الله وصلنا إليها؟.
يقول الله جل جلاله وعز كماله: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس:8].
ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ" متفق عليه.
إن الغفلة تجعل المرء شديد التعلق بالدنيا، مهتماً بها أكثر مما تستحق، جاعلها أكبر همه ومبلغ علمه، فكل أعماله من أجل الدنيا، وكل اهتماماته للدنيا، يصبح ويمسي وهو لا يفكر إلا فيها، حتى يصير من أهل الدنيا، الخبيرين بها، المتهافتين عليها، البعيدين عن الآخرة، الناسين لها.
يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر18: 19].
ويقول -سبحانه-: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم6: 7].
ويقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -تعالى- يبغض كل عالم بالدنيا جاهل بالآخرة " صحيح الجامع.
وعند البيهقي من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ كُلَّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ, جِيفَةٍ بِاللَّيْلِ, حِمَارٍ بِالنَّهَارِ, عَالِمٍ بِالدُّنْيَا, جَاهِلٍ بِالْآخِرَةِ" رواه البيهقي في السنن الكبرى.
أيها المسلمون: إن الأعمار قصيرة، والآجال محدودة، وعسكر الموت ينتظروننا، وآجالنا عما قريب ستداهمنا، ونحن في غفلتنا ساهون، وفي لهونا سادرون، فإلى متى ستستمر بنا هذه الغفلة؟ إلى متى والغفلة تجلب لنا الخسارة وتحرمنا من الربح؟ وإلى متى وغفلتنا تحول بيننا وبين التوبة واليقظة؟ وإلى متى والغفلة تريد أن توقعنا في العذاب الشديد، وتحرمنا جنات الخلود؟.
يقول ابن القيم -رحمه الله- في التذكرة في الوعظ: "فمَن عوفي من رقاد الغفلة وسقام المعصية خرج من النار وأدخل الجنة؛ ومن بقي برقاد غفلته فليس له في الجنة ولوج، ومن بقي بسقام معصيته فليس له من النار خروج".
ويقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [المعارج:40- 44].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إنه كان غفاراً.
الحمد لله تعالى الرحيم الرحمن، الكريم المنَّان صاحب الفضل المبين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه أعلام الدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن الغفلة هي الداء الأكبر، والخطر الأحمر، وهي سلطان إبليس على القلوب، وفرحته التي يجدها من الخلق.
لقد انشغلنا عن الطاعات، وأعرضنا عن فعل الصالحات، وأقبلنا على دار الغرور، ومستوطن الشرور!.
فهذا مشغول بتجارته وتكثير أمواله من حلال أو من حرام! وهذا مشغول بزراعته في ليله ونهاره! وهذا مشغول بحساب رصيده الفاني، فهو في ليله ونهاره يعد أمواله ويحسبها، وإذا نام كانت أحلامه مواصلة لتلك الحسابات! وآخر قد اعتكف على الشهوات، فهو مشغول بتلبية شهواته البهيمية، ونزعاته الشيطانية! وآخر غارق في أنواع من المعاصي، يستفتح يومه بها، ويختمه عليها، بلا حياء من الله ولا من عباده! وآخر لا يدري لم خُلق! ولا بالذي يجب عليه في هذه الدنيا، فهو غارق في غفلته ودنياه!.
فماذا كانت النتيجة؟ سيطرت علينا الغفلة، وكستنا من ثيابها ألوانًا، ومن ذلها وهوانها صوراً وأشكالاً.
فانظر -أخي المسلم- من أي الفريقين أنت، فريق اليقظين المنتبهين، أم من فريق الغارقين الغافلين؟.
إيَّاك ثم إياك أن تتكل على عمل صالح عملته فتظن نفسك بعملك هذا أنك بعيد عن أهل الغفلة! فكلنا واقعون في الغفلة، كلٌّ بقدره.
فالواجب علينا أن نتهم أنفسنا دائمًا، وننظر إليها بعين التقصير والتفريط، لأن بعض الناس حينما يسمع الحديث عن مثل هذه المواضيع يرى أنه مادام يصلي ويصوم ويشهد أن لا إله إلا الله، فإنه ليس من أهل الغفلة، ولم يعلم أن الغفلة هي في الحقيقة إبطال الوقت وتضييعه بالبطالة، فإذا كنت تصوم وتصلي ولكنك تسرف في تضييع الأوقات والأعمار فيما لا يجدي ولا ينفع ولو من المباحات فأنت من أهل الغفلة.
قيل لبعض الحكماء: من أشد الناس اغتراراً؟! فقال: أشدهم تهاونًا بالذنب! فقيل له: علام تبكي؟! فقال: على ساعات الذنوب! قيل: علام تأسف؟ قال: على ساعات الغفلة!.
أيها الناس: إن الغفلة توهن العبد، وتصرف قلبه عن الله وآياته، وكفى بهذا حرماناً وشقاء، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف:146].
بل وتعرض العباد للعذاب، والهلاك، والسخط، (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) [الأنعام:131].
ومن أشد أضرار الغفلة أنها تمنع قبول الدعاء، لأن الله -سبحانه وتعالى- لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ" رواه الترمذي.
عباد الله: إذا أردنا النجاة من الغفلة، والخلاص منها، فلنترك أماكن الغفلة، ونبتعد عنها، ونهجر مجالس أهلها، ونفر منهم ومن صحبتهم ومجالستهم، ولنكثر من فعل الطاعات، فإن الطاعات أعظم مضاد من المضادات القوية للخلاص من الغفلة، لأنها تقرِّبك من الله، كما أنَّ المعصية تبعدك عن الله.
فكلَّما كثُرت الطاعات ازداد العبد قُرْبًا من الله -تعالى-، وكلما قلت ازداد بعداً وغفلة، لذلك يقول الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ -أي: عن تركهم- الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ" رواه مسلم.
إضافة إلى ذكر الله -سبحانه وتعالى-، والإكثار منه، فهو أعظم مذيب لداء الغفلة، يقول ابن القيم -رحمه الله- في الوابل الصيب: "الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة مرضه؛ وشفاؤها ودواؤها في ذكر الله -تعالى-. قال مكحول: ذكر الله -تعالى- شفاء، وذكر الناس داء".
ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "مَن حافظ على هؤلاء الصلوات المكتوبات، لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ في ليلة مائة آية كُتب من القانتين" صحيح الترغيب والترهيب .
لنكن دائماً متيقظين، حذرين، منتهين عن الاغترار بهذه الدنيا والغفلة فيها، ولنتذكر الموت، والآخرة، فإن ذكر الموت، والقبر، والنار، أعظم دواء لداء الغفلة، فلنبادر قبل أن يبادرنا الموت، ولنسرع قبل فوات الأوان، (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:21-22].
اللهم يا من لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة، أيقظنا من نوم الغفلة، ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة، ووفقنا لما يصلحنا، واعصمنا من قبائحنا وما يضرنا، ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا، وأكنته سرائرنا.
وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله عل نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي