هذا الدين وهذا الشرع توحدت به الصفوف، والتفَّت عليه القلوب، أنقذ الله به الأمة من مهاوي الرذيلة إلى مشارف الفضيلة، ونقلها من الذُّل والاستعباد والتبعية إلى العزَّة والكرامة والحرية، دين الأمن والأمان، وشريعة العدل والرحمة، دين... في مدينة لاهاي انعقد عام 1937م مؤتمر دولي للقانون المقارن دعي إليه مندوبون من الأزهر من كبار العلماء، وقد سجَّل المؤتمر في نهايته: "اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا من مصادر التشريع العام، وأنها حية قابلة للتطور، وأنها شرع قائم...
لقد أكرم الله هذه الأمة المرحومة التي هي خير أمة أخرجت للناس، أكرمها بخاتم النبيين وخاتمة رسالات السماء التي تضمنت الرسالات وزادت عليها، ليكون الدين كاملاً لا يعتريه النقص بوجهٍ من الوجوه: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ).
هذا الدين وهذا الشرع توحدت به الصفوف، والتفَّت عليه القلوب، أنقذ الله به الأمة من مهاوي الرذيلة إلى مشارف الفضيلة، ونقلها من الذُّل والاستعباد والتبعية إلى العزَّة والكرامة والحرية، دين الأمن والأمان، وشريعة العدل والرحمة، دين أكمله الله فلن ينقص أبدًا، ورضيه فلن يسخط عليه أبدًا (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ).
قال سيد قطب -رحمه الله- في تفسيره الظلال عند قوله تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ): الأعلون سندًا، الأعلون مبادئ، الأعلون منهجًا، فمبدؤكم المبدأ الأصيل، وقرآنكم القرآن الجليل، وسندكم الرب الفضيل، فكيف يهون مَنْ كان الله سنده، وكيف يهون مَنْ كان الله ربه ومولاه، وكيف يهون مَنْ كان رسوله وقدوته محمد –صلى الله عليه وسلم-، وكيف يهون مَنْ كان دينه الإسلام؟!!
لذلك كان من حق هذه الأمة أن تفخر بهداية الله لنا لهذا الدين، وتفخر بتنزيل هذا القرآن عليها، وتفخر بهذا الرسول الكريم الذي جعله الله رحمة مهداة، حقَّ لنا أن نفخر ونشعر بالجلالة والنبل أن صيرنا الله من أمة القرآن ومحمد خير الأنام.
ومـما زادنـي شرفًا وتيهًا *** وكدتُ بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيِّرت أحمـد لي نبيًا
أيها المسلمون: إن دين الله وشريعته هي المنهج الحق الذي صان الإنسانية من الزيغ، وجنبها مزالق الشر ونوازع الهوى، جاء ليقيم الحياة البشرية التي أعوجت بالخروج عن منهج الأنبياء في مناهجها المختلفة العملية والعلمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، يقيمها على صراط مستقيم، فجاءت شريعة الله موفية بكل تلك الجوانب على أكمل وجه، إما نصًّا أو استنباطًا بما يقيم العدل في الأرض ويحقق بها مصالح العباد في المعاش والمعاد، قال تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)، وقال: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ).
لقد كتب الله لهذه الشريعة الخلود والبقاء دون الشرائع السابقة التي هي محدودة وموقوتة لأقوام معينين في فترة زمنية خاصة، لهذا لم يتكفل الله بحفظها، إنما استحفظ عليها أهلها، فدخلتها أيدي التحريف والتعطيل والتبديل، وعندما بلغت البشرية طورها الأخير، وعلم الله -جلَّ شأنه- أنها أصبحت صالحة لأن تتنزل عليها الرسالة الخاتمة الأخيرة، بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليكون رحمة للعالمين، ولتكون رسالته صالحة لكل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، فهي الشريعة التي تكفل الله بحفظها بنفسه وحفظ مصدرها ودستورها؛ قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
أيها المسلمون: إن الشريعة الإسلامية بهذا الشمول وبهذا الخلود أعطت نموذجًا واقعيًا في قدرتها على صلاحية التطبيق في كل زمان ومكان، وشهد لها التاريخ الطويل التي حكمت فيه ثلاثة عشر قرنًا من الزمان في مختلف أقطار المعمورة ومختلف أمصارها، ولاقت بلادًا شتى، منها العريق في الحضارة، ومنها الغريب في البداوة، والمتوسط بينهما، وواجهت أنظمة متفاوتة مالية وإدارة وسياسية واجتماعية، كما واجهت أحداثًا غريبة ومشكلات جديدة، فلم يضق أفق الشريعة عن إيجاد حلول مناسبة ملائمة لكل تلك المشكلات والوقائع، مستمدة من نصوصها وأصولها، مقتبسة من روحها ومرونتها ومبادئها العامة، للأئمة المجتهدين خلال مسيرة التاريخ، فكانت تحتوي على ثروة فقهية ضخمة لا مثيل لها، وفيها يجد كل بلد أو ظرف أيسر الحلول لمشاكله؛ قال تعالى: ( َقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).
نفعنا الله وإياكم بالقرآن العظيم.
هذا، وصلوا وسلموا...
إننا إذا جئنا نتحدث عن عظمة هذا الدين وشمولية هذه الشريعة الغرَّاء ومضامينها فإننا نتحدث عن بحر لا ساحل له، فهو يحتوي على كنوز لا حصر لها، والأمر أعظم من ذلك فعلاً، لكن هنا –اختصارًا- سأشير إلى شهادتين لصحة القضية.
الأولى: شهادة الخالق العظيم الذي لا تخفى عليه خافية، وهو ينبئ عن عظمة هذا الدرس؛ قال -جلَّ شأنه-: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
الثانية: شهادة الغربيين والمؤتمرات العالمية حول الشريعة وصلاحيتها وشموليتها، والصواب ما شهد به الأعداء؛ يقول الدكتور إيزكو إنساباتو: "إن الشريعة الإسلامية تفوق في كثير من بحوثها الشرائع الأوروبية، هي التي تعطي للعالم أرسخ الشرائع بتاتًا".
يقول الأستاذ شبرل عميد كلية الحقوق في فيينا في مؤتمر الحقوق سنة 1927م: "إن البشرية لتفخر بانتساب رجل كمحمد -صلى الله عليه وسلم- إليها؛ إذ إنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أن يأتي بتشريع سنكون –الأوروبيين- أسعد ما يكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة".
يقول المؤرخ الانجليزي ويلز في كتابه معالم تاريخ الإنسانية: "إن أوروبا مدينة الإسلام بالجانب الأكبر من قوانينها الإدارية والتجارية".
يقول الفيلسوف العالمي برناردشو: "إنني دائمًا أحترم الدين الإسلامي غاية الاحترام؛ لما فيه من القوة والحيوية، فهو وحده الدين الذي يظهر لي أنه يملك القوة المحولة، ويتمشى مع مصلحة البشر في كل زمان".
أما المؤتمرات والمحافل الدولية فمن شهادتها:
في مدينة لاهاي انعقد عام 1937م مؤتمر دولي للقانون المقارن دعي إليه مندوبون من الأزهر من كبار العلماء، وقد سجَّل المؤتمر في نهايته: "اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا من مصادر التشريع العام، وأنها حية قابلة للتطور، وأنها شرع قائم بذاته ليس مأخوذًا عن غيره".
وفي سنة 1950م عقد مؤتمر بكلية الحقوق بباريس تحت اسم أسبوع الفقه الإسلامي، اشترك فيه جماعة من الحقوقيين العرب ومن المحامين الفرنسيين، وقد دارت المحاضرات حول إثبات الملكية والاستملاك للمصلحة العامة، والمسؤولية الجنائية ونظرية الربا في الإسلام، وتأثير المذاهب الإسلامية الاجتهادية على بعضها، وكانت المحاضرات باللغة الفرنسية، ويفتح النقاش بعد كل محاضرة، وفي خلال بعض المناقشات وقف نقيب سابق للمحامين في باريس فقال: "أنا لا أعرف كيف أوفق بين مَنْ كان يحكي جمود الفقه الإسلامي وعدم صلاحه أساسًا تشريعيًا يفي بحاجات المجتمع العصري، وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ومناقشاتها، مما يثبت خلاف ذلك تمامًا ببراهين النصوص والمبادئ". ثم خرج المؤتمر بنقاط منها:
"أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية، وأن الفقه الإسلامي تمكن أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة". شريعة الإسلام للقرضاوي 97-101.
أيها الإخوة: إننا حينما نسوق مثل هذه الأمثلة والشهادات الغربية وغيرها نريد أن نؤكد بشهادة الأعداء والخصوم، وأن ما عندنا من الشريعة والثروة الفقهية وهذا الدين الذي اختاره لنا الله وللعالمين، وأن عندنا ما نفخر ونعتز به، ويجب أن يكون انتماؤنا إليه انتماءً عقائديًا قناعيًا ثابتًا، فنجهر بذلك ونرفع الصوت به أنه دين رب العالمين.
فأين الشريعة الغرَّاء في واقعنا وحكوماتنا؟! فأين هذا الدين من أولئك الذي يعرضون الإسلام لبيع مخيف ينطوي على الرجعية والتخلف؟! وأين هذا من أولئك الذين فصلوا الإسلام عن الحياة والحكم بحجج ليس لها أساس من الصحة؟!
إن الإسلام يجب أن يحكم وأن يسود الحياة ليتحقق المعنى الذي أنزل من أجله في إقامة الحياة والعدل والمساواة والسعادة، إنه نورٌ يضيء العالمين لمن أخذ به (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ).
إن المرء ليعجب أشدّ العجب من حثالة الغربيين وأذيال المستعربين من العلمانيين العرب وغيرهم الذين يصفون الإسلام والصحوة الإسلامية بالإرهاب والإسلام السياسي؛ ليخيفوا الغرب ومناطق النفوذ فيه من صحوة الإسلام القائمة والقادمة.
لماذا يضع الحكام وأتباعهم من العلمانيين الحاقدين على الدين أيديهم في أيدي اليهود والنصارى لمحاربة الإسلام المتمثل في الصحوة الإسلامية والحركات الإسلامية التي تمثل طلائع الإسلام الحاملين له اليوم، وتجريدهم حتى من أبسط حقوقهم؟!
ماذا تقول على أولئك المتربعين على السلطة يتفقون مع الإسرائيليين والأمريكان ضد حركة الإسلام والمجتمع الإسلامي بكل جرأة، يضعون أنفسهم في معسكر العداء للدين والصحوة، بل ويدعون جهارًا ونهارًا بالاعتراف باليهود.
إنه واجب علينا أن ننكر ذلك كله وأن نفخر بديننا الحنيف، ونعمل على حمله وتبليغه والدعوة إلى تحكيمه في مناحي الحياة كلها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ).
هذا وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي