التضحية والفداء

محمد حسان
عناصر الخطبة
  1. الخليل عليه السلام يعلم الأمة التضحية والفداء .
  2. ترك الأوطان والهجرة إلى الله .
  3. الخليل يضحي بفلذة كبده لله .
  4. نماذج من تضحيات الصحابة وأبنائهم .
  5. لا كرامة للأمة إلا بالجهاد والتضحية .

اقتباس

ما أحوج الأمة اليوم وفي هذه الظروف الحرجة التي ذلت فيها هذه الأمة وهانت لأحقر أمم الأرض! ذلت الأمة وهانت لخنازير الأرض من اليهود؛ ما أحوج الأمة اليوم إلى هذا الدرس الكبير، إلى درس التضحية لدين الله -جل وعلا-! فوالله الذي لا إله غيره إن ترك التضحية والبذل لدين الله، وترك هذا الدرس الكبير، سيجعل الأمة ذليلة كسيرة مبعثرة، كالغنم في الليلة الشاتية الممطرة، وستبقى...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى أن لا نعبد إلا إياه، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [الحج:62].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد:

فحياكم الله جميعًا -أيها الآباء الفضلاء وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء-، وطبتم جميعًا وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم -جل وعلا- الذي جمعنا مع حضراتكم في هذا المشهد المهيب الكريم على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أحبتي في الله: عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك هو: هذا يوم التضحية والفداء.

أيها الأحبة الكرام: ما أحوج الأمة في هذه الأيام، وفي هذا اليوم العظيم الكريم أن تتعلم هذا الدرس الكبير -درس التضحية والفداء- من خليل الله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

إن إبراهيم -عليه السلام- قد قدّم للبشرية كلها أغلى وأعلى دروس التضحية والفداء، نعم -أيها المسلمون- إننا اليوم أمام موقف فريد في تاريخ البشرية، إننا أمام موقف من أعظم مواقف الإيمان، وأروع وأنبل مشاهد الطاعة وأعظم لحظات الاستسلام والانقياد لله -جل وعلا-.

أيها الأحبة الكرام: تعالوا بنا اليوم لنتعلم من خليل الله إبراهيم هذا الدرس الكبير من دروس التضحية والفداء، فها هو إبراهيم -عليه السلام- يتضرع إلى الله -جل وعلا- أن يرزقه ولدًا صالحًا بعدما عزم على أن يهجر الوطن والأهل؛ لأن قومه قد أصروا على عبادة الأوثان بعدما رأوا الآية الكبرى والمعجزة العظمى، بعدما نجى الله خليله من النيران، ومع ذلك عزم القوم على عبادة الأوثان، وهنا قال إبراهيم: (إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي) [العنكبوت:26]، وقال: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات:99]، وتضرع إلى الله أن يرزقه ولدًا صالحًا ليعينه على هذا الأمر العظيم، فقال: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات:99-100].

واستجاب الله -جل وعلا- دعاء خليله إبراهيم، فبشره بغلام حليم: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) [الصافات:101]، وتنزلت البشارة على قلب الخليل كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى والأرض العطشى، فطالما تطلع إبراهيم إلى هذا الغلام الذي يشهد له ربه -جل وعلا- بأنه حليم.

تدبر معي -أيها المسلم الكريم- تتابع الأحداث، يقول الله -جل وعلا-: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) [الصافات:102]، لم يكد إبراهيم -عليه السلام- يأنس بولده ويسعد بصباه ويفرح بسعيه معه، إلا ويفاجأ إبراهيم بهذا الابتلاء العظيم؛ إنه يرى أنه يذبح ولده في المنام بيديه! ورؤيا الأنبياء وحي.

إنها التضحية، إنه الإباء، رحماك رحماك يا الله! التضحية بماذا؟! التضحية بالابن الوحيد الذي طالما تطلع إليه إبراهيم -عليه السلام-، إنه الابتلاء الذي لا مثيل له في تاريخ البشر، إنها التضحية التي ترتقي إلى أفق وضيء، تعجز عقول البشر أن تتصوره مجرد تصور فحسب، إنه الفداء الذي يجسد نبل الطاعة، وحلاوة الإيمان، وعظمة الاستسلام لله -جل وعلا-، وبرد اليقين بالله -تبارك وتعالى-.

أيها المسلمون: هل تتصورون هذه اللحظات وإبراهيم -عليه السلام- يقوم لينفذ أمر ربه -جل وعلا- بهذا الغلام البار الحليم، ويقول له: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) [الصافات:102]، فيرد الولد الذي يرتقي هو الآخر إلى أفق قد ارتقى إليه من قبله أبوه -عليهما السلام-، يقول الغلام البار: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات:102].

وانطلق إبراهيم للتنفيذ فعلاً: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات:103]، أي: ألقى إبراهيم الولد على وجهه ليذبحه من قفاه حتى لا تقع عين إبراهيم على عين ولده البار، فتخاطب البنوة الوادعة الحميمة البارة الأبوة الرحيمة الكريمة في قلب إبراهيم، فيتوانى عن تنفيذ أمر رب العالمين -جل وعلا-! وهنا يكون الابتلاء قد تم، ويكون الاختبار قد وقع، وتكون النتيجة قد ظهرت، ويكون إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- قد جاوزا الابتلاء والاختبار الذي ابتلاهما به العزيز الجبار -جل وعلا-، فظهرت العبودية لله، وظهر الاستسلام لأمر الله، والله -جل وعلا- لا يريد من عباده إلا العبودية والاستسلام والإذعان، حتى لا تستبقي النفس لنفسها في نفسها شيئًا ولا تقدم شيئًا على الله ولا على أمر الله -جل وعلا- ولا على نواهيه ولا على حدوده.

وهنا نادى الله -جل وعلا- على إبراهيم: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الصافات:105-109].

سلام على هذا الشيخ الأواه المنيب الحليم الذي وفى، الذي علم الدنيا حقيقة التضحية، وعظمة الفداء لله -جل وعلا-.

أيها المسلمون: إن أولى الناس باتباع إبراهيم هو النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، والموحدون لله -جل وعلا- مع رسول الله، قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) [الممتحنة:4]، وقال تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:67-68].

ما أحوج الأمة اليوم وفي هذه الظروف الحرجة التي ذلت فيها هذه الأمة وهانت لأحقر أمم الأرض! ذلت الأمة وهانت لخنازير الأرض من اليهود؛ ما أحوج الأمة اليوم إلى هذا الدرس الكبير، إلى درس التضحية لدين الله -جل وعلا-! فوالله الذي لا إله غيره إن ترك التضحية والبذل لدين الله، وترك هذا الدرس الكبير، سيجعل الأمة ذليلة كسيرة مبعثرة، كالغنم في الليلة الشاتية الممطرة، وستبقى الأمة قصعة مستباحة لأذل أمم الأرض ولأحقر أمم الأرض، لا سيما ونحن نرى الآن نتنياهو يعلم الأمة التضحية، إن الرجل يضحي الآن لعقيدته بكل سبيل وبكل قوة، لا يحترم في سبيل أمته وفي سبيل عقيدته ميثاقًا دوليًا ولا قانونًا عالميًا، ولا يحترم مجلس الأمن ولا هيئة الأمم ولا أمريكا، لا يحترم إنسانًا على الإطلاق في سبيل هذه الغاية التي نذر نفسه من أجلها. إن الرجل يعلم الأمة -بكل أسف- كيف تكون التضحية، كيف يكون الفداء؟! فما أحوج الأمة الآن في هذا الظرف الحرج إلى هذا الدرس، إلى درس التضحية لدين الله -جل وعلا-! إلى درس الفداء لتنصر الأمة عقيدتها، ولتعلم الأمة عظمة هذه العقيدة، ولتعلم أنها عقيدة غالية تحتاج إلى تضحية، تحتاج إلى بذل، تحتاج إلى إنفاق، تحتاج إلى عطاء.

إننا اليوم -أيها المسلمون- نريد تضحية من الرجال، نريد تضحية من النساء، نريد تضحية من الصبيان، نريد تضحية من الشباب والفتيات، والله ما تحولت الأمة من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم، إلا يوم أن صدقت في إيمانها واعتزت بإسلامها، ونصرت دين ربها، وضحت لهذه العقيدة ولهذا الدين بكل ما تملك، وبأغلى ما تملك، بالنفس والأموال والنساء والأولاد والأوقات والأوطان، ضحت الأمة من قبل بكل شيء.

تدبروا معي -يا شباب الإسلام- هذه النماذج البسيطة لنتعلم دروس التضحية والفداء:

هذا أنس بن النضر -رضي الله عنه- يسمع في غزوة أحد أن رسول الله قد مات، وأن رسول الله قد قتل، فيمر على قوم من المسلمين قد ألقوا السلاح من أيديهم، فيقول لهم: ما بالكم قد ألقيتم السلاح؟! فقالوا: قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال أنس: فما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

واندفع أنس بن النضر في صفوف القتال، فلقي سعد بن معاذ، فقال أنس: يا سعد: والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد، وانطلق في صفوف القتال فقاتل حتى قتل، وما عرفته إلا أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم.

وهذا سعد بن الربيع الأنصاري -رضي الله عنه- يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لـزيد بن ثابت: "يا زيد: ابحث عن سعد بن الربيع بين القتلى في أحد"، يقول النبي لزيد: "فإن أدركته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف تجدك؟!"، أي: كيف حالك؟! وانطلق زيد بن ثابت ليبحث عن سعد بن الربيع الأنصاري فوجده في آخر رمق من الحياة، فقال له: يا سعد: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرئك السلام، ويقول لك: كيف تجدك؟! فقال سعد بن الربيع لـزيد بن ثابت: وعلى رسول الله وعليك السلام، وقل له: إني والله لأجد ريح الجنة، ثم التفت سعد وهو يحتضر إلى زيد بن ثابت، وقال: يا زيد: بلغ قومي من الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكروه وفيكم عين تطرف!

يا شباب: الرجل يفكر في رسول الله في آخر لحظات عمره: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكروه وفيكم عين تطرف!

وهذا عمرو بن الجموح رجل أعرج لا جهاد عليه، قد أسقط الله عنه الجهاد، لكنه يسمع النداء: يا خيل الله اركبي، حي على الجهاد، ويريد أن ينطلق للجهاد في سبيل الله -جل وعلا-، فيقول أبناؤه الأربعة الذين ما تركوا غزوة مع رسول الله؛ يقولون لأبيهم: يا أبانا: لقد أسقط الله عنك الجهاد، ونحن نكفيك، فيبكي عمرو بن الجموح وينطلق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليشتكي لرسول الله وهو يقول: يا رسول الله: إن أبنائي يمنعونني من الخروج للجهاد في سبيل الله، ووالله إني لأريد أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فيلتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عمرو ويقول: "يا عمرو: قد أسقط الله عنك الجهاد"، فقد عذرك الله -جل وعلا-، ومع ذلك يرى النبي رغبة عارمة في قلب عمرو بن الجموح للجهاد في سبيل الله، فيلتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أبنائه الأربعة ويقول لهم: "لا تمنعوه! لعل الله أن يرزقه الشهادة في سبيله".

وينطلق عمرو بن الجموح، لا أقول: يبحث عن النصر، بل يبحث عن الشهادة في سبيل الله -جل وعلا-، ويرزقه الله الشهادة في سبيله، صدق الله فصدقه الله -جل وعلا-.

ويمر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدما قتل فيقول: "والله لكأني أنظر إليك تمشي برجلك في الجنة وهي صحيحة".

وهذا عمير بن الحمام شاب كريم مبارك، يسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر يقول: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض". إي ورب الكعبة يا شباب! إنها جنة عرضها السماوات والأرض! فقال عمير بن الحمام: جنة عرضها السماوات والأرض؟! بخ بخ! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما يحملك على قولك: بخ بخ يا عمير!!"، فيقول عمير: لا والله يا رسول الله، إلا أني أرجو الله أن أكون من أهلها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنت من أهلها"، فأخرج عمير بن الحمام تمرات ليتقوى بهن على القتال، فأكل تمرة، ثم قال لنفسه: والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة، ويلقي بالتمرات ويندفع في صفوف القتال فيقتل؛ لأنه صدق الله -جل وعلا- فصدقه الله -تبارك وتعالى-.

الخطبة الثانية:

أما بعد:

أيها المسلمون: حتى الصبيان، حتى الأطفال، حتى الغلمان ضحوا لله ولدين الله -جل وعلا-! ومن أروع وأعجب ما قرأت ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف، قال عبد الرحمن بن عوف: بينما أنا واقف في الصف يوم بدر إذ التفت عن يميني وعن شمالي، فرأيت غلامين من الأنصار، يقول: فلم آمن بمكانهما. خاف الرجل لوجود هذين الغلامين الصغيرين، يقول عبد الرحمن: فغمزني أحدهما سرًّا من صاحبه وقال لي: يا عم: هل تعرف أبا جهل؟! فقال له عبد الرحمن: نعم، وماذا تصنع بأبي جهل يا ابن أخي؟! فقال له: لقد سمعت أنه يسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولقد عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، يقول عبد الرحمن بن عوف: فتعجبت لذلك! يقول: فغمزني الغلام الآخر وقال لي سرًا من صاحبه: يا عم: هل تعرف أبا جهل؟! فقلت: نعم يا ابن أخي، وماذا تصنع بـأبي جهل؟! فقال: لقد سمعت أنه يسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولقد عاهدت الله -جل وعلا- إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، يقول: فتعجبت! والله ما يسرني أني بين رجلين مكانهما، يقول: فنظرت في القوم فرأيت أبا جهل يجول في الناس، فقلت لهما: انظرا هل تريان هذا؟! قالا: نعم، قال: هذا صاحبكما الذي تسألان عنه! يقول: فانقضا عليه مثل الصقرين فقتلاه!

انقض عليه غلامان، تربى هذا الغلام الكريم هو وأخوه في بيت عرفهم كيف تكون التضحية، وكيف يكون البذل لدين الله -جل وعلا-؛ فانقضا عليه مثل الصقرين فقتلاه، وجرى كل منهما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: يا رسول الله: قتلته، والآخر يقول: بل أنا الذي قتلت أبا جهل، فقال النبي لهما: "هل مسحتما سيفيكما؟!"، قالا: لا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أعطني سيفك"، وقال للآخر: "أعطني سيفك"، ونظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السيفين فوجد دم أبي جهل على السيفين، فالتفت إليهما وقال: "كلاكما قتله". والبطلان هما معاذ بن عمرو بن الجموح ولد ذلكم الرجل الأعرج، ومعاذ بن عفراء.

حتى النساء -أيتها الأخوات الفاضلات-، نريد الآن من النساء التضحية لدين الله -جل وعلا-، حتى النساء ضحين لدين الله.

فهذه خديجة ، وهذه سمية أم عمار، وهذه أم عمارة، وهذه أسماء، كلهن وغيرهن قد ضحين لدين الله -جل وعلا-!

وما زالت الأمة معطاءة، ولا زالت الأمة ولودًا تنجب في كل يوم لهذا الدين من يتمنى أن يبذل نفسه، والله ثم والله إنني لعلى يقين جازم الآن أن من بين يدي من الشباب، بل ومن الشيوخ، بل ومن النساء من يتمنى أن لو نودي اليوم: حي على الجهاد. حي على الجهاد. يا خيل الله اركبي.

والله الذي لا إله غيره لو تبناها زعيم مسلم واحد ونادى الآن في الأمة الولود وقال: حي على الجهاد، يا خيل الله اركبي، والله لرأينا من شباب الأمة ومن شيوخ الأمة ومن نساء الأمة من ينطلق ليسد بصدره فوهات المدافع، ليعلموا كلاب الأرض من اليهود أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ما خلف بنات، ولكن خلف رجالاً يتمنون الشهادة في سبيل الله -جل وعلا-.

والله إننا لنتمنى الشهادة في سبيل الله، وأعلم علم اليقين أن من شباب الأمة ومن شيوخ الأمة ومن نساء الأمة، من يحترق قلبه للجهاد ويتشوق للشهادة، ضاع شرفنا وغيب شرعنا وضاع قدسنا، واحتلت أرضنا وضاع عرضنا؛ فما بقي بعد الآن، نريد التضحية والله بالدماء، نريد التضحية بالدماء لدين رب الأرض والسماء -جل وعلا-.

فهيا أيها الشباب، هيا أيها الرجال، هيا أيتها الأخوات الفاضلات، فلنعاهد الله -جل وعلا- جميعًا من الآن، ولنهيئ أنفسنا للتضحية بالنفس، للتضحية بالمال، للتضحية بالأولاد، للتضحية بالأوقات، للتضحية بأغلى ما نملك لدين الله -جل وعلا-، وبغير هذه التضحية لا عزة لنا ولا كرامة.

والله ثم والله إن الأمة الآن لن يتبقى لها إلا أن تقدم رجالها وشبابها الطاهر الطائع لتضحي ولتنصر عقيدة لا إله إلا الله، ولتنصر دين رسول الله، وسيرى العالم كله، وسيرى خنازير الأرض من اليهود أن أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- يسيرون في كل زمان ومكان على درب النبي، منهم من يحاكي خالد بن الوليد، ومن شبابنا الآن من يتطلع إلى سيرة مصعب، وإلى سيرة معاذ، وإلى سيرة صلاح الدين، وإلى سيرة محمد بن مسلمة، وإلى سيرة سيف الدين قطز.

لا عز للأمة إلا بالجهاد، لا كرامة للأمة إلا بالجهاد، إلا بالتضحية، إلا ببذل الدماء، فهيا أيها المسلمون! لنعاهد الله -جل وعلا- على ذلك، بذلُك لمالكَ تضحية، بذلك من وقتك -أيها الشاب- لتتعلم دين الله ولتعلم دين الله تضحية.

أيتها المسلمة: تربيتك لأولادك على القرآن والسنة وعلى الجهاد في سبيل الله تضحية لدين الله.

أيها الطالب المسلم: اجتهادك في مذاكرتك وتفوقك لتنفع أمتك من موقع المسؤولية تضحية لدين الله.

أيها المسؤول: أيًّا كان منصبك وأيًّا كان موقعك! كرسيك إلى زوال، ومنصبك إلى فناء، فوجه الكرسي ليكون قائدًا لك إلى جنة رب الأرض والسماء، ضحِّ بمنصبك لدين الله -جل وعلا-، لا تستخدم المنصب في تعطيل دين الله أو في الصد عن سبيل الله -جل وعلا-، فوالله إن الكل إلى زوال ولا يبقى إلا الملك -جل جلاله-، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27].

أيها المسلمون: نعاهد الله -جل وعلا- من الآن على أن ينطلق كل والد من هذا المصلى الكريم ويقول لربه: يا رب: هذا أحب أبنائي إليّ قد نذرته لك، ضحّ اليوم بولد من أولادك لله، قل: هذا موقوف لله، ليقرأ القرآن، ليتحرك للدعوة، لينطلق للجهاد بنفسه أو بماله أو بأنفاسه أو بوقته.

نريد تضحية؛ نريد تضحية بالمال، تضحية بالأعمال، تضحية بالأوقات، تضحية بالنساء، تضحية بالأولاد، تضحية لدين الله -جل وعلا-.

وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينصر الإسلام وأن يعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام، اللهم أعز المسلمين، اللهم مكن لدينك يا رب العالمين، اللهم مكن لدينك يا رب العالمين، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود وأعوان اليهود.

اللهم مكن لدينك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تخرجنا من هذا المكان إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور برحمتك يا عزيز يا غفور، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي