فتخيل ذلك كله يا عبد الله! فإن أهوال القيامة إنَّما تُخَفَّف على أولياء الله الذين أدركوها في الدنيا بعقولهم؛ فعظُم خطر النجاة عندهم، فتحمَّلوا مِن ثِقل همومها في الدنيا على قلوبهم، فخفَّفَها في القيامة عليهم مولاهم، فألزِمْ قلبك توهُّمها، والخوف منها، والغمّ بها؛ لأنه...
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمـــُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أزكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: نواصل رحلة التذكر والتذكير والذكرى؛ عسى أن يحصل نفع، أو تزول غشاوة، أو يستقر ذكر؛ عسى أن يتذكر غافل، أو ينزجر طاغٍ، أو يستقيم مائل.
فإن الآهات إذا انبعثت من قلب صادق محترق بالمواعظ، خاشع أمام المثلاث، نفعت صاحبها وأورثته ذكرا، وأثمرت له حضورا، وذلك مقصود القرآن بالتذكير بيوم الفصل والجزاء: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) [ق:45]، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ) [هود:103].
فتخيل نفسك -أيها العبد- وأنت واقفٌ وسط تلك الجموع الهائلة من الأولين والآخرين، وقد عم الفزع، وسيطر الرعب، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، والكل منتظر دوره للعرض على جبار السماوات والأرض.
وبينما أنت كذلك إذ نودي باسمك فنوديت على رؤوس الخلائق أجمعين: أين فلان ابن فلان؟ هلُمَّ إلى العرض على الله -عز وجل-!.
وقد وكل الملائكة بأخذك حتى يقربوك إلى ربك، فوثبت على قدميك ترتعش فرائصك، وتضطرب جوارحك، مرعوبا مفزوعا، قد تغير لونك، فأخذتك الملائكة تتخطى بك الصفوف، تسوقك للعرض على الله والوقوف بين يديه، (وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق:21].
وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم وأنت مأخوذ إلى ربك، فتخيل نفسك في أيديهم حتى انتهوا بك إلى عرش الرحمن فتركوك وتخلوا عنك، وناداك الله -عز وجل- بعظيم كلامه وجليل مقامه: "ادنُ مني يا ابن آدم"، فغيّبك في نوره، فوقفت بين يدي رب عظيم جليل كبير كريم بقلب خافق نادم محزون وجِل مرعوب، وطرف خاشع ذليل، ترتعد جوارحك، وتضطرب بيدك صحيفة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها وحفظتها.
فبأي لسان تجيبه حين سألك عن قبيح فعلك وعظيم جرمك؟ وبأي قدم تقف غدا بين يديه؟ وبأي نظر تنظر إليه؟ وبأي قلب تحتمل كلامه العظيم الجليل، ومساءلته وتوبيخه؟.
فتخيل نفسك بهذه الهيئة والأهوال بك محدقة، فكم من بلية قد نسيتها ذكّرك بها! وكم من سريرة قد كنت كتمتها قد أظهرها وأبداها! فيا حسرات قلبك وتأسفك على ما فرطت في طاعة ربك! وما ظنك بسؤال ربك العظيم الجبار وقد أبان عن مخالفتك إياه وقلة حيائك منه ومبارزتك له؟.
وما ظنك بك إذ يقول لك: يا عبدي، أما أجللتني؟ أما استحييت مني؟ ألم أحسن إليك؟ ألم أنعم عليك؟ ما غرك بي؟ شبابك؛ فيما أبليته؟ وعمرك؛ فيما أفنيته؟ ومالك؛ من أين اكتسبته وفيما أنفقته؟ وعلمك؛ ماذا عملت فيه؟.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا سيسأله رب العالمين ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان" متفق عليه.
وعن عدي بن حاتم قال: "شهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث له يقول: "ليقفن أحدكم بين يدي الله تبارك وتعالى ليس بينه وبينه حجاب يحجبه، ولا بينه وبينه ترجمان يترجم عنه، فيقول: ألم أنعم عليك؟ ألم أوتيك مالا؟ فيقول: بلى. فيقول: ألم أرسل إليك رسولا؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه، فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله، فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار، ولو بشق تمرةٍ، فإن لم يجد فبكلمة طيبة" رواه البخاري.
وأنت -أيها العبد- في هذا الموقف بين أمرين عظيمين لا ثالث لهما: إما أن يتلقاك برحمته وَجُودِه، وإما أن يناقشك الحساب فيأمر بك إلى الهاوية عياذا بالله الرحيم الرحمن.
فما ظنك بنفسك وضعف قلبك والله -عز وجل- يكرر عليك ذكر إحسانه إليك، ومخالفتك له، وقلة حيائك منه؟ فأعظِمْ به موقفا! وأعظِمْ به من سائلٍ لا تخفى عليه خافية!.
فإذا بلغ منك الحياء كل مبلغ، وسيطر عليك الحزن والرعب، بدا لك منه إحدى الأمرين: الرضا عنك والحب لك، أو الغضب.
فإما أن يقول لك: يا عبدي، إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فتخيل نفسك حين قالها لك فابتدأ إشراق السرور ونوره في وجهك بعد كآبته وتكسفه من الحياء من السؤال، فبدلت الكآبة بالسرور، فأسفر وجهك، وابيضّ لونك، فصار كأنه القمر ليلة البدر.
ثم خرجت على الخلائق مسرورا بوجه محبور، كتابك بيمينك، تنادي: (هاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ) [الحاقة:19-20]، وملَك ينادي على رؤوس الخلائق: هذا فلان ابن فلان، سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا.
عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد عبد الله بن عمر، فأتاه رجل فقال: كيف سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله -عز وجل- يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه –أي: سترة، يستره من الناس-، فيقول: أي عبدي، أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم يا رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: إني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته" رواه مسلم.
هذا الأمر الأول والذي نرجو من مولانا جل شانه وعظم جاهه أن يقابلنا ويعاملنا به.
وأما الأمر الآخر فيقول فيه: عبدي أنا غضبان عليك، فعليك لعنتي! فما ظنك بربك يقولها بعظيم كلامه وهيبته وجلاله؟ عندها تتخطفك الملائكة غضابا لغضب ربهم، (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) [الرحمن:41].
فتخيل كيف سيكون حال هذا العبد وهو ذليل موقن بالهلاك يذهب به إلى النار مسودّاً وجهُهُ، وكتابه في شماله، ينادي بالويل والثبور، والملك ينادي: هذا فلان ابن فلان، شقي شقاء لا يسعد بعده أبداً.
فتخيل ذلك كله يا عبد الله! فإن أهوال القيامة إنَّما تُخَفَّف على أولياء الله الذين أدركوها في الدنيا بعقولهم؛ فعظُم خطر النجاة عندهم، فتحمَّلوا مِن ثِقل همومها في الدنيا على قلوبهم، فخفَّفَها في القيامة عليهم مولاهم، فألزِمْ قلبك توهُّمها، والخوف منها، والغمّ بها؛ لأنه يخففها عليك بذلك؛ لأنه اقسم على نفسه -جل وعلا- ألا يجمع على أوليائه الخوف في الدنيا والآخرة.
ثم تخيل -يا عبد الله- وأنت في تلك المواقف وإذا بالصراط يضرب بين ظهراني جهنم، فتخيل ما حل بك من الوجل حين رفعت طرفك فنظرت إليه مضروبا على جهنم بدقته وضحوده، وجهنم تخفق بأمواجها من تحته، فيا رب! ما أفزعه وأهوله وقد أيقنت أنك راكب فوقه! (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا) [مريم:71].
وأنت تنظر إلى سواد جهنم من تحتك، وتسمع تغيظها وزفيرها وجلبة ثورانها، والملائكة تنادي: ربنا، من تريد أن تجيزه على هذا؟ وتنادي: ربنا، سلِّم سلِّم!.
فتخيل خفقان قلبك وفزعه وقد قيل لك اركب الجسر فطار عقلك رعبا وفزعا، ثم رفعت إحدى قدميك لتركبه فوجدت بباطن قدمك حدته ودقته فطار قلبك فزعا، ثم ثنيت الأخرى فاستويت عليه ماشيا وقد أثقلتك الأوزار والذنوب وأنت حاملها على ظهرك والخلائق من بين يديك ومن خلفك.
فتخيل نفسك وقد نظرت إلى الزالِّين والزّالّات من بين يديك ومن خلفك وقد تنكست هامهم، وارتفعت على الصراط أرجلهم، وأنت تنظر إليهم فزعا مرعوبا خائفا أن تتبعهم، فتزل قدمك، فتهوي من الجسر، وتنكسر قامتك، وترتفع على الصراط رجلاك.
يسقط العبد الذي عصى ربه، وخالف أمره، وبارزه بالمحاربة، وهو ساقط يقول: ويلي ويلي! وقد غلب على قلبه الندم والتأسف ألا يكون أرضى الله فرضي عنه.
ثم لا يلبث -عياذا بالله- أن يقطر بدنه ويتساقط لحمه، ثم تدخل النار إلى جوفه فتأكل ما فيه، قال تعالى: (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [الهمزة:6-7].
تحرق بدنه وقلبه وهو ينادي ولا يرحم، ويبكي ويصيح فلا يسمع له، ويقال له: (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور:16].
فيا لها من مواقف! ويا لها من مشاهد! تجعل الدنيا تتضاءل وتتصاغر أمام عينيك، وتجعل العبد يقلع عن الفساد، ويتوجه إلى لب اللباب، ويتمايل عن القشور العائقة عن المشاهدة والحضور.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله العظيم شانه، الباهر سلطانه، الساطع برهانه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد وهو الولي الحميد.
أحمده على ما تفضل به وأنعم وبين وفصل وأجمل، والصلاة والسلام على النور الأتم، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وتبعه وأنصاره إلى يوم الفصل العظيم.
ثم تخيل رحمك الله هذا العبد وقد طال في النار مكثه، وألح عليه العذاب فبلغ غاية الكرب، واشتد به العطش فذكر الشراب في الدنيا فاستغاث فيغاث بماء كالمهل يشوي الوجوه، ثم يبادر إلى الحميم رجاء التبرد فإذا هي حميم تصهر ما في البطون والجلود، فيبادر إلى النار رجاء أن تكون أهون عليه ثم يشتد عليه حريق النار فيرجع إلى الحميم وهو يطوف بين نار وحميم بلغ الغاية في الحر.
قال -تعالى-: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن:43-44].
فلما اشتد به الكرب والعطش، وبلغ منه المجهود، ذكر الجنان، وذكر شرابها، وبرد مائها، وطيب عيشها، وسعادة أهلها، وتقطع قلبه حسرة لحرمانه منها.
ثم تذكر أن فيها بعض القرابة من أب أو أم أو أخ أو صديق أو غيرهم، فينادي ويستغيث طالبا الماء فلا يجاب إلى طلبه: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [الأعراف:50-51].
فتخيل ذلك بعقلك وقلبك رحمة لضعفك، وارجع عما يكره مولاك وترضاه عسى أن يرضى عنك، وابك من خشيته عسى أن يرحمك؛ فإن الخطر عظيم، وإن البدن ضعيف، وإن الموت قريب، والله مطّلع يراك، فلا تتعرض لحرب ربك؛ فإنه لا طاقة لك بغضبه، ولا قوة لعذابه، ولا صبر لك على عقابه، فتدارك نفسك قبل لقائه، وأدِّ ما عليك لعباده.
فيا خسارة عبدٍ تجرأ على الله وحاربه بالربا! ويا خسارة عبد أكل أموال الناس نصبا وغصبا وظلما وهضما وهتكا وفتكا! ويا خسارة ظالم طغى على خلق الله فأمعن فيهم قتلا وتعذيبا، قال -تعالى-: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:111].
ويا خسارة عبد تمرد على شرع الله وتجرأ عليه سخرية ولمزا وهمزا! متهما إياه بالرجعية والظلامية، واصفا لأصحابه وآله بأقذع الأوصاف وأحط النعوت.
ويا خسارة عبد أطلق لسانه في الأعراض نهشا واتهاما وقذفا وزورا وغيبة وتجسسا ونميمة! ويا خسارة عبد أصر على الآثام وقطع الأرحام فلم يصل أخا ولم يرحم أختا، ولم يبر عما ولا عمة، ولم يصل خالا ولا خالة.
ويا خسارة عبد عق والديه! فنهر الأب، وعصى الأم، عصاهما وتمرد عليهما وصاح في وجهيهما، ولم يذكر لهما إحسانا منهما إليه، ودَينا عظيما عليه.
فالأم حملت ووضعت وأرضعت ودعت وبكت وتحملت وصابرت وكابدت، والأب سافر وهاجر واشتغل وتحمل الأذى وتحمل الإهانات، ثم بعد ذلك تأتي لتنهرهما وتتنكر لهما وتنسى فضلهما وإحسانهما وإكرامهما؟ (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) [الإسراء:23].
ويا خسارة عبد ولاه الله أمراً من أمور المسلمين فظلم وغش وسرق ونهب وعاهد فما وفى، وما قام بأمانته على الوجه الأوفى!.
ويا خسارة عبد قصد السحرة والدجالين والكذبة والأفاكين زارهم وقصدهم وصدقهم! ويا خسارة عبد قدم الذبائح والنذور للأضرحة والقبور يطوف من قبر إلى وثن إلى شجر إلى حجر، ظانا ومعتقدا النفع بهم، ومستغيثا بهم من دون الله العظيم الأجلّ.
ويا خسارة تاجر كسب ماله من حرام وتاجر في حرام فباع المسكرات والملهيات والمخدرات، وقصير اللباس للمتبرجات، وحلف بالله كاذبا، وزين للناس المغشوش، وقدم لهم المدسوس، وغشهم في المكيال والميزان.
وتأملوا رحمكم الله قول الكريم المنان: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:1-6].
ويا خسارة كاتب كتب بيمينه الأكاذيب والأباطيل، وروج الإشاعات، وحارب الإسلام، وافترى على الأَعلام.
ولله در القائل:
وما من كاتبٍ إلا سيَبْلَى *** ويبْقَى الدَّهْرَ ما كَتَبَتْ يَدَاهُ
فلا تكتبْ يمينُكَ غَيْرَ شيءٍ ***يسرُّك في القيامةِ أن تراه
ويا خسارة من مكنه الله من منبر من منابر الإعلام فأشاع في الناس الفاحشة، ونشر فيهم العري والخنا، وشغلهم بالدنيا عن الدين، وبالمسلسلات عن الصلوات، وبالأفلام عن القيام والصيام، وبالمباريات عن قراءة القرآن وتدبر الآيات، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [النور:19].
ويا خسارة عبد طغى وتكبر، على خلق الله استكبر، وما علم أن المستكبرين يحشرون يوم القيامة أمثال الذر، كما أخبر بذلك النبي البر -صلى الله عليه وسلم-!.
ويا خسارة عبد تسلط على حق غيره بالرشوة والكذب والتزوير، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الراشي والمرتشي في النار".
ويا خسارة عبد اقتطع حق أخيه ظلما وأقسم على أنه له، وهو يعلم في نفسه خلاف ذلك! ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة"، فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: "وإن قضيبا من أراك".
ويا خسارة من يتهاون في أداء الصلوات ويفرط في الجمع والجماعات! وربنا -جل شأنه- يقول (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون:4-5]، ويقول: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59].
ويا خسارة عبد يعمل من أجل أن يراه الناس رياءً وسمعة وحب ثناء ومحمدة، وربنا يقول: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110]، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة أناس قاموا بأصناف من الأعمال الصالحة؛ ولكن ما قاموا بها من أجل الله، ولكن من أجل الحصول على الثناء والذكر الجميل.
فإذا عملت عملا فاقصد به وجه الله، وكن عاقلا، وتأمل في العباد تجدهم فقراء ضعفاء مثلك، لا يملكون لأنفسهم النفع والضر، فضلا عن أن يملكوه لك، فلماذا تعمل العمل من أجلهم ومن أجل نظرهم وثنائهم؟ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر:15].
ويا خسارة عبد أعطاه الله مالا فلم يؤد زكاة ماله وبخل بحق الله، وربنا يقول: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة:34-35].
ويا خسارة عبد لم يعقل كلامه، ولم يضبط لسانه، وانطلق متكلما متهكما يهيم مع الهائمين، ويخوض مع الخائضين، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا أن "الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا تهوي به في النار سبعين خريفا".
ويا خسارة أمة تعرت وتبرجت وما استترت، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "صنفان من أهل النار لم أرهما"، وذكر منهما: "نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا".
يا خسارة هؤلاء وغيرهم إن لم يتوبوا إلى ربهم ويرجعوا إلى مولاهم! فإن الفرصة لا زالت قائمة، وإن الباب لا يزال مفتوحا، وإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، قال -جل في علاه-: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الفرقان:68-70].
واعلموا -رحمكم الله- أن الأمر عظيم، والخطب جسيم، وأن النار شر مستطير، وحر وزمهرير، وحريق دائم، وهم وغم ونكد وخزي وندامة، (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [آل عمران:192].
يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون".
اللهم اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما..
اللهم أصلح أحوالنا...
تأملات في بعض مشاهد يوم القيامة (1)
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي