قلب الإنسان، تلك المضغة التي يدور حولها صلاح الإنسان وفساده، لا بد لها من متعلَّق؛ فمن تعلَّق قلبه بنفيسٍ كان نفيساً، ومن تعلَّق قلبه بخسيس كان خسيساً، وما كان... وعندما تغادر بيتك والظلام يلفك وسكون الليل يحسب خطواتك، وربما وجدت وحشة لقلة السالكين؛ تتذكر...
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله؛ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ؛ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعدُ: فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحـدثاتُها، وكلَّ محـدثةٍ بدعــة، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها الأحبة في الله: قلب الإنسان، تلك المضغة التي يدور حولها صلاح الإنسان وفساده، لا بد لها من متعلَّق؛ فمن تعلَّق قلبه بنفيسٍ كان نفيساً، ومن تعلَّق قلبه بخسيس كان خسيساً، وما كان نفيساً ارتفع، وما كان خسيساً وُضِع، ولا يهلك على الله إلا هالك.
والقلب النفيس -أيها الأحبة- همته العلو ومن في الملأ الأعلى، حيث المتعة التي لا تزول ولا تحول؛ والقلب الخسيس همته دنيئة لا تتعدى لُعَاعَةً من الدنيا عن قريب تزول. ولو تأملنا فلن نجد أنفس من التجارة مع الله والقربِ منه.
وكلٌّ يدعي التعلق بالله والقربَ منه، ولكن الدَّعَاوى تحتاج إلى بينات، وإن لم يُقم أصحابها تلك البينات فهم أدعياء، ودليلُ ذلك التعلقِ والقربِ من الرب التعلقُ ببيوته، وهي المساجد، فمن رأيته دائم الصلة بالمساجد، يأنس بالقرب منها والمُكثِ فيها، فهو من المتعلقة قلوبُهم بالله، وهم أهل القرب منه؛ ومن لم يكن كذلك فما زاد على أن كَذَبَ على نفسه وأوهمها غير ما هي عليه، وكان من الأدعياء.
ومن كان على حال من القرب من المساجد والتعلق بها؛ فهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، حيث قال الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر من هؤلاء السبعة: "رجلٌ قلبه معلق بالمساجد".
وكم لهذا اللفظ من إيحاء! فهو يعطيك معنى زائداً، وهو أن هذا الرجل مع الناس بجسده؛ لكنَّ قلبَه في بيوت الله يرتع ويستروح عبق الذكر والتلاوة والصلاة، ما أزكى تلك القلوب! وما أطيبها! نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم؛ إنه جواد كريم.
ومن تعلق قلبُه بالمساجد -أيها الجمع الكريم- فقد تعلق بأحب البقاع إلى الله؛ لأنه إن كان في بيت الله فهو بين صلاة وذكر وقراءة للقرآن، وهي من الأعمال الفاضلة عند الله، وبها تطيب حياة المسلم، ومن كان كذلك فالمساجد سلوته، وهي ملاذه عند الخوف.
"ومن غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح"؛ بل: "إن الله ليتبشبش لمن توطَّن المساجد كما يتبشبش أهل الغائب لغائبهم"، ومن استشعر هذه المعاني لا يُلام لو علَّقَ القَلْبَ ببناءِ مَحبُوبِه ورسومِه.
ولو نظرنا -أيها الأحبة في الله- في قوافل المتعلقة قلوبهم ببيوت الله فسنجد أن في مقدمهم حبيبَ الله وخليلَه محمداً -صلى الله عليه وسلم-، حتى إنه ليجعل من المسجد ديوان حكمه؛ ففيه تساس الدولة، ويقضى بين الناس، ومنه تخرج السرايا والجيوش.
وبكلمة جامعة: ما صيغت أعظم دولة في الوجود منذ خلق الله الخلق وحتى يفنيهم، وهي دولة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- إلا من خلال المسجد.
وبلغ من تعلق النبي -صلى الله عليه وسلم- ببيت الله أنه لا يكاد يسمع: حي على الصلاة؛ إلا وتجده ملبياً لذلك النداء، حتى إن عائشة لتقول: "وكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه".
بل إنه في مرض موته يتوضأ عدة مرات لكي يخرج للمسجد؛ فلا تُسعفه صحته بذلك، وكانت وصيته الخاتمة:"الصلاةَ الصلاةَ! وما ملكت أيمانكم!"، ولا يوصي الإنسان في آخر حياته إلا بأهم الأشياء، ولا أهمَّ من الصلاة في الإسلام بعد الشهادتين.
لكن؛ أين أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن يدعي حبه عن وصيته هذه؟ كيف فرطوا فيها ولم يقدروها حق قدرها؟ ألم يعلموا أنها أولُ الحساب؟ فإن قبلت قبل سائر العمل، وإن ردت فلا تسل عن ضيعة من ضيعها، ولا يظلم ربك أحداً.
وعندما نسرح بالطرف في الغابرين وفي الحاضرين، نجد لهم مع المساجد والصلاة عجباً؛ فلعلكم سمعتم أنَّ من السلف من يؤتى به يهادى بين الرجلين من المرض حتى يقام في الصف، وربما مات ولم يتم الصلاة.
وفيهم وفينا من مات ساجداً وقائماً وراكعاً، وهناك من الناس من يلقب بحمامة المسجد لكثرة بقائه في بيوت الله.
واسمعوا لهذه الكلمة، وإني لأتعجب منها حتى وقتي هذا، وهي للربيع بن خيثم -رحمه الله- حيث يقول: إني لآنَسُ بصوت عصفورِ المسجد أشدُّ من أنسي بزوجتي!.
ومن السلف من يقول: إذا أذن المؤذن ولم تجدوني في المسجد؛ فاطلبوني في المقابر. وهناك من السلف من مكث أربعين سنة لا يؤذن المؤذن إلا وهو في المسجد.
وهنا؛ في هذا العصر، وفي هذه الأيام مَن يمشي زحفاً حتى يصل إلى المسجد، وهنا أعمى قد مد حبلاً من بيته إلى المسجد لأنه لا يجد من يقوده للمسجد، ولا يريد أن تفوته الصلاة، وغير ذلك كثير، وكلها يترجم الرغبة في القرب من الله، وذلك بالتعلق ببيوته في الأرض، المساجد.
ولا ريب أنهم على خير، وفي خير، وإلى خير، وأولئك هم المفلحون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم إنا نسألك أن تزكي نفوسنا أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وحجة الله على الهالكين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فيأيها الأحبة في الله، اعملوا واقتربوا من ربكم قبل أن يحال بينكم وبين ذلك بالموت، حينها لا تنفع الندامات، ولو سُئل من مضى: ما تتمنى؟ لقال: ركيعاتٍ أتقرب إلى الله بها.
ولَركعتان في ميزان العبد أحب إليه مما طلعت عليه الشمس.
فها هي الصلاة بين أيديكم خذوا منها نهمتكم، وارووا بها عطش قلوبكم؛ وها هي بيوت الله مشرعةً تناديكم؛ تقلبوا فيها؛ ستجدون وحشة منها في بداياتكم، ولكن بالمداومة ستتحول تلك الوَحشة إلى أنس ورغبة في الازدياد.
أيها الجمع الكريم، عفروا الوجوه والجباه لربكم؛ لتزدادوا عزاً وقرباً واستغناء عن الناس، وتذكروا أن هناك من حيل بينه وبين السجود لشلل أو مرض ويتمنى لو دفع كل ما يملك من أجل أن يعفر الوجه لربه، وما كنا نسمع به من تلك الأحوال أصبحنا نراه من خلال وسائل البث المختلفة، وفي ذلك عبرة وحجة على من رزقه الله الصحة والعافية ولا زال معرضاً عن بيوت الله وعن الصلاة.
فيا خيبة من سمع حي على الصلاة حي على الفلاح، ولا تراه في جموع المصلين القائمين بين يدي ربهم! سحقاً لهم ثم سحقاً! إنهم -والله!- في حرمان لا يعدله حرمان.
إنه -أيها الجمع- لا أخبث نفساً ممن قام من نومته ولم يؤدِّ فريضة الله الفجر، لقد قام معقوداً بعقد الشيطان الذي قد بال في أذنيه؛ وإنك -والله!- لترى بوادر سخط الله في وجوههم، ولقد انتقلت تلك العادة من شباب المسلمين إلى شيبهم، فما عادوا يُرون في المصلين لصلاة الفجر، وهذه -والله!- مصيبة.
إن القيام لصلاة الفجر ومجافاةَ الفراش أمر شاق وقل من ينجح فيه، لكن من قدم رضا الله ونظر إلى محاب الله في ذلك الأمر سهل عليه، وانقلبت تلك المشاق إلى لذة.
وعندما تغادر بيتك والظلام يلفك وسكون الليل يحسب خطواتك، وربما وجدت وحشة لقلة السالكين؛ تتذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بشر المشَّائين في الظُّلَمِ بالنور التام يوم القيامة"؛ فيزول عنك ذلك.
إنك لتجد لذة تتمنى حيالها لو أن البشر قد أدركوا ما أدركت لتطمئن قلوبهم، بل إن نعال المصلين للفجر عند المساجد أجمل من تيجان الملوك على رؤوسهم؛ إنها قلوب وشخوص عشقت المشقة وفارقت الراحة لترضي ربها، وكأنها تقول:(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّي لِتَرْضَى) [طه:84].
لذا؛ لا تعجبوا عندما تسمعون قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله".
فانطلقوا يا أهل الفجر، انطلقوا إلى رضوان الله، انطلقوا إلى مغفرة الله، انطلقوا إلى رحمة الله، انطلقوا يا أهل الفجر مباركين قد بدلت سيئاتكم حسنات، فنعم -والله- ما أنتم فيه وما أنتم عليه!.
انطلقوا يا أهل الفجر؛ فلن يسبقكم أحد إلا من عمل مثل ما عملتم، يا أهل الفجر: رفعت أعمالكم، قد بدئت بالصلاة، وختمت بالصلاة، ووالله! لن يسألكم الله عن أمر بينهما... لكن؛ يا ويح من سأل الله عنه فقيل بدأ يومه بمعصية! وليست -والله- أيّ معصية! إنها المعصية المكفرة، وهي ترك الصلاة، وليست أي صلاة! إنها صلاة الفجر، أعظم الصلوات، (إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) [الإسراء:78].
والله لو اطمأنت قلوبنا بالإيمان ما فوتنا فرضاً واحداً! بله صلاة الفجر، وإن الإيمان ليصنع صاحبه، فأحد ممن أسلموا حديثاً وعرف قدر الصلاة لم يجد من يوقظه لصلاة الفجر أو يعينه عليها؛ لأنه بين قوم كافرين؛ فكان إذا أراد النوم شرب من الماء كثيراً حتى يضطر -أكرمكم الله- للقيام للذهاب لقضاء الحاجة؛ ومن ثم يدرك صلاة الفجر، وهذا لا يكون إلا من أصحاب القلوب الحية!.
وهنا أقول: من خلال صلاة الفجر تدرك حياة قلبك من موته؛ فمن صلى الفجر فقلبه حي ومن فاتته الفجر؛ فقلبه في الأموات.
الله نسأل أن يصلح قلوبنا، وأن يبصرنا بما ينفعنا، وأن يجعلنا ممكن أراد بهم الخير؛ إنه جواد كريم.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه؛ امتثالاً لأمـر ربكم القائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صـل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصـر عبادك الموحدين في كل قطر يا رب العالمين.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، وأرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه، والباطل باطـلاً وارزقهم اجتنابه، اللهم ارزقهم البطانة الصالحـة الناصحـة، وأبعد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
فاذكـروا الله يذكـركم، واشكروه على عموم نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي