الإنصاف من النفس

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. وقفة مع آية حول الإنصاف .
  2. إنصاف النفس أولاً .
  3. كيف ننصف أنفسنا من أنفسنا .
  4. ثمرة الإنصاف .
اهداف الخطبة
  1. الإنصاف من النفس في القرآن
  2. التذكير بهذا الموضوع وبيان أهميته
  3. بيان كيفية الإنصاف للنفس من النفس

اقتباس

فالنفس إذا أصبحتْ ذاتَ سلطان وتحكُّم، ولم يستطع صاحبها أن يملكها، وترك إنصافها، وجعل نفسه تتعدى على نفوس الآخرين، وسمح لها بالاستطالة عليهم، ولم يأخذ بعنانها، ولم يحاسبها وينصفها؛ فإنه مصاب بمرض خطير في التعامل مع النفس، ويوشك أن تصل به نفسه إلى ..

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله وخيرته من خلقه وحبيبه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، فبلَّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقّ الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع بإحسان سُنّته إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله: يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:135].

في هذه الآية الكريمة يدعونا الله -سبحانه وتعالى- إلى الإنصاف حتى مع أنفسنا، وذلك بأن نكون قوامين بالقسط، أي: بالعدل، فلا نعدل عن العدل يمنة ولا يسرة، ولا نحيد عنه تحت أي ظرف من الظروف، ولا يصرفنا عن إقامته أي صارف، ولا تأخذنا في تحقيقه لومة لائم ولو على أنفسنا.

نعم؛ حتى لو كان على أنفسنا فعلينا أن نشهد بالحق ولو عاد الضرر علينا، وإذا سئلنا عن الحق فلنقله ولو كان فيه مضرة تعود علينا، فإن لم نلتزم بهذا وأعرضنا عنه فقد توعدنا الله -سبحانه وتعالى- بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).

إنه الإنصاف من النفس الذي طالبنا ربنا به في هذه الآية فقال: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)، والقوَّام صيغة مبالغة، والمقصود من ذلك أن نكون قائمين بالقسط والعدل في كل أحوالنا ولو كان على أنفسنا؛ فهل رأيتم إنصافاً من النفس أعظم من هذا؟! وهل سمعتم بمنهج يربي النفس على الإنصاف أعظم من هذا المنهج القويم؟!

إنّ إنصاف النفس يعد من أولى وأعظم درجات الإنصاف، وذلك بأن يكون الإنسان منصفاً لنفسه من نفسه؛ لأنّ من لم يفعل ذلك فلن يستطيع إنصاف غيره، كما تقول القاعدة المعروفة: "فاقد الشّيء لا يعطيه".

فالنفس إذا أصبحتْ ذاتَ سلطان وتحكُّم، ولم يستطع صاحبها أن يملكها، وترك إنصافها، وجعل نفسه تتعدى على نفوس الآخرين، وسمح لها بالاستطالة عليهم، ولم يأخذ بعنانها، ولم يحاسبها وينصفها فإنه مصاب بمرض خطير في التعامل مع النفس، ويوشك أن تصل به نفسه إلى دركات الشطط والانحرافات، فيصبح عبداً مطاعاً لها؛ لأنه لم ينصف نفسه من نفسه.

وربما يسأل سائل: وكيف ننصف أنفسنا من أنفسنا؟ والجواب: إن إنصاف النفس من النفس يكون بأمور عديدة:

منها: أن ننصف أنفسنا بمعرفة قدر أنفسنا، فلا نعطي أنفسنا فوق حجمها، ولا نرفعها أكثر مما تستحق، فنحن في البداية والنهاية مجرد عبيد لله، والعبد يجب عليه أن يفهم حقيقته، وأن يدرك قيمته.

ويجب عليه قبل هذا أن يعرف سيده، وأن يستشعر عظمته ومنزلته، وأن لا يزاحم بنفسه فاطره ومالكه ومولاه، فلا يدعي لنفسه التملك، ولا يدعي لنفسه الاستحقاق، ولا يدعي لنفسه التصرف، وليعلم علم اليقين أن الملك المطلق، والتصرف المطلق، والاستحقاق كله لربه وخالقه جل جلاله، وعز كماله.

وليعلم -أولاً وأخيراً- أنه مجرد عبد مطيع، خلق لعبادة ربه والانقياد له، فهل أنصفنا أنفسنا من أنفسنا في هذه النقطة؟ أم أننا لا زلنا لم نعرف ربنا -جل وعلا- حق المعرفة؟ ولم نقدره حق قدره، ولم نعظمه حق تعظيمه؟ ولم ندرك الهدف الذي من أجله أوجدنا وخلقنا؟ وفي مقابل ذلك قدرنا أنفسنا فوق قدرها، وأعطيناها أكثر من حجمها، فأين الإنصاف من النفس عباد الله؟.

يقول -سبحانه وتعالى-: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر:67]. يقول مُحَمَّد بْن كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ -رحمه الله-: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ -أَوْ قَالَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ- فَوَجَدْتُ فِيهَا: يَقُولُ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَنْصَفْتَنِي! خَلَقْتُكَ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا وَجَعَلْتُكَ بَشَرًا سَوِيًّا، خَلَقْتُكَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ فَجَعَلْتُكَ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْتُ النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْتُ الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْتُ الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْتُ الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأَتُكَ خَلْقًا آخَرَ.

يَا ابْنَ آدَمَ: هَلْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرِي؟ ثُمَّ خَفَّفْتُ ثِقلَكَ عَلَى أُمِّكَ حَتَّى لَا تَتَبَرَّمَ بِكَ وَلَا تَتَأَذَّى، ثُمَّ أَوْحَيْتُ إِلَى الْأَمْعَاءِ أَنِ اتَّسِعي وَإِلَى الْجَوَارِحِ أَنْ تَفَرَّقِي فَاتَّسَعَتِ الْأَمْعَاءُ مِنْ بَعْدِ ضِيقِهَا، وَتَفَرَّقَتِ الْجَوَارِحُ مِنْ بَعْدِ تَشَبُّكِهَا.

ثُمَّ أَوْحَيْتُ إِلَى الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِالْأَرْحَامِ أَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ بَطْنِ أُمِّكَ فَاسْتَخْلَصَكَ عَلَى رِيشَةٍ مِنْ جَنَاحِهِ فَاطَّلَعْتُ عَلَيْكَ، فَإِذَا أَنْتَ خَلْقٌ ضَعِيفٌ لَيْسَ لَكَ سِنٌّ يَقْطَعُ وَلَا ضِرْسٌ يَطْحَنُ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ فِي صَدْرِ أُمِّكَ عِرْقًا يَدُرُّ لَبَنًا بَارِدًا فِي الصَّيْفِ حَارًّا فِي الشِّتَاءِ، وَاسْتَخْلَصْتُهُ لَكَ مِنْ بَيْنِ جِلْدٍ وَلَحْمٍ وَدَمٍ وَعُرُوقٍ.

ثُمَّ قَذَفْتُ لَكَ فِي قَلْبِ وَالِدِكَ الرَّحْمَةَ وَفِي قَلْبِ أُمِّكَ التَّحَنُّنَ فَهُمَا يكدَّانِ عَلَيْكَ وَيَجْهَدَانِ، يُرَبِّيَانِكَ وَيُغَذِّيَانِكَ وَلَا يَنَامَانِ حَتَّى يُنَوِّمَاكَ.

يَا ابْنَ آدَمَ: أَنَا فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ لَا لِشَيْءٍ اسْتَأْهَلْتَ بِهِ مِنِّي، وَلَا لِحَاجَةٍ اسْتَعَنْتُ بِكَ عَلَى قَضَائِهَا.

يَا ابْنَ آدَمَ: فَلَمَّا قَطَعَ سِنُّكَ وَطَحَنَ ضِرْسُكَ أَطْعَمْتُكَ فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي أَوَانِهَا وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي أَوَانِهَا، فَلَمَّا أَنْ عَرَفْتَ أَنِّي رَبُّكَ عَصَيْتَنِي! فَادْعُنِي فَإِنِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ، وَاسْتَغْفِرْنِي فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. [حلية الأولياء:13/399].

من الإنصاف للنفس أن نؤثر مرضاة الله -سبحانه وتعالى- على مرضاة أنفسنا وشهواتنا، وأن نقدم مراد الله على مرادنا، وطاعته على طاعة نفوسنا الأمارة بالسوء، فإن لم نفعل ذلك فإننا لم ننصف أنفسنا.

إن الإنصاف من النفس يقتضي أن نتمسك بكتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأن نقتدي بهما، ونؤثر شرعهما على كل فكر وذوق، وأن نقدم منهجهما على أهواء أنفسنا، وأن نحب الله ورسوله أكثر مما نحب أنفسنا التي بين جوانحنا، هذه هي قمة الإنصاف من النفس.

يقول عَبْد اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ -رضي الله عنه-: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ"، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي! فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الآنَ يَا عُمَرُ" رواه البخاري. أي: الآن كمل إيمانك.

أيها المسلمون: ومن الإنصاف للنفس تجميلها بالطاعة، وتزيينها بالعمل الصالح، وإلباسها لباس التقوى، وإبعادها كل البعد عن دنس المعاصي وموبقات الآثام فنفسك التي بين جنبيك وديعة استودعك الله إياها، وأمرك أن تشرفها بالطاعة، وتعمرها بالخير، وتكون سبباً لفوزها بالجنة ونجاتها من النار، لا أن تكون سبباً لتدنيسها بالمعاصي وتلويثها بالسيئات، فتكون سبباً -والعياذ بالله- في حرمانها من الجنة ودخولها النار.

يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6]، ويقول -جلا وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [المائدة:105].

ونبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: "مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى" رواه البخاري.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، يعلمهم ويزكيهم وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله: ومن الإنصاف من النفس أن تضع نفسك في موضع الطرف الآخر، فتعامله كما لو كنت في مكانه، وتحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكرهه لنفسك، وهذا يلزمك أن لا تبدأ أخاك بشيء من الشر، فإن البادئ أظلم، فكونك تبدؤه بذلك فإنك تكون قد استثرته وظلمته، وهذا مناقض ومخالف جداً للإنصاف من النفس.

وإذا بدأ هو فإن الأولى بك والأحسن لك أن لا ترد، وهذا مستوى راقٍ جداً لا يصل إليه إلا من بلغ الكمال في الإنصاف والعدل والعفو، يقول الله -جل وعلا-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:34-35].

أحياناً قد يكون بينك وبين شخص خصومة، تكون فيها أنت الظالم أو المعتدي، فمقتضى الإنصاف أن تنصفه من نفسك وتعترف بخطئك، وتعطيه حقه إن كان هناك شيء في ذمتك، هذه هي حقيقة الإنصاف.

وفي بعض الأحيان قد يطلب منك أن تشهد بحق شخص ما أنت لا تتوافق معه، أو بينك وبينه إشكاليات معينة، فإن مقتضى الإنصاف أن تشهد بالقسط والعدل، كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8]، أي: لا يحملنكم بغضكم لأحد ما على أن تتعاملوا معه خلاف العدل والإنصاف، فهذا لا يتناسب مع التقوى، بل اعدلوا أقرب للتقوى.

يقَول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فِي وَصِيَّتِهِ لِابْنِهِ الْحَسَن: "يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ، وَقُلْ مَا تَعْلَمُ، وَلَا تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ" [نهج البلاغة:640].

وقد تصادف في بعض الأحيان أحداً ربما لا يحسن البيع والشراء، فيضع سعراً لبضاعته أقل من المطلوب، أو يطلب مبلغاً أقل مما هو متعارف عليه، أو قد يخطئ البائع في حساب البضاعة فيعطيك البضاعة والمبلغ، وربما يكون مبلغاً كبيراً، أو يكون سعر البضاعة قد ارتفع وهو لا يدري، فمن الحق والإنصاف أن تبين له، ولا تستعذر بخطئه أو براءته، بل الواجب أن تعترف له وتنصفه.

فهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد حينما أحاط به المشركون من كل مكان، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ؟"، فتقدم إليه سبعة من أصحابه كل واحد تلو الآخر، فقتلوا جميعاً؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا" رواه مسلم.

فمع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعدهم بالجنة إن قاموا بالدفاع عنه وحمايته فقاموا بذلك خير قيام فأنصفهم، ومع هذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا"، فهل رأيتم إنصافاً أعظم من هذا؟ وهل رأيتم منصفاً كنبينا -صلى الله عليه وسلم-؟.

وعلى هذا السلوك سار أصحابه، فهذا جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- اشترى له وكيله فرسا بثلاثمائة درهم، فرآها جرير فتخيل أنها تساوي أربعمائة، فقال لصاحبها: تبيعها بأربعمائة؟ قال: نعم، ثم تخيل أنها تساوي خمسمائة، فقال: أتبيعها بخمسمائة، قال: نعم، ثم تخيل أنها تساوي ثمانمائة ثم سبعمائة ثم ثمانمائة، فاشتراها بثمانمائة. [تهذيب الأسماء:243].

أيها الناس: إن المرء عندما ينصف نفسه من نفسه فإن هذا دليل على صدق إيمانه، وسلامة أخلاقه، ودليل أيضاً على صدق التّجرّد من الأنانيّة وحب الذات وحظوظ النفس، فمن أنصف لنفسه من نفسه فقد زكاها وجملها، وتغلب على هواها وشهواتها، وهذا هو الفوز العظيم، والنجاح الحقيقي في الدنيا والآخرة؛ يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:7-10].

يقول عمّار بن ياسر -رضي الله عنهما-: "ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإنصاف مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ" رواه البخاري.

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمر الله بالصلاة والسلام عليه، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

اللهم أعنا على إنصاف أنفسنا من أنفسنا.

اللهم إنا نسألك أن ترزقنا الإنصاف معك، وأن تعيينا على الإنصاف مع خلقك.

اللهم إنا نعوذ بك أن نَضِل أو نُضَل، أو نَزل أو نُزل، أو نظلِم أو نُظلم، أو نجهل أو يجهل علينا.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201].

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات:180-182].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي