الإصابة في فضل الصحابة (1)

خالد بن علي أبا الخيل
عناصر الخطبة
  1. في مدح الصحابة وبيان فضلهم .
  2. منهج أهل السنة في احترامهم واجتناب انتقاصهم .
  3. وجوب الاقتداء بهم .
  4. طَرَفٌ من أخبار جهادهم وبذلهم وعبادتهم .

اقتباس

وقال الشافعي: "هم فوقنا في كُلِّ علمٍ وعقل، ودين وفضل؛ وكُلُّ سببٍ يُنال به علمٌ، أو يُدْرَك به، هُداهم ورأيُهم... أصحاب محمد كالنجوم في الدجى، وكالبَدْرِ في الليلة الظلماء، بهم أعز الله الدين، وأعلى حمى التوحيد المتين، وبصبرهم وجهادهم نشر الله دين الملة، ووحد الأمة، قوم...

الحمد لله على منه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله رفع قدر الصحابة وأعلى لهم المكانة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اختار الله له الثمار المستطابة من الصحابة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه.

أما بعد: إخوة السنة والديانة، اتقوا الله حق تقواه لتفوزوا بأعلى المكانة، وترافقوا خير الصحابة.

أيها المسلمون: القراءة في سيرة الأبطال، ومعرفة خير الرجال، وأفضل الأجيال، تزيد في الإيمان، وتروح عن النفوس، وتبعث الثبات والأمان، وترضي الرحمن؛ فالنفوس لها تشتاق، ولطعمها ولذتها في اشتياق...

فتعالوا إخوتي لترتع النفوس، وتبتهج القلوب، وتسعد الأرواح، نصغي لحديث عن هؤلاء الفضلاء العظماء النبلاء الأولياء الأتقياء، والأصحاب الأصفياء، أصحاب كل ذي وصف جميل، وخلق نبيل.

إنها لمحات وومضات ومحاسن مختارات للصحابة والصحابيات، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

يقول شيخ الإسلام: "ومَن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما مَنَّ الله به عليهم من الفضائل، علم يقينا أنهم خير الخلف بعد الأنبياء، ما كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة".

وقال الشافعي: "هم فوقنا في كُلِّ علمٍ وعقل، ودين وفضل؛ وكُلُّ سببٍ يُنال به علمٌ، أو يُدْرَك به، هُداهم ورأيُهم لنا خيرٌ من رأينا لأنفسنا".

وقال السفاريني رحمه الله:

وليس في الأمّة كالصحابهْ *** في الفضل والمعروف والإصابهْ
فإنّهم قد شاهدوا الْمُخْتَارا ***وعايَنُوا الأسرارَ والأنوارا
وجاهدوا في الله حَتّى بانا *** دينُ الهدى وقد سما الأديانا
وقد أتى في مُحْكَمِ التنزيلْ *** في فضلهم ما يشفيَ الغليلْ
وفي الأحاديث وفي الآثارِ ***وفي كلام القوم والأشعارِ

حبهم، إيمان وبغضهم نفاق، حبهم دين وعقيدة وإشفاق؛ ويجب سلامة الألسنة والقلوب عن سبهم، والقدح فيهم، والتعرض لهم، ولمزهم، أو السخرية بهم.

ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيجب سلامة القلب من الغل والحقد والبغض والعداوة، وسلامة اللسان من الطعن والسب واللعن والوقيعة.

يجب اعتقاد فضلهم، ومعرفة سابقتهم، وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والترضّي عنهم، والكفّ عمّا شجر بينهم، فلا مقام بعد مقام النبوة أعظم من مقام قومٍ ارتضاهم الله لصحبة نبيه، ونصرة دينه.

هم السابقون الأولون، أسعدوا الأمة بإصابة الصواب، وفهم السنة والكتاب؛ وهم أفقه الناس، وأفهمهم، لا يبارون في فهمهم، ولا يجارون في علمهم.
حُبُّ الصحابةِ كُلِّهِمْ لِيَ مَذْهَبٌ *** وَمَوَدَّةُ القُرْبَى بِهَا أتوسَّلُ

قال الإمام الأوزاعي: "إذا رأيت الرجل يتنقص من أصحاب رسول الله فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب الرسول، وإنما أرادوا أن يجرحوا شهودنا ليُبْطِلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة".

وقال الإمام أحمد: "لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساوئهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيبٍ ولا نقص".

وقال الإمام أبو نعيم: "فلا يتتبع هفوات أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزللهم؛ ويحفظ عليهم ما يكون منهم".

أصحاب محمد كالنجوم في الدجى، وكالبَدْرِ في الليلة الظلماء، بهم أعز الله الدين، وأعلى حمى التوحيد المتين، وبصبرهم وجهادهم نشر الله دين الملة، ووحد الأمة، قوم جاهدوا في الله حق جهاده، وعادوا الأعداء؛ تكبدوا المشاق، وتحملوا الصعاب، وهجروا الأوطان، وفارقوا الأزواج والإخوان، والآباء والولدان.

أعلام الملة، أفضل الأمة، وسند الشريعة للأئمة؛ نالوا العزة، والرفعة، والصدق، والبذل والتضحية، والإخلاص، وقول الحق؛ آثروا الباقيات على الملذات الفانيات.

أولئك قومٌ شَيَّدَ اللهُ فَخْرَهُمْ *** فما فَوْقَهُ فَخْرٌ وإنْ عَظُمَ الْفَخْرُ
هُمُ القومُ إنْ قالوا أصابوا وإن دُعُوا *** أجابُوا وإن أُعْطُوا أطابوا وأجْزَلُوا
فما يستطيعُ الفاعلون فعَالَهُمْ *** وإنْ حاولوا في النائباتِ وَأَجْمَلُوا

مناقبهم عالية، ومواقفهم غالية، وتاريخهم معطر، وسبقهم للخيرات مبكر؛ منهم من اهتز له عرش الرحمن، ومنهم من غسلته ملائكة المنان، ومنهم من طار بجناحيه، ومنهم من أنفق ما بين يديه، ومنم الأمين، ومنهم العالم بالتنزيل المبين، ومنهم من سلّم عليه الرحمن، ومنهم من سلم عليهم ملائكة المنان، ومنهم الشهيد، ومنهم سيف الله المسلول، ومنهم الصالح العابد، ومنهم الورع الزاهد، ومنهم العالم بالفرائض، ومنهم الفقيه الرائد، ومنهم العالم بالحلال والحرام، ومنهم صاحب الخدمة، ومنهم صاحب السر، ومنهم القارئ المجاهد، ومنهم الذي تستحي منه ملائكة الرحمن، ومنهم من يهرب منه الشيطان، ومنهم الشجاع الباسل، والشاعر المناضل.

أصحاب رسول الله أكمل الأمة عقلا وعلما، ودينا وعملا، يقول ابن مسعود: "مَنْ كان منكم مُسْتَنَّاً فلْيستَنَّ بمَن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة".

أولئك أصحاب رسول الله، كانوا خير هذه الأمة، وأبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا؛ قوم اختارهم الله لنبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم.

قوم ظهرت فيهم محبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- في العسر واليسر، والمنشط والمكره، فتسابقوا على الذبّ عنه، وناصروه، وعزَّروه، وأجَلُّوه، ووقّروه، وحموه بأبدانهم ودمائهم؛ فلهم مواقف مشرقة، وتضحيات مشرفة، قوم في الليل رهبان، ويترنمون بآيات القرآن، ودموعهم تجري بها العينان.

وفي النهار فرسان يخوضون المعارك، وينزلون الميدان، قلوبهم رقيقة، أفئدتهم عريقة، وتوكلهم حقيقة؛ قوم فازوا بالصحبة، ونالوا شرف الرتبة.

على عقيدتِهِمْ بَنَيْتُ عقيدتي *** وعلى مَحَبَّتِهِمْ فتقْتُ لِساني
أقْفُو طريقَتَهُم وأنهج نهجهم *** دوماً وأَبْرَأُ مِنْ أخي كفرانِ

قوم هم أعدل الناس، وأصدق الناس، وأعلم الناس، وأوثق الناس؛ وهذا أمر مجمع عليه بين الناس، قال بعض السلف: "غبارٌ دَخَلَ في أنف معاويةَ مَعَ رسول الله أفضلُ مِن عمل عُمَرَ بن عبد العزيز رضي الله عن الجميع"، وهم أعبد الناس لرب الجنة والناس.

أين الذينَ بنار حُبِّكَ أرسلوا *** الأنوار بين محافلِ العُشَّاقِ
سكبوا الليالي في أنينِ دُمُوعِهِم *** وتوضّؤوا بمدامعِ العشاق

إخوة الإسلام: تأملوا المواقف التي عاشها -عليه الصلاة والسلام- مع أصحابه الكرام في السراء والضراء، في الشدة والرخاء، فتأملوا: مع مَن قضاها؟ فمنهم طلابه الذين أخذوا عنه العلم، ومنهم جنده الذين حارب بهم أعداءه، ومنهم جلساؤه وأصحاب مشورته، ومنهم الذي يأكل معه ويشرب ويسافر ويذهب، يأنس بهم، ويفرح بهم، يحبهم ويحبونه، يزورهم ويزورونه، فحملوا الرسالة، وبلغوها، وبذلوا نفوسهم واسترخصوها.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمد الشاكرين، وصلى الله وسلم على رسول رب العالمين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومَن تبعهم إلى يوم الدين.

أيها المسلمون: الصحابة هم الجيل الفريد، هم الجيل الوحيد، اكتحلت أعينهم برؤيته، وزكت نفوسهم بدعوته، وحسنت أخلاقهم، وطابت فعالهم، وارتفعت درجاتهم، وبذلوا نحورهم وأموالهم وأنفسهم وديارهم، فتعالوا إخوتي في الله لنأخذ طرفاً من أخبارهم.

الصحابة جمعوا الصفات الشريفة، والمزايا المنيفة، فكانوا سباقين لكل خير في ميدان الجهاد والدعوة والبذل والعطاء والصدقة ونوافل العبادة، فخذ من أخبارهم على عجالة.

تأمل جهادهم: فقد نصروا رسول الله في غزواته وحروبه، في البخاري عن أنس قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار رضي الله تعالى عنهم يحفرون في غداة باردة؛ فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك، فلما رأى ما بهم من التعب والجوع قال -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إن العيش عيش الآخرة *** فاغفر للأنصار والمهاجِره"، فقالوا مجيبين: "نحن الذين بايعوا مُحَمَّدَا *** على الجهادِ ما بَقِينا أبدا"

وفي غزوة بدر الكبرى لما علم الرسول عن مسيرة قريش ليمنعوا عيرهم، فقام أبو بكر فقال "وأحسن"، ثم قام عمر فقال "وأحسن"، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: "يا رسول الله، امضِ لما أمرك الله به، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون؛ ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق! لو سِرْتَ بنا إلي برك الغماد لجالدنا معك من دونها حتى نبلغه". فقال له الرسول خيراً، ودعا له.

ثم قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أشيروا علي أيها الناس؟"، فوقف سعد بن معاذ وقال: والله لكأنك تعنينا يارسول الله! قال أجل؟ فقال سعد: آمنا بك، وصدّقْنَاك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك. فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا أحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، إنا لصُبر في الحرب، صُدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله.

هكذا؛ تحفُّزٌ للمعالي، ورغبة تقودهم إلى العوالي؛ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].

وفي غزوة بدر لما دنا المشركون من المسلمين قال لهم رسول الله: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، قال عمير بن الحمام: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: "نعم"، قال: بخٍ بخٍ! فقال رسول الله: "ما يحملك على قولك: بخٍ بخٍ!"، قال: لا والله يا رسول الله! إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال: "فإنك من أهلها". فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: "لئن أنا حييت حتى آكل هذه؛ إنها لَحَياةٌ طويلةٌ"، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل. رضي الله عنه.

أما بذل الأموال فلهم اليد الطولى، والقدح المعلى، في تسخير أموالهم في الجهاد في سبيل الله، وخدمة دينه، ونصرة نبيه.

فعند أحمد: "ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر"، فبكي أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟!.

وعثمان جهز جيش العسرة بألف دينار ووضعها في ثوب رسول الله فظل رسول الله يقلبها ويقول: " مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ " يرددها مرارا.

وفيهما؛ عن أنس -رضي الله عنه- قال كان أبو طلحةَ أكثرَ الأنصارِ بالمدينةِ مالًا، وكان أحبُّ أموالِه إليه بَيرُحاءَ، وكانتْ مستقبِلَةَ المسجدِ، وكان رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يدخُلُها ويشرَبُ من ماءٍ فيها طَيِّب.

فلما نزلَتْ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). قام أبو طلحةَ إلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقال: يا رسولَ اللهِ، إن اللهَ تعالى يقولُ في كتابِه: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). وإن أحبَّ أموالي إليَّ بَيرُحاءَ، وإنها صدقةٌ للهِ، أرجو برَّها وذُخرَها عِندَ اللهِ، فضعْها يا رسولَ اللهِ حيثُ شِئتَ، فقال: "بَخٍ! ذلك مالٌ رائِحٌ! ذلك مالٌ رائِحٌ! قد سمِعْتُ ما قلتَ فيها، وأرى أن تجعلَها في الأقرَبِينَ". قال: أفعَلُ يا رسولَ اللهِ، فقسَمها أبو طلحةَ في أقاربِه وبني عمِّه.

وأما في سبقهم للطاعات، وسائر العبادات، ونوافل القربات، فلا يُشَقّ لهم غبار، ولا يلحق مسار، (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح:29]، فهم المتعبدون حقا، والصادقون لربهم صدقا، وهم أهل ذل وافتقار، وإخلاص وانكسار.

وقُلْ خَيْرَ قولٍ في الصحابة كُلِّهِمْ *** ولا تَكُ طعَّانَاً تَعِيبُ وتَجْرَحُ
فقد نطق الوحْيُ الْمُبِينُ بِفَضْلِهِمْ *** وفي الفتْح آيٌ للصَّحَابَةِ تمدح

هذا؛ وللحديث عنهم وفضلهم رضي الله عنا وعنهم بقية بإذن الله.

أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرضى عن الصحابة أجمعين...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي