النصيحة: أهميتها وأساليبها

عبد الله بن علي الطريف
عناصر الخطبة
  1. عِظَم شأن النصيحة .
  2. وقفات مع الحديث المبيِّن لمفهوم النصيحة وحدودها .
  3. مناصحة الوُلاة .
  4. منزلة الناصحين .
  5. آداب النصيحة .
  6. واجب المنصوح له .

اقتباس

فالنصيحة لله: الاعتراف بوحدانية الله، وتفرده بصفات الكمال على وجه لا يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه، والقيام بعبوديته ظاهراً وباطناً، والإنابة إليه كل وقت بالعبودية، والطلب رغبة ورهبة، مع التوبة والاستغفار الدائم؛ لأن العبد لا بد له من التقصير في شيء من واجبات الله والتجرؤ على بعض المحرمات، وبالتوبة الملازمة...

أيها الإخوة: للنصيحة شأن عظيم في حياة الفرد والأمة على حد سواء، فهي أساس بناء الأمة، وهي السياج الواقي -بإذن الله- من الفرقة والتنازع والتحريش بين المسلمين، التحريش الذي رضيه الشيطان بعد أن يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب.

فعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ"، أي: في حَمْلهم على الفتن والحرُوب. رواه مسلم.

نعم؛ رضي بالتحريش ويسعى فيه بينهم، وذلك بإذكاء الخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها؛ وهذه بداية طبيعية للعداء والتفرق والتنازع، المؤدي إلى الاقتتال وذهاب الريح.

والمخلص الوحيد من هذا الكيد: النصيحة الشرعية.

وأعظم حديث جامع يبين فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفهوم النصيحةِ الشرعية وحُدودها: عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ. إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ. إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ"، قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِلَّهِ، وَلكِتَابِهِ، وَلرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ" رواه مسلم وغيره واللفظ لأبي داود.

أيها الأحبة: هذا الحديث له شأن عظيم، وهو بيان بأن عماد الدين وقوامه بالنصيحة، فبوجودها يبقى الدين قائماً في الأمة، وبعدمها يدخل النقص على الأمة في جميع شؤون حياتها.

قال الخطابي: والنصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له، وهي من وجيز الكلام؛ بل ليس في الكلام كلمة مفردة تُستوفى بها العبارةُ عن معنى هذه الكلمة، غير هذه الكلمة.

وهذا الحديث قال عنه بعض أهل العلم بأنه ربع الدين، وقال النووي: بل هو وحده محصل لغرض الدين كله؛ لأنه منحصر في الأمور التي ذكرها.

وجعل الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- هذا الحديث من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-، وشرحه فقال -رحمه الله-: كرر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الكلمة اهتماماً للمقام، وإرشاداً للأمة أن يعلموا حق العلم أن الدين كله، ظاهره وباطنه منحصر في النصيحة، وهي القيام التام بهذه الحقوق الخمسة.

فالنصيحة لله: الاعتراف بوحدانية الله، وتفرده بصفات الكمال على وجه لا يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه، والقيام بعبوديته ظاهراً وباطناً، والإنابة إليه كل وقت بالعبودية، والطلب رغبة ورهبة، مع التوبة والاستغفار الدائم؛ لأن العبد لا بد له من التقصير في شيء من واجبات الله والتجرؤ على بعض المحرمات، وبالتوبة الملازمة للاستغفار الدائم ينجبر النقص، ويتم عمله وقوله.

وأما النصيحة لكتاب الله: فبحفظه، وتدبره، وتعلم ألفاظه ومعانيه، والاجتهاد في العمل به في نفسه، وتعليمه غيره.

وأما النصيحة للرسول -صلى الله عليه وسلم-: فهي الإيمان به، ومحبته، وتقديمه على النفس والمال والولد، واتباعه في أصول الدين وفروعه، وتقديم قوله على قول كل أحد، والاجتهاد في الاهتداء بهديه، والنصر لدينه.

وأما النصيحة لأئمة المسلمين، وهم ولاتهم، من الإمام الأعظم، إلى الأمراء والقضاة إلى جميع من لهم ولاية عامة أو خاصة: فباعتقاد ولايتهم، والسمع والطاعة لهم، وحث الناس على ذلك، وبذل ما يستطيعه من إرشادهم، وتنبيههم إلى كل ما ينفعهم وينفع الناس وإلى القيام بواجبهم.

وأما النصيحة لعامة المسلمين: فبأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويسعى في ذلك بحسب الإمكان، فإن من أحب شيئاً سعى له، واجتهد في تحقيقه وتكميله.

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- فسر النصيحة بهذه الأمور الخمسة التي تشمل القيام بحقوق الله، وحقوق كتابه، وحقوق رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وحقوق جميع المسلمين على اختلاف أحوالهم وطبقاتهم. فشمل ذلك الدين كله، ولم يبق منه شيء إلا دخل في هذا الكلام الجامع المحيط. اهـ.

 
وقال ابن حجر في فتح الباري: والنصيحة لأئمة المسلمين إعانتهم على ما حملوا القيام به، وتنبيههم عند الغفلة، وسد خلتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم، ومن أعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن.

ومن جملة أئمة المسلمين أئمة الاجتهاد، وتقع النصيحة لهم ببث علومهم، ونشر مناقبهم، وتحسين الظن بهم.

والنصيحة لعامة المسلمين: الشفقة عليهم، والسعي فيما يعود نفعه عليهم، وتعليمهم ما ينفعهم، وكف وجوه الأذى عنهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه. اهـ.

 
أيها الإخوة: النصيحةُ في ديننا لها مكانة سامية، ومنزلة عالية، كيف لا وقد جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفهوم النصيحة مساوياً للدين كله فقال: "الدين النصيحة".

والنصيحة لا تنطلق أساساً إلا من حُب الناصح لمن حوله، وشفقته عليهم، ورغبته في إيصال الخير إليهم، ودفع الشر والمكروه عنهم؛ ولهذا قال ابن الأثير: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي: إرادة الخير للمنصوح له.

وقد أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيعة من أصحابه على بذل النصح للمسلمين، فعَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، قُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَشَرَطَ عَلَيَّ: "وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"؛ فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا. وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ! إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ. رواه البخاري ومسلم.

وفي لفظ: عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِي: "فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ".

 
أيها الأحبة: ومن آكد من يناصح ولي الأمر، حيث قال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ" رواه الإمام أحمد.

عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاَثٌ لاَ يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنُّصْحُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ" رواه ابن ماجة وصححه الألباني.

"لا يغل" من الإغلال، وهو الخيانة، فيكون المعنى: قلب الرجل المسلم حال كونه متصفا بهذه الخصال الثلاث لا يصدر عنه الخيانة والحقد والشحناء، ولا يدخله مما يزيله عن الحق.

 
أحبتي: ومن كان باذلاً للنصيحة راغباً في إيصال الخير إلى الناس فهو من خلفاء الله في الأرض، كما قال الحسن -رحمه الله-: "ما زال لله تعالى نصحاء، ينصحون لله في عباده، وينصحون لعباد الله في حق الله، ويعملون لله -تعالى- في الأرض بالنصيحة، أولئك خلفاء الله في الأرض".

والمقصود بـ خلفاء الله في الأرض هنا، أي: المنفذون لأوامر الله. جعلنا الله جميعاً منهم.

وقال الفضيلُ بن عياض: "ما أدركَ عندنا مَنْ أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاءِ الأنفس، وسلامةِ الصدور، والنصح للأمة".

وسئل ابنُ المباركَ: "أيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: النصحُ لله".

وعدّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذل النصيحة للمسلمين من أعظم الحقوق، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ"، قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: "... وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ" رواه مسلم وغيره.

بارك الله لنا بالكتاب والسنة، وجنبنا الاختلاف والفرقة.

أقول قولي هذا.

الخطبة الثانية:

 
أيها الإخوة: ويجب على من يتصدى لنصح الآخرين وإرشادهم أن يراعي في نصحهم أموراً ليصل إلى الهدف المنشود.

أولها: النصيحة بالسر؛ فالإنسان بطبعه يكره التشهير، ويعتبر النصيحة أمام الناس فضيحة؛ لهذا يحاول الدفاع عن نفسه.

ولذلك حث الشرع على النصيحة بالسر؛ لأن الهدف من النصيحة أن يقلع الشخص عن الخطأ، وليس الغرض إشاعة عيوبه أمام الآخرين.

ولذلك كان السَّلفُ إذا أرادوا نصيحةَ أحدٍ، وعظوه سراً، حتّى قال بعضهم: مَنْ وعظ أخاه فيما بينه وبينَه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنَّما وبخه.

وقال الشافعي: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وخانه.

وقال الفضيل: المؤمن يَسْتُرُ ويَنْصَحُ، والفاجرُ يهتك ويُعيِّرُ.

وقال الشافعي رحمه الله:

تعمَّدْنِي بنُصْحِكَ في انفرادٍ *** وجَنِّبْنِي النصيحةَ في الجماعهْ

فإنَّ النُّصْحَ بين الناس نوعٌ *** من التوبيخِ لا أرضى استماعَه

وإن خالفتَني وعَصَيْتَ قولي *** فلا تجزع إذا لم تُعط طاعه

ومنها الإخلاص لله تعالى في النصيحة؛ لأنه لب الأعمال، ولأن النصيحة من حق المؤمن على المؤمن، فوجب فيها التجرد عن الهوى والأغراض الشخصية والنوايا السيئة التي قد تحبط العمل، وتورث الشحناء وفساد ذات البين.

 
ولا بد في النصيحة من الرفق في النصح، وإذا خلت النصيحة من الرفق صارت تعنيفا وتوبيخا لا يقبل، ومن حرم الرفق فقد حرم الخير كله، "ولَمْ يَدْخُلِ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَمْ يُنْزَعْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ" كما أخبر بذلك نبينا -عليه الصلاة والسلام-.

ويجب على الناصح الحِلْم بعد النصح، لأن الناصح قد يواجه من يتجرأ عليه أو يرد نصيحته، فعليه أن يتحلى بالحلم، ومن مقتضيات الحلم: الستر، والحياء، وعدم البذاءة، وترك الفحش.

وإن من الحكمة والبصيرة في النصيحة معرفة أقدار الناس، وإنزالهم منازلهم، والترفق مع أهل الفضل والسابقة، وتخير وقت النصح المناسب، وتخير أسلوب النصح المتزن البعيد عن الانفعالات، وانتقاء الكلم الطيب والوجه البشوش، والصدر الرحب، فهو أوقع في النفس، وأدعى للقبول، وأعظم للأجر عند الله.

أحبتي: أما المنصوح فالواجب عليه الإصغاء إلى النصيحة، والعمل بخيرها، والتخلص من حظوظ النفس، فقد كان السلف يعتبرون النصيحة نوعا من الهدية يقدمها الناصح لهم، كما قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: "رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي" رواه الدارمي في مقدمة سننه.

ولا يحملنَّ المنصوح شدة الناصح على عدم الانتفاع بالنصيحة.

أيها الإخوة: هذه هي حدود النصيحة الشرعية، أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يمن علينا بطاعته، ويرزقنا النصح لجميع المسلمين: ولاتهم، وعامتهم، وأن يوفقهم لقبولها.

وصلوا وسلموا...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي