لقد أوجبت الشريعة على المسلم طلب المال الحلال حتى يستغني به عن ذل السؤال للغير والحاجة للخلق، فطلب الرزق وتحصيله شرف للمسلم، وبه يصون عرضه ويحفظ كرامته، وبه يستعين على كثير من أعمال البر، فنعم... أيها المسلمون: إن للمكاسب المحرمة آثارًا سيئة على الفرد والمجتمع؛ فإنها تضعف الديانة، وتعمي البصيرة، وتمحق البركة في الرزق، وهي من...
لقد جبل الله الإنسان على حب المال، وركّب في الطباع الحرص عليه، ومعلوم أن المال به قوام الحياة وتمام المعيشة وانتظام الأمر، وقد جاء الشرع الشريف بالحث على السعي في اكتساب المال على أنه وسيلة لغايات محمودة ومقاصد مشروعة، وجعل للوصول إليها ضوابط وقواعد واضحة المعالم لا يجوز تجاوزها ولا التعدي على حدودها؛ وذلك لتحقيق المصلحة للفرد والمجتمع.
لقد أوجبت الشريعة على المسلم طلب المال الحلال حتى يستغني به عن ذل السؤال للغير والحاجة للخلق، فطلب الرزق وتحصيله شرف للمسلم، وبه يصون عرضه ويحفظ كرامته، وبه يستعين على كثير من أعمال البر، فنعم المال الصالح للرجل الصالح، وفي الحديث: "اليد العليا خير من اليد السفلى"، وقال الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف: "يا حبذا المال أصون به عرضي وأرضي به ربي".
عباد الله: إن المال الحلال والكسب الطيَّب ينير القلب، ويشرح الصدر، ويورث الطمأنينة والسكينة والخشية من الله، ويعين الجوارح على العبادة والطاعة، ومن أسباب قبول العمل واستجابة الدعاء.
أما الكسب الخبيث فإنه شؤم وبلاء على صاحبه، بسببه يقسو القلب، وينطفئ نور الإيمان، ويوجب غضب الله، ويمنع إجابة الدعاء.
المال الحرام -معاشر الإخوة- مستخبث الأصول، ممحوق البركة، سيئ الصيت، إن صرفه صاحبه في بِرٍّ لم يؤجر، وإن تصدق به لم يقبل، وإن بذله في نفع لم يشكر، وإن دعا وهو في جوفه لم يستجب له، فما أشأمه على صاحبه، وما أشقى صاحبه به!! عليه غرمه ولغيره غنمه، ثم هو بعد ذلك معاقب عليه، وإذا كان التشديد في السؤال يوم القيامة في المال الحلال فكيف بالمال الحرام -أعاذنا الله وإياكم منه-.
قال بعض الحكماء: "شر المال ما لزمك إثم مكسبه، وحرمت أجر إنفاقه".
وروى الطبراني بإسناده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لسعد بن أبي وقاص: "يا سعد: أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عمل أربعين صباحًا، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به". ضعفه في الترغيب وكذا الألباني (1812).
وفي صحيح مسلم "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر رجلاً يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغُذّيَ بالحرام، فأنى يستجاب له!!".
لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة إلى ربه ما يدعو إلى الرفق بحاله والشفقة عليه، لكنه قد قطع صلته بربه، وحرم نفسه من مدد الله وفضله، وحال بينه وبين قبول الدعاء ما هو عليه من استعمال الحرام في المأكل والمشرب والملبس، وماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه وحُجِبَ دعاؤه وحيل بينه وبين رحمة الله!!
لذا كان السلف الصالح -رحمهم الله- في غاية الخوف من أكل الحرام والمبالغة في التحذير منه؛ حتى قال بعضهم: "لو قمت في العبادة قيام السارية ما نفعك حتى تنظر فيما يدخل بطنك!!".
وفي البخاري عن عائشة قالت: "كان لأبي بكر الصديق غلام، فجاء له يومًا بشيء، فأكل منه ثم قال له الغلام: أتدري ما هذا؟! فقال أبو بكر: ما هو؟! فقال: تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه! فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه".
وفي رواية عند ابن القيم أنه قال: "لو لم تخرجه الأمعاء لأخرجتها، اللهم إني أبرأ إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء".
وكانت بعض الصالحات توصي زوجها وهو ذاهب إلى عمله فتقول: يا هذا: اتَّقِ الله فينا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.
وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر مرفوعًا: "من اشترى ثوبًا بعشرة دراهم وفيها درهم حرام لم يقبل الله له صلاة مادام عليه".
عباد الله: إن من العجب أن يحتمي بعض الناس من المرض ولا يحتمون من الحرام مخافة النار، وما ذلك إلا لقسوة القلوب، واستيلاء الغفلة على النفوس، وضعف الإيمان، وقلة البصيرة في الدين.
أيها المسلمون: إن للمكاسب المحرمة آثارًا سيئة على الفرد والمجتمع؛ فإنها تضعف الديانة، وتعمي البصيرة، وتمحق البركة في الرزق، وهي من أسباب حلول المصائب والنكبات وحصول الأزمات المالية المستحكمة والبطالة المتفشية وانتشار البغضاء والشحناء.
ومما يؤسف له أشد الأسف أن في الناس من لا يأبهون لاكتساب المال الحرام وتحصيله بأي طريق كان، وبعضهم لا يكترث من المجاهرة بالمكاسب الخبيثة والاستيلاء على الأموال المحرمة، وأصبحت هذه المسالك شائعة منتشرة في مجتمعاتنا التي فشا فيها الربا والرشوة والغضب والسرقة والمتاجرة بالمحرمات، كالخمور والمخدرات وآلات اللهو والغناء والغش والخداع والاستيلاء على الحقوق والممتلكات وأكل أموال اليتامى والضعفاء من الناس، ومنهم الجنود الذين تؤكل حقوقهم سرًّا وعلانية، واختلاس الأموال العامة والخاصة، وصور مختلفة من الإسراف والبطر والجشع والطمع بلا خوف من الله ولا حياء من الخلق.
حتى لا يكاد يصدق فينا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أو من الحرام".
أين هؤلاء جميعًا من يوم يعرضون فيه على الله تعالى؟! هناك تبلى السرائر: (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)، وأين الذين يأكلون الحرام من قوارع التنزيل من قوله تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ...). وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)، (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أنه ما دخل في المال سحت إلا ذهبت بركته.
أقول ما تسمعون...
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته واعلموا أن من دلائل التوفيق وإمارات السعادة والفلاح للعبد أن يكف عمَّا يشتبه عليه حرصًا على سلامة دينه ورضا ربه: "ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"، وفي الحديث عند الترمذي وغيره: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس".
وقال الحسن: "وما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام".
فاتقوا الله -عباد الله- في أموالكم؛ فإنها عارية عندكم منه -جل جلاله-، فأحسنوا استعمال العارية، ولا تشغلنكم الفانية عن الباقية، ولا يفتنكم من أصبح عبدًا للدرهم والدينار فانتهك محارم الجبار، فإن الله لا تخفى عليه خافية: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ).
وفي البخاري: "إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة".
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك.
وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي