هذه مواعظ الأيام! تذكُّر أيام الضلال، والفرقة، والفقر؛ ذَكَّر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابته فتغيرت بأمر الله حالهم لما أراد الله للقوم عزاً وسؤدداً؛ وربُك...هذه حالنا، وهذه سنة الله في خلقه، فقد آن الأوان لنتبصر في أمرنا، ونسعى في بقاء أمننا، ونحذر حيل المتلاعبين في عقولنا، حينما يملون علينا أساليب للتغيير، وطرقاً...
الحمد لله رب العالمين ...
أما بعد: فقد خلق الله النفس البشرية، وجعلها متقلبة، تقبل أحياناً على ربها فكأنها تعاين أمور الغيب، وترى منازل السعداء، ومدارك الأشقياء.
ثم سرعان ما ينغلق إقبالها، ويدبر نشاطها، فها هو الإنسان ذو الهمة العالية كَلٌّ على نفسه، قد ملَّ الخير، وبردت رغبته عن المسابقة فوجد في الدعة والغفلة مستراحاً له. هذه حقائق نفسية؛ فالإنسان في صراع مع نفسه.
والقرآن العظيم، كلام رب العالمين، لم يترك هذه الحقائق ليواجهها الإنسان وحده؛ فالله تعالى يعظ عباده: (إن الله نِعِمَّا يعظكم به) [النساء:58]، (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً) [النور:17].
وقد تنوعت مواعظ القرآن التي يرجى منها أن تكون مُصلحة لحال هذا الإنسان، (إنه كان ظلوما جهولا) [الأحزاب:72].
ألا إن من مواعظ القرآن تذكير الإنسان بسابق عهده، وسالف أيامه؛ ليدرك أن تغيره دليل على ضعفه، وقلة حيلته: (لتركَبُنَّ طبقاً عن طبق) [الانشقاق:19].
هل قدر لك أن تعيد شريط الذكريات في حياتك قبل خمس سنين أو عشر أو عشرين أو خمسين أو ستين أو أكثر من ذلك؟.
بطبيعة الحال؛ بدنك ليس هو بدنك الآن، وجسمك تغير تغيراً لا تشك فيه.
ولكن؛ أهم من هذا كله تغير الأحوال، وتبدل الأفكار، وتغير مجريات الحياة، ولكل زمن لبوسه، وسبل عيشه، وثقافة أفراده، وقناعات مجتمعه.
إن مما تصلح به النفوس استرجاع الماضي تفكراً وتأملاً، ذهبت الأيام، وبقي منها الذكريات والأحلام.
(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) [الأنفال:26].
فالشكر من أسباب تحصيله معرفة الحال الماضية، وتذاكر ما سلف في الأيام الخالية: كيف بدل الله الحال؟.
فالجميل في تلك الأيام حقه أن يشكر الله عليه حينما أكرمنا الله واختارنا محلا لنعمته، ومنزلا لفضله، وضد ذلك هو محل شكر الله أيضاً حيث تبدلت تلك الأيام الصعاب، ولم تدم ساعة العسر، فهي إلى انقضاء وانقلاب.
وشعيب -عليه السلام- يقول لقومه: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثَّرَكُمْ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) [الأعراف:86].
إذن؛ تؤدبنا أيامنا الماضية، فنعرف من خلالها قيمة نعمتنا الحاضرة، فلا نزال نشهد آلاء الله علينا، ونرى من خلالها لطف الله بنا، (فبأي آلاء ربكما تكذبان) [الرحمن:13، ...].
هذا النهج التربوي الرباني نجده أسلوباً تذكيريا في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد أخرج الشيخان عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فجمع الأنصار في مكان خاص، ثم خطبهم، فقال: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضُلَّالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟"، كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمَنّ.
هذه مواعظ الأيام! تذكُّر أيام الضلال، والفرقة، والفقر؛ ذَكَّر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابته فتغيرت بأمر الله حالهم لما أراد الله للقوم عزاً وسؤدداً؛ وربُك (كلّ يوم هو في شأن) [الرحمن:29].
وفي أخبار جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما هاجر هو ومن معه بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لأرض الحبشة فراراً من الضيم الذي لحقهم في مكة، سافروا إلى قارة أخرى راكبين البحر، ماذا يريدون؟ يريدون الأمن على دينهم، والسلامة في أبدانهم.
الله أكبر! ما أعز الأمن! يسافر من أجله، وتترك الأوطان بحثاً عنه.
فأين الذين يعيشون الأمن ثم يدفعونه بأيديهم بتعاطي أسباب زعزعته، والتمرد على مقوماته؟! اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك!.
سافر جعفر ومن معه ووصلوا إلى الحبشة وعلم بهم النجاشي ملك الحبشة في قصة طويلة، والشاهد منها أنه دعاهم، واجتمع بهم، فكان من سؤاله لهم أن قال: ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية، ولا نصرانية!.
فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلعَ ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان.
وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء؛ ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات؛ وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
فصدقناه، وآمنَّا به، واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشركْ به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا.
فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث.
فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
ثم قرؤوا عليه شيئاً من أول سورة مريم، فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى ابتلت مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم.
ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، فكان لقاؤهم بالنجاشي فرجاً وقوة لهم. رضي الله عن جعفر ومن معه من الصحابة.
أما النجاشي فهو في عداد الصحابة الذين أسلموا ولم يروا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو من المخضرمين.
ولقد صلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الغائب لما توفي، ووصفه بالملك الصالح، فرضي الله عنه ورحمه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
فلم تخل بلد من سابقة لها في التاريخ، فالأيام دول، والتاريخ موجود شاهد لمن استشهده، وناطق لمن استمع له، وعظات لمن اتعظ به.
وليس بين الله وأحد من خلقه نسب ولا سبب إلا سبب التقوى، ولم يعط شعب أماناً إذا حادوا عن الطريق المستقيم؛ (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) [الأنعام:44].
(أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون) [الأعراف:100].
ونحن في هذه البلاد لسنا بمعزل عن سنن الله في تغير الأحوال وصروف الدهر، وتاريخنا الحديث، وما أدركه أجدادنا القريبون، وآباؤنا الأدنون فيه عبر وآيات للسائلين!.
فحق على الناشئة والشباب أن يسألوا عن تاريخ آبائهم ليعرفوا أنهم ليسوا شعب الله المختار، فالنعم التي هم فيها والأمن الذي ينعمون به كان عند غيرنا، فتحول إلينا ثم هو عازم أن يتحول عنا إن تحولنا عنه، وفرطنا في أسباب حفظه، ولم نقيده بشكره.
اسألوا، يا أيها الذين تفيّأتم نعم الله، كيف كانت صعوبة لقمة العيش في هذا البلد وعلى هذه الأرض التي نحن عليها؟.
ما قصة الذين يعملون أجراء من آبائنا، وأجرتهم قوتهم فقط، لا مزيد لينتظر، ولا فائض ليدخر.
بل هناك من يعمل بنصف قوته، فإن كان قوته بالرغيف فليس له عند مستأجره إلا نصف رغيف!.
ثم اسألوا عن الذين تركوا بلادهم وخرجوا من بيوتهم مودعين أهليهم، مستودعين ربهم ذريتهم يتطلبون الحياة فأرضهم أرض جوع وكربة، ويرجون بأسفارهم سد حاجة وفرجة، خرجوا مسافرين من هذه البلاد إلى بلاد هي الآن مضرب المثل في الفقر والعوز! وأهلها من أعز أمانيهم وأغلى مطالبهم أن يصلوا إلى هذه البلاد بأي طريق كان.
فسبحان من يقلب الليل والنهار! ومن يدبر الأمر!.
وأما فقدان الأمن وصعوبة التنقل والأسفار وقصص قطاع الطريق ومن يسمون بالــ "حنشل" فهي خيال، وليست بخيال!.
ومن كتب التاريخ إليك هذا النقل يحكي صعوبة الحال: "كانت الطرق لا تعبر إلا بقوة عسكرية، أو دفع "الخُـوَّة" -والخوة مال يدفعه التاجر لرؤساء القبائل من البدو مقابل حمايته، حتى يستطيع أن يحافظ على حياته وشيء من نقوده وبعض أحماله-.
وفي كل خمسة أميال أو عشرة يدفع مثل هذا المال للحماية، ثم إذا فاز التاجر المسكين بحياته وبقي شيء في كيسه فمن المؤكد أن أحماله لا تصل كلها إلى المكان الذي يريد" بتصرف من كتاب ملوك العرب للريحاني.
الله أكبر! إذن الأمن لا يشترى، والمال لا يحقق الأمن للمال، ولا يدفع الخوف عن الحياة، والحماية القبلية حماية ضعيفة مؤقتة.
وإنما الأمن من الله! (وآمَنَهُمْ مِن خوف) [قريش:4]، (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) [الأنعام:82].
أما الآن؛ تغيرت الحال، وحل الأمن، وخرج الناس في طرقاتهم وفي أسفارهم، في ليلهم ونهارهم على حد سواء. فهل بعد هذا الخير من شر؟.
كفي بصروف الدهر عظة للمتعظين! (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد:11].
هذه حالنا، وهذه سنة الله في خلقه، فقد آن الأوان لنتبصر في أمرنا، ونسعى في بقاء أمننا، ونحذر حيل المتلاعبين في عقولنا، حينما يملون علينا أساليب للتغيير، وطرقاً للإصلاح.
وأنت أيها الشاب الموفق: كثرت مجالسك، وتنوعت قراءاتك، ووصلك من المقاطع والتغريدات ما ضاق وقتك عن متابعته، وصيتي لك: لا تكن وعاءً؛ كلٌّ يلقي فيك بضاعته.
اتهم عقلك، وشاور من هو أكبر منك علماً وسناً؛ فالحكمة -أعلمنا الله- مع الأكابر، وافتقر إلى ربك، واجعل من دعائك: "اللهم ألهمني رشدي، وقِني شر نفسي".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي