أيها الإخوة: لقد تميز دين الإسلام عن غيره من الديانات بالسبق لتشريع أبوابٍ من البر، لم يسبق إليها دين غيره، وبلغت أمتنا أعلى درجات الكمال التي لم تصل إليها أمة قبلها على الإطلاق، ولم تلحقها من بعدها أمة حتى الآن، وكان من أعظم ما شرع الله من أبواب الخير الوقف. ففي العصور الماضية لم تعرف الأمم والحضارات ميادين للبر إلا في نطاق ضيق، لا يتعدى ...
أيها الإخوة: لقد تميز دين الإسلام عن غيره من الديانات بالسبق لتشريع أبوابٍ من البر، لم يسبق إليها دين غيره، وبلغت أمتنا أعلى درجات الكمال التي لم تصل إليها أمة قبلها على الإطلاق، ولم تلحقها من بعدها أمة حتى الآن، وكان من أعظم ما شرع الله من أبواب الخير الوقف.
ففي العصور الماضية لم تعرف الأمم والحضارات ميادين للبر إلا في نطاق ضيق، لا يتعدى المعابد والمدارس، وأما في العصور الحاضرة، فإن أمم الغرب وإن بلغت الذروة في استيفاء الحاجات الاجتماعية عن طريق الوقف للمؤسسات الاجتماعية، والمؤسسات العامة، لكنها لم تبلغ ذروة السمو الإنساني الخالص لله عز وجل، كما بلغته أمتنا في عصور قوتها ومجدها، أو عصور ضعفها وانحطاطها.
أيها الإخوة: ولقد تنافس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيقاف الضياع والدور، ولم يكن أَحَدٌ مِن أصْحَابِ النَبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُو مَقدِرَةٍ إِلاَّ وَقَفَ.
وتتابعت الأمة بعدهم تُوقف العقارات والضياع الضخمة في زمن يسرهم، وسعة ذات اليد عندهم.
بل لم يمنعهم شظفُ العيش، وقلةُ ذات اليد من الوقف! حتى سمعنا عن أوقافٍ بسيطة لأغراض بسيطة أيضاً مثل: قِرَبُ الماء، وبعضُ الكتب الصغيرة، وسُرجُ المساجد وزيتُها، وغيرُها كثير.
يحدوهم لذلك رغبةٌ بالأجر العظيم للوقف ويقينٌ بحاجة الأمة له.
لكننا في هذا العصر لم نرْ التسابق على الوقف كما سمعنا عنه في الماضي، ولعل من أسباب ذلك غياب فضل الوقف عند الأمة، وقلة الحث عليه من أهل العلم والدعوة.
أيها الأحبة: الوقف من أفضل الصدقات التي شرعها الله ورسوله وندبا إليها، وهو: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. -تحبيس الأصل- أي أن العين الموقفة باقية لا تورث ولا تباع ولا توهب -وتسبيل المنفعة- أي ريعها ومنفعتها ثابتة دائمة تصرف في مصارف الخير، ووجوه البرِ بِراً في الفقراء، وعطفاً على المحتاجين، وقياماً بمبدأ التكافل الاجتماعي الذي ندب إليه الإسلام.
والوقف من أعظمِ الصدقات وأكثرِها أجراً، خصوصاً إذا كان في حالِ الصحة تيمناً بالتوجيه النبوي الكريم، واغتناماً لأفضل أوقات الصدقة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جاء رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ".
وفي رواية عند مسلم: "أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟" فَقَالَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ، قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ".
وفي رواية: "وأنت صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ"[رواه البخاري].
أيها الأحبة: والوقف باب عظيم من أبواب البر والخير، لذلك جعل له أهلُ الفقه والحديث باباً كبيراً في كتب الفقه والحديث، ولعلنا نتعرف على أهم أحكامه، وما ينبغي للموقف أن يعرفَه منها قبل النطق به، مع حاجة كل موقف لمراجعة أهل العلم والخبرة.
فمن أحكام الوقف: أنه عقد لازم أي لا يمكن تغييره، ولا يجوز فسخه إذا تلفظ به المكلف أو كتبه ناجزاً قبل الموت؛ لأنه مما أُخْرِجَ لله تعالى فلا يجوز أن يرجع فيه كالصدقة، فمن حين أن يقول الرجل: وقفت بيتي، أو وقفت سيارتي، أو وقفت كتابي فإنه يلزم، وليس له خيار مجلس.
أما الوقف المعلق بالموت: ومثاله لو قال: "هذا وقف بعد موتي"، فقال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: "الصحيح أنه لا يلزم إلا بعد الموت، وحينئذٍ يكون من ثلث الوصية؛ لأن القائل علق الوقف بشرط وهو الموت، فلا ينفذ قبل الموت، وما دام حياً فله التغيير والتبديل والإلغاء، فإذا مات فإن أجازه الورثة نفذ مهما كان قدره، وإن لم يجيزوه نفذ منه قدرَ ثلث التركة فقط كما لو قال رجل: إذا مت فبيتي وقف، أو إذا مت فمكتبتي وقف؛ فإن أجازه الورثة نفذ، وإلا نفذ الثلث فقط".
وينبغي للموقف أن يختار من وجوه البر ما يكون نافعاً للأمة، وساداً لحاجتها، وأن يستشير أهل العلم والخبرة بذلك، وأن يختار الناظر الأمين على الوقف ويضع له نسبة من ريعه -أي الذي يتولى إدارة الوقف وصرفه في مصارفه-، وعلى الناظر أن يتقى الله فيما ولي عليه، وأن يعمل بشرط الواقف من -وصف أو قيد أو إطلاق أو جهة أو غير ذلك-، بشرط أن لا يخالف الشرع؛ لقول الله تعالى: (فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:181].
فقد جعل الله الإثم على من بدل الشرط الذي اشترطه الموصي، وهدد من التبديل بقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[البقرة:181].
ويشترط في الوقف أن يكون على بر، فلا يوقف مثلا على جمعيات تعمل أعمالا محرمة، ولا على عمل اجتماعي محرم، فلو عَمَرَ الإنسان مسجداً وأوقفه، فهذا على بِرٍّ، إلا إذا عمر مسجداً على قبر فهنا يحرم ولا يصح؛ لأن هذا ليس ببر، بل هو إثم، أو بَنَى مسجداً من أجل أن تقام فيه البدع، فهذا أيضاً لا يصح؛ لأنه ليس على بر.
ومن الأحكام المهمة: المبادرة بإثبات الوقف وعدم تأخيره، حتى لا يكون سببَ نزاع بين الورثة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة:265].
أيها الإخوة: يظن بعضُ الناس بأن الصدقة تُنْقِصُ المال، وقد غاب عن أذهانهم ما رواه مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ".
وفي معنى: "ما نقصت صدقة من مال" ذكر أهلُ العلم وجهين:
أحدهما: معناه أنه يبارك في ماله، ويدفع عنه المضرات، فينجبر نقص الصورة بالبركة، وهذا مدرك بالحس والعادة.
الثاني: أنه وإن نقصت صورته كان في الثواب المرتب عليه جبرٌ لنقصه وزيادةٌ إلى أضعاف كثيرة.
أيها الإخوة: تأملوا معي بالله عليكم هذا السؤال الذي سأله المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما روى عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُوْدٍ رضي الله عنه: "أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ! قَالَ: "فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ، وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ"[رواه البخاري والنسائي].
ومعنى: "ما قدم" ما تصدق به.
وهنا أيها الأحبة: أوجه نداءً إلى المسلمين عامة وإلى أهل اليسر والغنى خاصة، فأقول: أيكم مال وارثه أحبُّ إليه من ماله؟
ستجيبون بلا شك: مالُنا أحب!
إذاً ما دام مالكم أحب فماذا تنتظرون؟ أحيوا سنة الوقف لتطيلوا في أعماركم، وتُكَثِّروا حسناتكم، وتجْرُوا أجرها عليكم في حياتكم وبعد وفاتكم.
أحيوا سنة الوقف في جميع أبواب البر لتزكوا وتفلحوا؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ رضي الله عنه قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ) ثم قَالَ: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي"، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ"[رواه مسلم].
وما سوى ذلك فأنتم ذاهبون عنه وتاركوه للناس؛ يقول الحق تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ)[الأنعام:94] أي تركتم ما أعطيناكم من أموال الدنيا وراء ظهوركم للوارثين من بعدكم.
وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون:9-11].
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ"[رواه بن ماجة وابن خزيمه وحسنه الألباني].
أيها الأحبة: لا تحقروا القليل، ويمكن لمن لا يستطيع الاستقلال بوقف مستقل أن يشارك بجزء من ماله حسب طاقته مع غيره في وقف مشترك؛ فالأوقاف المشتركة كثيرة، وتتبناها الجهات الخيرية.
وابشروا، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ -مهره، وهو الصغير من الخيل- حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ"[رواه البخاري].
وصلوا وسلموا علي نبيكم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي