الخطبة هذه عبارة عن فتوى، نطرح فيها مسألة مالية تجارية واقعية، المسألة تقول: هل يجوز تبديل الذهب بالذهب مع دفع الفرق بالسّعر؟ وهل يجوز بيع الذهب بالأقساط؟.
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد: أيها الإخوة المؤمنون: الخطبة هذه عبارة عن فتوى، نطرح فيها مسألة مالية تجارية واقعية، المسألة تقول: هل يجوز تبديل الذهب بالذهب مع دفع الفرق بالسّعر؟ وهل يجوز بيع الذهب بالأقساط؟.
أي: إننا أمام خطبة فقهية، ولا بد لنا بين الحين والآخر من خطب فقهية نتناول فيها بعض أحكام الحلال والحرام، حتى نعبد الله عن بيّنة، وعلى علم.
أيها الإخوة: سنجيب على هذه الفتوى بشرحِ أعظم وأهمّ حديث نبوي في موضوع الربويات، لكن؛ قبل ذلك لنعلم أن البيع الحلال والكسب الحلال يؤثر في حياة المسلم الخاصة وفي حياة أسرته العامة، قال سعد -رضي الله عنه-: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال: "أطِبْ مَطْعَمَكَ تُجَبْ دعوتُكَ".
وعمر -رضي الله عنه- كان يمر بالأسواق، ويسأل الباعة، ويختبرهم في أحكام الربا، والبيع، والكيل والوزن، فإذا وجد جاهلاً أقامه، وقال: "قم، لا تفسد علينا أسواقنا، قم، لا تمنع المطر عنا".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أيما جسم نبت من حرام فالنار أولى به"، والحرام بات يدخل بيوتنا وبطوننا من شتى السبل.
وشاع اليوم في الناس بيع الذهب بالتقسيط وتبديله مع دفع فرق الثمن، وهناك محلات ذهب معروفة للعيان تقوم ببيع الذهب بالتقسيط، وهناك شباب مقبل على الزواج، وقد قرر أن يشتري الذهب لخطيبته بالأقساط.
أيها الإخوة: لنفقه معاً الحديث الصحيح والذي عليه جماع فقه الربا وتطبيقاته: في صحيح مسلم، أن رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، (فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى الآخِذُ وَالْمُعْطِى فِيهِ سَوَاءٌ) فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ".
فما حكم تبديل الذهب بذهب، أو بيع الذهب بذهب، مع دفع الفرق؟.
أيها الإخوة: يدور أصل الربا على الزيادة في الأموال الربوية، وهو نوعان: ربا الفضل، وربا النسيئة.
فربا الفضل: هو الزيادة، وذلك إذا بيع جنس بجنسه مع زيادة في أحد الطرفين، مثلاً: صاع قمح بصاع قمح ودينار فوقه، فهذا هو ربا الفضل، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ"، "فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الآخِذُ وَالْمُعْطِى فِيهِ سَوَاءٌ".
وبناء عليه، ما حكم تبديل الذهب بالذهب؟ صورة المسألة وتقريبها بمثال هي: يذهب شخص مسلم إلى محل الذهب ومعه قطعة من الذهب، مثلا سوار ذهب، فيقول لتاجر الذهب: أريد تبديلها بقلادة ذهب.
فهنا أمامهم طريقان: الأول: طريق حلال يوصل إلى مرضاة الله، وهو أن يبيعه الذهب بالذهب مِثلا بمثل ويدا بيد، بمعنى: يوزن السوار فإذا كان وزنه مثلا [مائتي] غرامٍ فيبيعه به قلادة وزنها [مائتي] غرام بالتمام، بغض النظر عن الجودة.
وأما الطريق الثاني: فهو طريق محرم وتؤدي إلى سخط الله، وهو أن يعطيه قلادة وزنها مختلف على أن يتم دفع الفرق، وهذا يحصل كثيرا بأن يذهب شخص لمحل ذهب ويبيعه خاتما بخاتم آخر مع دفع الفرق.
هذه الصورة من البيع لا تجوز، حرام شرعا؛ لما جاء في سياق الحديث المتقدم: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ... مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ" ،"فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الآخِذُ وَالْمُعْطِى فِيهِ سَوَاءٌ".
ولما جاء في حديث آخر في مسلم: "لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ"، والشفّ هو الزيادة والتفضيل.
وعليه: إذا أردت تبديل ذهب بذهب فلك أن تبدل، بمعنى: تبيع، بشرط أن يكون الوزن نفسه: المشتري له [مائتا] غرام ومن صاحب المحل [مائتا] غرام.
ولكن؛ إذا أرت تغيير ما معك من ذهب وتبديله بوزن آخر مختلف، فعليك أن تعمل الآتي:
أولا: تبيع ما معك من ذهب وتقبض ثمنه مالا.
ثانيا: تشتري بهذا المال نفسه أو بالزيادة عليه ذهباً آخر.
فإذا كان معك سوار ذهب فقم ببيع هذا السوار واقبض ثمنه كاملا، ثم قم بشراء قلادة أخرى أو سوار آخر بهذا المبلغ.
فمثلا: إذا بعت السوار بألف دينار فلك أن تشتري بهذه الألف وبغيرها ما تشاء من الذهب.
وهذا الحكم وهذا الحل الشرعي لعملية تبديل الذهب أو بيعه هو حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لما جاء في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب(نوع تمر فاخر)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أكلّ تمر خيبر هكذا؟"، فقال: لا والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تفعلوا، بِعْ الجمع(نوع تمر رديء) بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً(نوع تمر فاخر). وفي رواية: "لاَ تَفْعَلُوا؛ وَلَكِنْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا".
عباد الله: بقيت المسألة الأخرى: ما حكم استدانة الذهب أو بيعه بالتقسيط؟ هل يجوز أن أذهب لمحل الذهب وأستدين الذهب، أو أدفع له جزءا من المال ويبقى عليّ جزء آخر؟ وهل يجوز بيع الذهب بالتقسيط كما بدا يفشو هذا النوع من البيع بين الناس؟ حيث يذهب بعض المسلمين إلى محل الذهب ويشتري بألف أو بثلاثة آلاف بالأقساط، وخاصة من أولئك المقبلين على الزواج. فهل هذا البيع حلال أم هو ربا وبيع حرام؟.
الإجابة على هذه المسألة نأخذها من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- والذي لا حكم بعد حكمه، فهو يقول -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الحديث المتقدم: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ... مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ... فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ".
ما معنى يداً بيد؟ قال ابن حجر: يدا بيد يعني مقابضة في المجلس. وقيل معناه: خذ وأعط. وقال النووي: وَأَجْمَع العلماء عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوز بَيْع الرِّبَوِيّ بِجِنْسِهِ، وَأَحَدهمَا مُؤَجَّل. وقال النووي كذلك: قَوْله -صلى الله عليه وسلم-: "وَلا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ"، الْمُرَاد بِالنَّاجِزِ الْحَاضِر، وَبِالْغَائِبِ الْمُؤَجَّل، وَقَدْ أَجْمَع الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيم بَيْع الذَّهَب بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْفِضَّةِ مُؤَجَّلا.
وعليه، لا يجوز بيع الذهب ديناً كليا أو جزئيا، فيحرم بيع الذهب بالتقسيط؛ لأنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- اشترط عليك يا مَنْ تبيع الذهب أو تريد شراء الذهب أنْ يحصل التقابض كاملا في محلّ البيع، فقال: يداً بيد، أيْ: سَلّم المبلغ كاملا واستلم الذهب كاملا، فلا يحلّ تأخير سداد الذهب.
فلو اشتريت بخمسة آلاف وبقي عليك مائة دينار لا يجوز أن تخرج من المحل قبل دفعها، ولا يجوز أن تبقى دينا عليك ولو لساعة من الزمان، فإما أن تدفعها وإما أن تشتري بالمبلغ المتوفر معك فقط.
فقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا تبيعوا منها غائباً بناجز"، ناجز أي: حاضر، فالصائغ عنده الحلية حاضرة، فلا يجوز لك أن تشتريها بدين لك على الصائغ، فهذا بيع حاضر بغائب، ولا يجوز التأخير.
وقال النووي في شرحه على مسلم، قَوْله: "نَهَى رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْع الْوَرِق بِالذَّهَبِ دَيْنًا"، يَعْنِي: مُؤَجَّلاً.
فهذه بينة من الشرع، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم...
الحمد لله رب العالمين... والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين...
وبعد: عباد الله، إن المسلم كما يعبد الله في ركوعه وسجوده وصيامه، يعبد الله كذلك في بيعه وشرائه، وفي أكله وشربه، وفي كسبه وإنفاقه.
ألا فاتقوا الله يا أصحاب محلات الذهب، ألا فاتقوا الله يا مسلمين، ألا فاتقوا الله يا مَنْ تُقبلون على الزواج بخاصة، فالصبر على ضيق الدنيا الفانية أهون من الصبر على عذاب الآخرة الدائمة، ولعذاب الآخرة أشد أبقى.
وبركة الله لك في مالك أعظم من تلويث الشيطان لدينك ومالك، وما عند الله خير وأبقى.
نقول هذا، ونفتي بهذا، ونلتزم بهذا؛ حتى يبقى مطعمنا حلالا، ونبني بيوتنا وزواجنا بالحلال؛ فالربا وأكل المال الحرام، يقود صاحبه إلى النار وغضب الجبار.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا ... يا رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي