الورود على الله

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. فتن زماننا وقسوته .
  2. فلننتبه لأنفسنا .
  3. أهل النعيم وأهل الشقاء ممن نحن؟ .
  4. حالنا والخروج من الأجداث والوقوف بين يدي الله .
  5. حالنا والتغيرات الكونية يوم القيامة .
  6. يشيب لهوله الولدان .
  7. نفسي نفسي .
  8. وتضع كل ذات حمل حملها .
  9. يوم يقوم الأشهاد .
  10. يوم تبيض وجوه وتسود وجوه .
  11. يوم يوضع الصراط وينصب الميزان .
  12. حقيقة الدنيا .
  13. الدعوة للتوبة التوبة .
اهداف الخطبة
  1. الحث على الاستعداد ليوم المعاد
  2. التذكير بيوم الورود على الله تعالى
  3. شحذ الهمة بداية في الطريق الصحيح للوقوف مع النفس
  4. السبيل إلى التعرف على حقيقة أنفسنا

اقتباس

إخواني، تفكَّروا في الحَشر والمعاد، وتذكَّروا يوم يقوم الأشهاد؛ فإن في القيامة حسرات، وإن في الحشر لَزَفرات، وإن عند الصراط لعثرات، وإن عند الميزان لعبرات، وإن الظلم يومئذ ظلمات، والكتب تحوي كل شيء حتى النظرات، وإن الحسرة العظمى عند السيئات، فريق في الجنة يرتقون في الدرجات، وفريق في السعير يهبطون الدركات، وما...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي استأثر بالملك والبقاء، وانفرد بالقهر والاستيلاء، وكتب على هذه الدنيا الفناء، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وجعل الآخرة نعيماً للأتقياء، وسجناً ونكالاً على الأشقياء.

والصلاة والسلام على سيد الأنبياء، وأتقى الأتقياء، نبي الهدى، ومصباح الدجى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأوفياء، ومن سلك سبيلهم واقتدى، وسلم تسليماً كثيراً مباركاً مزيداً.

أما بعد: عباد الله: إننا نعيش في زمن طغت فيه الدنيا وتزينت، وكثرت فيه الماديات وعظمت، وازدادت الفتن وانتشرت، فغرق أكثرنا في بحار الأوهام، وامتلأت قلوبنا بحب الدنيا وكراهية الموت، وبدت تصرفاتنا وتخطيطاتنا تنطلق من منطلق الغرور وطول الأمل الذي أصابنا.

قلوبنا تعلقت بأمور تافهة حقيرة نصبح عليها ونمسي عليها، فمنا من تعلق قلبه بجمع المال وسلك في ذلك مسالك مشبوهة، وسبلاً محرمة، ومنا من تعلق قلبه بالزوجة والولد، ومنا من تعلق قلبه بالنساء، ومنا من تعلق قلبه بالغلمان والمردان، ومنا من تعلق قلبه بالكرة والرياضة، ومنا من تعلق قلبه بالمواقع الفاسدة والدردشات التافهة على الانترنت.

نسينا الله، وغفلنا عن طاعة الله، وابتعدنا عن عبادة الله، وألهتنا الدنيا عن الآخرة، وآثرنا العاجلة على الباقية، (إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا) [الإنسان:27].

نعيش في لهو وسهو وغفلة، وملَك الموت أمامنا، والقبر ينتظرنا، فمتى نصحو من غفلتنا قبل أن يأتي الأسى والندم، ونتمنى العودة والرجوع إلى الدنيا فيقال لنا: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:100].

فلننتبه لأنفسنا قبل أن ننتقل من القصر إلى القبر، ومن الضياء إلى الظلمة، ومن الدنيا إلى الآخرة، ومن العُشرة إلى الوحدة، ومن ملاعبة الأولاد والخلان إلى مجاورة العقارب والديدان، ومن التنعم باللذائذ والشراب إلى التمرغ على الطين والتراب.

عباد الله: كلنا نسير إلى الله وسنلاقيه، ونمشي إليه ويوشك أن نصل، فإن النَفَس قد يخرج ولا يعود، وقد ننام ولا نقوم، وقد نخرج من بيوتنا ولا نرجع إلا محمولين، فلا ينبغي لنا أن نتعامى عن مصيرنا، أو ننسى أنفسنا، أو نستمر في رقادنا وغفلتنا.

مَضَى الدهرُ والأيامُ والذّنْبُ حَاصِلُ *** وجَاء رسولُ الموتِ والقلبُ غَافَلُ
نَعِيْمُكَ فِيْ الدُنْيَا غُرُوْرٌّ وحَسْرةٌّ *** وعَيْشُكَ فِيْ الدُّنْيَا مُحَالٌ وبَاطِلُ

يقال: إن يعقوب -عليه السلام- قال لملك الموت: إني أسألك حاجة. قال: وما هي؟ قال: أن تُعْلِمَني إذا دنا أجلي وأردت أن تقبض روحي، فقال: نعم؛ أُرسل إليك رسولين أو ثلاثة.

فلما انقضى أجله أتى إليه ملك الموت فقال: أزائرٌ جئت أم لقبض روحي، فقال: لقبض روحك. فقال: أولستَ كنت أخبرتني أنك ترسل إلي رسولين أو ثلاثة؟ قال: قد فعلت: بياض شعرك بعد سواده، وضعف بدنك بعد قوته، وانحناء جسمك بعد استقامته. هذه رسلي يا يعقوب إلى بني آدم قبل الموت.

وذكر عن شقيق البلخي أنه قال: الناس يقولون ثلاثة أقوال، وقد خالفوها في أعمالهم، يقولون: نحن عبيد الله، وهم يعملون عمل الأحرار، وهذا خلاف قولهم، ويقولون: إن الله كفيل بأرزاقنا، ولا تطمئن قلوبهم إلا بالدنيا وجمع حطامها، وهذا خلاف قولهم، ويقولون: لا بد لنا من الموت، وهم يعملون أعمال من لا يموت، وهذا خلاف قولهم.

كأنَّك لم تسمع بأخبارِ مَن مَضَى *** ولم تر في الباقين ما يصنع الدهرُ
فإنْ كنْتَ لا تدري فتلك ديارُهُمْ *** محاها مجالُ الريحِ بعدك والقبر

إننا سنرِد على الله، وسنعاين الآخرة بأعيننا، فتصور كيف يكون فرحك وسرورك إذا عاينت النعيم والبهجة فقيل لك: أنت من أهل النعيم، وتصور إن كان الأمر عكس ذلك، فقيل لك: إن جهنم هي مصيرك ومآلك! فكيف ستكون الحسرة والندم، والندامة والألم!.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ* وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر:36-37].

تخيل يوم ترد على الله فينادي بك المنادي: يا فلان! قم إلى العرض على الله، فأي قدم ستحملنا بين يدي الله؟ وبأي وجه سنقابل الله؟ وماذا سنقول له عندما يحاسبنا على كل صغيرة وكبيرة، ويسألنا عن كل عظيمة وحقيرة؟.

(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49]، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].

كم من ذنب عملناه ونسيناه، وقد أحصاه الله! وكم من معصية فعلناها في السر يوم الفضائح يُظهرها الله! وكم من ذنـوب وقع فيها غيرنا وكنا نحن السبب فيها فنتحمل أوزارها وأوزار كل من عملها!.

قال تعالى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [النحل:25]، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ" رواه مسلم.

تخيل يوم تقوم من قبرك، فتخرج والغبار قد ملأ جسدك، وأنت ذليل خاشع مطأطأ الرأس، منكس الوجه، ملئت بالخوف والرعب من هول الموقف وشدته؛ فكيف يكون الورود على الله؟ وماذا سنقول لله؟ (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [المعارج:43-44].

كيف سترد على الله عندما ترى الكون من حولك يتغير تغيراً هائلاً، وتحدث فيه تغيرات وتقلبات كبيرة؟ فالشمس تكور، والنجوم تتكدر وتتناثر، والسماء تتشقق، والجبال تسير سيراً!.

كيف سيكون شعورك وإحساسك وأنت ترى هذه المشاهد المرعبة، وتشاهد الملائكة على أرجاء السماء واقفة، والسماء تتشقق وتذوب كما يذوب الرصاص المذاب؟!.

يقول الله -سبحانه وتعالى-: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار:1-6].

ويقول -سبحانه وتعالى-: (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) [الحاقة:16-17].

كيف يكون الورود على الله في يوم يشيب لهوله الولدان الصغار الذين لم يرتكبوا جرماً، ولم يعملوا ذنباً، فتبيضّ رؤوسهم من عظمة ما يرون؟ فكيف بنا نحن الذين ارتكبنا الجرائر، واقترفنا الكبائر؟ ماذا سنقول لربنا غداً؟ وماذا سيكون حالنا يوم نرد عليه جل جلاله وعز كماله؟ (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) [المزمل:17].

تصور يوم الحشر حين يحشر الله الخلائق أجمعين حتى البهائم، فتزدحم الأمم، وتتضاعف الشدة والكربة والألم، وتدنو الشمس فوق رؤوس الخلائق قدر ميل واحد، وأنت لا تدري هل سيكون ورودك تحت ظل عرش الله، أم سيكون الورود مع أهل الموقف في كربتهم وشدتهم وأهوالهم؟!.

تخيل يوم يقول كل نبي ورسول: نفسي نفسي! ولا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه من شدة الهول والفزع، فكيف سيكون ورودنا نحن المذنبين العصاةَ المقصِّرين إذا كان هذا حال الأنبياء والمرسلين.

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [النحل:111]، (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا * يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) [مريم:83-86].

تصور يوم يؤتى بجهنم تقاد وتجر ولها سبعون ألف زمام، يقود كل زمام سبعون ألف ملك، (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) [الفجر:23]، يتذكر الإنسان: هل يكون من الناجين منها، أم من الواردين والداخلين؟ لها نسأل الله لنا ولكم السلامة من النار.

تصور يوم يرد الناس على الله فلا يعرف أحد أحداً، ولا ينفع حميم حميماً، قد تقطعت الأنساب، وتنكر الأهل والأصحاب، وفر منك الأقارب والأحباب، فتبقى رهين عملك، تنظر عن يمينك فلا ترى إلا عملك الذي قدمته في الدنيا، وتنظر عن يسارك فلا ترى إلا عملك، وتنظر تلقاء وجهك فلا ترى إلا النار تلقاء وجهك.

( يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى) [المعارج:8-15].

(فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عَبَسَ وَتَوَلَّى) [عبس:33-37].

يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"، وفي رواية: "وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ" متفق عليه.

كيف سنرد على الله في يوم تبلغ فيه القلوب الحناجر من شدة الهلع، وتضع كل ذات حمل حملها من الفزع، وتنصب الموازين، وتتطاير الصحف فلا تدري أين ستقع، أتقع في يمينك فتهنأ، أم ستقع في شمالك أو من وراء ظهرك فتندم وتتحسر؟!.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:1-2].

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة:18-33].

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا) [الانشقاق:7-15].

فيا لها من أهوال عظيمة! ويا لها من مواقف شديدة! ويا لها من كروب عسيرة! ويا لها من مشاهد مفزعة، ومواقف مرعبة، تُبكي القلب والعين! (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر:18]، فماذا أعددنا ليوم الورود يا عباد الله؟.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ، أحمده سبحانه وتعالى القائم على كل نفس بما كسبت، المجازي لها بما عملت، المحصي عليها ما قدمت وأخرت.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، صلى الله عليه وسلم.

إخواني، تفكَّروا في الحَشر والمعاد، وتذكَّروا يوم يقوم الأشهاد؛ فإن في القيامة حسرات، وإن في الحشر لَزَفرات، وإن عند الصراط لعثرات، وإن عند الميزان لعبرات، وإن الظلم يومئذ ظلمات، والكتب تحوي كل شيء حتى النظرات، وإن الحسرة العظمى عند السيئات، فريق في الجنة يرتقون في الدرجات، وفريق في السعير يهبطون الدركات، وما بينك وبين هذا إلاَّ أن يقال‏:‏ فلان مات! وتقول‏:‏ (رَبِّ ارْجِعُونِ)، فيُقال‏:‏ فات!.

تخيل يوم الورود على الله حين تَبْيَضُّ وُجُوٌه وتسودُّ وجوه، فماذا إذا اسود وجهك، وانتكس رأسك، وساء عملك، وقدمت على الله وأنت مسود الوجه، تتخطى الخلائق بوجه كالح أسود قبيح، بسبب ما صنعت من أعمال قبيحة.

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [آل عمران:106-107].

(وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [السجدة:12-14].

تصور يوم ينصب الصراط على متن جهنم، أحدّ من السيف، وأدقّ من الشعرة، ولا عذر لنا من الورود عليه، فكيف يكون المرور والورود عليه وهو بهذه الحدة والدقة؟ فرحماك رحماك يا ربنا!.

تصور إذا وضع الميزان: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة 7: 8]، فماذا عندنا من الأعمال الصالحة التي تثقل موازيننا، وترفع درجاتنا؟ (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ) [القارعة:6-11].

"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا دَارُ الْتِوَاءٍ، لا دَارُ اسْتِوَاءٍ، وَمَنْزِلُ تَرَحٍ، لا مَنْزِلُ فَرَحٍ، فَمَنْ عَرَفَهَا لَمْ يَفْرَحْ لِرَجَاءٍ، وَلَمْ يَحْزَنْ لِشَقَاءٍ، أَلا وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الدُّنْيَا دَارَ بَلْوَى، وَالآخِرَةَ دَارَ عُقْبَى، فَجَعَلَ بَلْوَى الدُّنْيَا لِثَوَابِ الآخِرَةِ سَبَبًا، وَثَوَابَ الآخِرَةِ مِنْ بَلْوَى الدُّنْيَا عِوَضًا، فَيَأْخُذُ لِيُعْطِيَ، وَيَبْتَلِي لِيَجْزِيَ، وَإِنَّهَا لَسَرِيعَةُ الذَّهَابِ، وَشِيكَةُ الانْقِلابِ، فَاحْذَرُوا حَلاوَةَ رَضَاعِهَا لِمَرَارَةِ فِطَامِهَا، وَاهْجُرُوا لَذِيذَ عَاجِلِهَا، لِكَرِيهِ آجِلِهَا، وَلا تَسْعُوا فِي عُمْرَانِ دَارٍ وَقَدْ قَضَى اللَّهُ خَرَابَهَا، وَلا تُوَاصِلُوهَا وَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ مِنْكُمُ اجْتِنَابَهَا، فَتَكُونُوا لِسَخَطِهِ مُتَعَرِّضِينَ، وَلِعُقُوبَتِهِ مُسْتَحِقِّينَ".

فالتوبةَ التوبةَ! والرجوعَ الرجوعَ إلى الله ما دمنا في دار الإمهال! قبل أن ننتقل إلى دار الجزاء والحساب.

علينا أن نتوب إلى الله من ذنوبنا، ونستغفره من سيئاتنا، ونقلع عن أوزانا حتى نلقى الله ونحن في اشتياق إليه وهو راض عنا.

يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ". قَالَتْ عَائِشَةُ، أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قَالَ: "لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ" متفق عليه.

اللهم إنا نسألك الأمن يوم الوعيد من العذاب الشديد، ونسألك الجنة دار الخلود مع المقربين الشهود، والركع السجود، والموفين بالعهود والوعود، إنك غفور رؤوف ودود.

اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترد بها إلفنا، وتصلح بها ديننا، وتحفظ بها غائبنا، وترفع بها شاهدنا، وتزكي بها علمنا، وتبيض بها وجوهنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء.

اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، وعمل لا يرفع، ودعاء لا يسمع.

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك. اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علما.

الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار.

اللهم أغننا بالعلم، وزَيِّنَّا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجملنا بالعافية.

اللهم أعطنا إيمانًا صادقًا، ويقينًا ليس بعده شك، ورحمة ننال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة.

اللهم إنا نسألك الفوز عند القضاء، ومنازل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء، ومرافقة الأنبياء.

اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، حربا لأعدائك، وسلما لأوليائك، نحب بحبك الناس، ونعادي بعداوتك من خالفك مِن خلْقك.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي