الليبرالية وموقف الإسلام منها

عبد الرحمن بن محمد الهرفي
عناصر الخطبة
  1. تاريخ الليبرالية وكيف ظهرت وتطورت .
  2. أهم مبادئ الليبرالية .
  3. تناقض الليبرالية مع الإسلام .
  4. فتوى الفوزان في الدعوة للفكر الليبرالي في بلاد الإسلام .

اقتباس

والليبرالية ترفض الحكم بالشرع؛ لأن الشريعة تقيد تصرفات الناس، فمن حقوق الإنسان الزنا واللواط، والشريعة تعاقب على ذلك، فلابد من السعي الحثيث لإلغاء تلك العقوبات، ومن حقوق الإنسان حرية الدين، فله الخروج من الإسلام والارتداد، فلابد من السعي لإلغاء حكم الردة أيضًا، وهكذا بقية العقوبات، فهي عُرْضَة...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أما بعد:

فيا عباد الله: كثيرًا ما نسمع عن الليبرالية، ويقول بعضهم عن نفسه: إنه ليبرالي، فما هي الليبرالية؟! وما حقيقتها؟! وما حكم من انتمى لها؟! وهل يمكن أن يكون المسلم ليبراليًّا؟!

الليبرالية فكر ظهر في الدول الأوروبية قبل سنوات طويلة، ثم انتقلت لبلاد المسلمين كما انتقل غيرها من الأفكار، وهي مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الفكر والسياسة والاقتصاد، وينادي بقبول الآخر أيًّا كان ومهما كانت أفكاره، ولو كانت متعارضة مع الدين.

فمثلاً يقبل الليبراليون عبدة الشيطان، ولا يمانعون من بقائهم في المجتمع، ولهم كافة الحرية في إظهار عقائدهم وأفكارهم، ولا يجوز لأية جهة إقصاؤهم.

فالليبرالية تقوم على حرية الاعتقاد؛ فللإنسان أن يعتقد بما شاء، وحرية السلوك؛ فللإنسان أن يفعل ما يشاء بلا قيود ما لم يتعرض لحرية غيره، يقول أحدهم: "إن الإنسان الفرد -حسب الليبرالية- له السيادة على هذا الكون، بما يعني ضرورة التحرُّر من التسلط أيًّا كان نوعه، سواء تسلط الدولة أو الجماعة، والأفكار المسبقة أو الموروثة، وأيضًا جعل الأولوية للمصالح الفردية وتغليبها على المصالح الاجتماعية".

وفي ضوء الحرية الليبرالية، لا مانع من أن ينكر المسلم وجود الله، ويعلن بملء فيه بأنه خرافة، اختلقه الأقوياء للتسلط على الضعفاء، أو اختلقه رجال الدين لإخضاع البسطاء!!

ويقول أحدهم بكل جرأة: "وكتب العقائد -رغم ما فيها من حق قليل- إلا أن فيها الكثير من الباطل، بل هو الغالب عليها".

وتقوم الليبرالية على حرية التدين المطلقة؛ فكل إنسان حر في تطبيق تعاليم الدين أو عدم التطبيق، فمن شاء أن يصلي فليصلِّ، ومن لم يشأ فله ذلك، والمرأة إن شاءت تحجبت وإن لم تشأ خرجت سافرة، ولا يجوز لأحدٍ أن يلزم غيره بما لا يريد، وهذا إعدام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ركن ركين في ديننا؛ يقول ربنا -جل شأنه-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران:110].

وتقوم الليبرالية على عدم وجود مقدس يُخضع له؛ لذا يقولون: لابد من إخضاع المقدس والتراث للنقد العلمي، ويقصدون بالمقدس: القرآن الكريم، وبالتراث: سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقول أحدهم: "تصنيم التراث لم يقتصر على التراث، وإنما تعداه إلى سدنة التقليد المتشدقين بصون التراث وحمايته، لقد أصبح هؤلاء السدنة أعظم صنمية من مقولات التراث". فالسنة النبوية مجرد صنم.

ويقول الآخر: "الجنون الذي نراه اليوم عرض من أعراض المرض، والعلة التي استشرت في جسد هذه الأمة وثقافاتها، وهذه راجعة أساسًا إلى تراث متعفن، وثقافة الصديد والضحالة التي يُربى أبناؤنا عليها صباحًا ومساءً، في المساجد، وعبر خطب الجمعة، وفي دروس الدين، ومن إذاعة القران الكريم".

والليبرالية ترى أن لا تخضع إلا للقانون الذي وضعته هي بنفسها كما قال كبيرهم: "الحرية الحقة هي أن نطيع القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا".

وتقوم الليبرالية على مبدأ فصل الدين عن الحياة، فالليبرالية ترفض تحكيم القرآن والسنة، يقول أحدهم: " أهم المبادئ الليبرالية الأساسية العلمانية التي تعني فصل الدين عن النشاط البشري بعامة، وعلى مثل هذا المبدأ يقوم المذهب الليبرالي في كافة المجالات: السياسية، والاقتصادية، والفكرية، بل لا تكون الدولة ليبرالية إلا حيث تكون العلمانية، فالدين علاقة روحانية جلية بين الإنسان ورّبه تعالى". فالدين عندهم محصور في المسجد، ولا علاقة للدين في شؤون الإنسان.

وتقوم الليبرالية على الهجوم على التاريخ وفصل الأمة عن تاريخها العظيم؛ يقول أحد دعاة الليبرالية: "إن السلطان محمد الفاتح، وفتح مدنية القسطنطينية يذكِّر بشارون وهو يريد احتلال القدس وطرد أهلها منها، وبغض النظر عن فظاعات الفتح، وحجم النهب والسلب، والاغتصاب على يد الإنكشارية، فإن أول ما فعله محمد الفاتح أن وضع يده على أقدس مقدساتهم: أياصوفيا، تلك التحفة التاريخية، ليحولها إلى مسجد، لم يكن هذا الفتح انتشارًا على منهج النبوة، بل اجتياحًا عسكريًّا ونسمّيه إسلاميًّا".

ويقول أيضًا: "نحن نفرح بذكرى حطين، ولكن قد نصدم إذا عرفنا أن الناصر صلاح الدين الأيوبي هو الذي ذيّل بتوقيعه على إعدام شهاب الدين السهروردي لآراء قالها، وأخذ لقب الشاب القتيل في التاريخ". فهو يوحي للقارئ أن السهروردي عالم شاب قتل ظلمًا، والصحيح أن صلاح الدين قتله على الزندقة؛ قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "السهروردي الساحر بحلب أفتى الفقهاء بقتله، فقتل بالجوع، وأحرقت جثته". وقال ابن تغري بردي -رحمه الله-: "كان يعاني السيمياء -أي السحر- وغيره من العلوم، فاستمال بذلك خلقًا كثيرًا وتبعوه؛ وكان السهروردي رديء الهيئة، زري الخلقة، دنس الثياب، وسخ البدن، لا يغسل له ثوبًا ولا جسمًا، ولا يقص ظفرًا ولا شعرًا، فكان القمل يتناثر على وجهه، وكان من رآه يهرب منه لسوء منظره، وقبح زيه". فهكذا يكون تزييف التاريخ والعبث به. وعبثهم بالتاريخ كثير وكبير.

وإني أسأل الله أن يوفق حكامنا ليعاملوا هذا الكاتب الظالم كما عامل صلاح الدين السهروردي، اللهم آمين.

ومما تقوم عليه الليبرالية اعتبار الولاء والبراء على أساس الدين موقفًا جاء بناءً على ظروف سياسية واجتماعية معينة قبل خمسة عشر قرنًا، ولم تعد هذه الظروف قائمة الآن، وإنما تغيرت تغيرًا كليًّا، ولذا، يجب عدم الاستعانة مطلقًا بالمواقف الدينية التي جاءت في الكتاب المقدس، فلا حاجة للولاء والبراء ولا للجهاد في سبيل الله، قال أحدهم: "فنحن بحاجة إلى إسلام متصالح مع الآخر، إسلام لا يعرف الكراهية للآخرين من أجل معتقداتهم أو توجهاتهم".

ومن أعظم ركائز الليبرالية الاقتصاد الربوي، وتحريم الربا موضع اتفاق بين الأديان الإلهية كلها، ودخلت الليبرالية إلى الاقتصاد فأباحت الربا، بجميع أشكاله وأنواعه، وهو ما يسمى سعر الفائدة.

والليبرالية ترفض الحكم بالشرع؛ لأن الشريعة تقيد تصرفات الناس، فمن حقوق الإنسان الزنا واللواط، والشريعة تعاقب على ذلك، فلابد من السعي الحثيث لإلغاء تلك العقوبات، ومن حقوق الإنسان حرية الدين، فله الخروج من الإسلام والارتداد، فلابد من السعي لإلغاء حكم الردة أيضًا، وهكذا بقية العقوبات، فهي عُرْضَة للمطالبة بالإلغاء من كل ليبرالي، أو إيقاف تنفيذها على أقل تقدير.

عباد الله: أنقل لكم عبارة لكاتبة سعودية ليبرالية توضح الجرأة التي وصلوا لها، فمما قالته: "لقد تحوّلت المطالبة لتحرير المرأة -بطريقة ما- إلى شعار يمكنه أن يميز الإسلامي من الليبرالي، لكنه من جانب آخر بات يميز بين الصادق والكاذب، بين الليبرالي الحقيقي ومدّعي الليبرالية، ولقد ذهلت مؤخرًا حين علمت أن أكثر مثقفينا تحررًا وأكثرهم سخرية من واقعنا، من ظلمنا لأنفسنا، من ظلمنا للمرأة، هو رجل ظالم متزوج من أربع نساء، وينتقد في كتاباته التعدد وينتقد الخيانة الزوجية".

فالزواج بأربع نساء ظلم وخيانة، يقال هذا في جريدة سعودية سيارة!! والله تعالى يقول: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا) [النساء:3].

الخطبة الثانية:

الحمد لله القائل: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف:40]، والصلاة والسلام على عبده ورسوله.

أما بعد:

فمما سبق يظهر لنا -يا عباد الله- أن الليبرالية لا تتفق مع الإسلام؛ لأن الإسلام يعني التقيد بقيود الشرع، والليبرالية تعني إلغاء كل القيود.

وفي الليبرالية عدة نواقض من نواقض الإسلام؛ منها:

أن فيها استحلال المحرمات مما هو معلوم في الدين بالضرورة كالربا أو الزنا، ومن مفاهيم الليبرالية منع التحريم، فلا يوجد محرمات؛ قال الفقهاء -رحمهم الله-: وإنْ جَحَدَ وجوب العبادات الخمس المذكورة في حديث "بُني الإسلام على خمس"، أو جَحَدَ شيئًا منها -أي من العبادات الخمس ومنها الطهارة من الحدثين- كفر، أو جَحَدَ حِل الخبز واللحم والماء، أو أَحَلَّ الزنا ونحوه كشهادة الزور واللواط، أو أحلَّ ترك الصلاة، أو جَحَدَ شيئًا من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها كلحم الخنزير والخمر وأشباه ذلك أو شك فيه، ومثله لا يجهله.

كفر الشك: فالفكر اللبرالي قائم لا يعتقد عقائد جازمة، فلا يوجد يقينيات، وكل شيء قابل للنقاش والخلاف.

رفض الحكم بالشرع المطهر، واستحلال الحكم بالقوانين الوضعية: وهذا كفر أكبر مجمع عليه: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ) [المائدة:44]، وقال الحق -جل شأنه-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء:65]

وأخيرًا: أنقل جواب سماحة والدنا وشيخنا العلامة صالح الفوزان في الليبرالية؛ حيث سئل: ما قول فضيلتكم في الدعوة إلى الفكر الليبرالي في البلاد الإسلامية؟!

فقال الشيخ: "إن المسلم هو المستسلم لله بالتوحيد، المنقاد له بالطاعة، البريء من الشرك وأهله، فالذي يريد الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي؛ هذا متمرد على شرع الله، يريد حكم الجاهلية، وحكم الطاغوت، فلا يكون مسلمًا، والذي يُنكر ما علم من الدين بالضرورة؛ من الفرق بين المسلم والكافر، ويريد الحرية التي لا تخضع لقيود الشريعة، ويُنكر الأحكام الشرعية؛ من الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومشروعية الجهاد في سبيل الله، هذا قد ارتكب عدة نواقض من نواقض الإسلام، نسأل الله العافية. والذي يقول: إنه مسلم ليبرالي متناقض إذا أريد بالليبرالية ما ذُكر، فعليه أن يتوب إلى الله من هذه الأفكار؛ ليكون مسلمًا حقًّا".
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي