نصرة المظلوم في عصر الظلمة

حسان أحمد العماري
عناصر الخطبة
  1. حقُّ المظلوم في نُصرةِ أخيه المسلم .
  2. فضلُ نُصرة المظلوم .
  3. شيوع الظلم والموقف السلبي في نصرة المظلوم .
  4. حكم نصرة المظلوم .
  5. الهدي النبوي فيها قبل وبعد البعثة .
  6. دافع نصرة المظلوم .
  7. وسائلها .
  8. نماذج تاريخية تبين هيبة المسلمين ونصرتهم للمظلومين .
  9. بعثُ هذا الخلقِ ودوافعِهِ من إيمانٍ وصدقٍ .

اقتباس

لنقرأ موقف الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- من مظلوم استغاث به لإنقاذ حقّه، ولنتأمل في الظروف الصعبة التي كانت تحيط بالرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- يومها، نقل ابن كثير فقال: "قدم رجل من أراش بإبل له إلى مكّة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فمطله بأثمانها، فأقبل الأراشي حتى وقف على نادي قريش، ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- جالس في ناحية المسجد، فقال: يا...

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وألبسَنا لباس التقوى خير لباس.

الحمدُ لله حمداً طـاب وانتشرا *** على ترادُفِ جُودٍ في الوُجُــــودِ سرى

الحمد لله حمـداً سَرْمَدَاً أبــداً *** ما أضحكَ الغيثُ وجْهَ الأرضِ حينَ جَرَى

حمداً كثيراً به أرْقَى لحَضْـرَتِهِ *** على منابــرِ أُنْسٍ أبلـــــغ الوطرا

ثُمَّ الصلاةُ على خَتْمِ النُّبَوَّةِ مَـن *** إذا تــَــــقَدَّمَ كـان الأوَّلـُـونَ وَرَا

مَعَ السَّلامِ الَّذِي يهدى لحضْرَتِهِ *** يعمُّ آلاً وصَحْبَاً ســــادةً غــــرَرَا

ونسأل الله توفيقاً لطاعتـــِهِ *** ورحمةً لم نجـــد من بعـــدِها كَدَرَا

أما بعــد: عبــاد الله: لقد حرص الإسلام على أن يعيش أبناؤه في ترابط وتعاون وتناصر؛ حتى يسود المجتمعَ الأمنُ والأمان، والمحبة والحنان؛ الحقوق محفوظة ومصونة، والواجبات معروفة ومطلوبة، من شأنها أن تشد الروابط بين المسلمين، وتزيد الألفة فيما بينهم في مشارق الأرض ومغاربها، وتحفظ وحدتهم، وتصون كرامتهم، وتحفظ حقوقهم.

ذلك أن المؤمن شأنه أن يعيش عزيزا؛ فهو يحمل رسالة عظيمة، وينتمي لأمة عظيمة، ورسوله  -صلى الله عليه وسلم- أعظم الرسل، يقول الله -تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ  وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ  تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا  سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ  وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح:29].

وبقدر تمسك الفرد منا بهذه القيم والواجبات وجعلها نظام عمل في هذه الحياة بقدر ما يكون قريبا من الله، قريبا من خَلقه.

ولعل من أهم الواجبات والحقوق التي على المسلم لأخيه المسلم ما ورد في حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه-، حيث قال: "أمرنا النبي  -صلى الله عليه وسلم- بسبع، ونهانا عن سبع. أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم" رواه البخاري ومسلم.

فأين نحن من القيام بهذه الحقوق والواجبات كما أمرنا رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-؟ قد نقوم ببعض هذه الحقوق مع تقصيرنا الشديد فيها، فمنا من قد يزور مريضا، وآخر قد يشيع جنازة ويشمت عاطسا، وآخر قد يجيب الداعي ويبر القسم؛ لكن، أين من ينصر مظلوما في هذا الزمان؟ وما أكثر المظلومين في زماننا! وكم يرى الناس من إنسان ينتهك عرضه وتداس كرامته ويسلب ماله ويسفك دمه ثم لا يجد من ينصره أو من يقف بجانبه! وأصبح هذا الحق والواجب ضائعا وغريبا في حياتنا.

قال -تعالى-: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) [النساء:75]، وقال -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة:2].

ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من امرئ يخذل امرأً مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله -تعالى- في موطن يحب فيه نصرته؛ وما من أحد ينصر مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته" رواه أحمد.

وعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-: "من أُذِلّ عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذلّه الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة" رواه أحمد بسند حسن.

والله -تعالى- يقول: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79].

والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "والذي نفسي بيده! لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" صحيح الترمذي.

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة مسلم كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" رواه البخاري. قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: قوله "لا يسلمه" أي: لا يتركه مع من يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم.

عبـاد الله: انظروا في حياتنا في الشارع، في السوق، في الوظيفة، في القبيلة، يمارس الظلم على المستضعفين، يظلم الواحد أمام الناس ولكن لا يتحرك أحد لنصرته، ولو حتى بأبسط أدواتها ووسائلها!.

الكلمة، والنصيحة، والزجر، والدلالة على الخير، وبذل المعروف، وكف الأذى عن صاحب المظلمة؛ أو على الأقل أن يشعر المرء بتأنيب الضمير، ويعتذر إلى الله بضعفه وعدم قدرته.

ولكن تجد الكثير يتفرج ويشاهد ويسمع ولا يتأثر أو يحس، أو على الأقل لا يتمعر وجهه غضباً لله وإنكاراً لهذا المنكر.

ولذلك تضيع حقوق، وتهدر كرامات، ويشيع الظلم، ويعم البلاء، وتتعدد المظالم، ويكثر الظلمة، ويتطاول الإنسان على أخيه الإنسان دون خجل أو حياء.

إن هذا الموقف السلبي لا يمكن أن يكون مقبولاً من أحد -حاكما كان أو محكوما- في دنيا المسلمين وحياتهم، فقد روي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: "يا أيها الناس، إنكم لتقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" صحيح أبي داود.

إن نصرة المظلوم من الفروض الكفائية فإذا قام بها البعض وتمت النصرة سقطت عن الباقين في المجتمع المسلم، وإذا لم يقم بها أحد أثم من كان مستطيعاً وعنده القدرة على ذلك.

وانظروا إلى التأريخ وهو يحدثنا عن موقف إنساني فذ فريد للنبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- قبل بعثته، أعطاه القيمة الكبرى بعد البعثة، وهو موقفه في حلف الفضول، وحلف الفضول كان تجمعاً وميثاقاً إنسانياً تنادت فيه المشاعر الإنسانية لنصرة الإنسان المظلوم، والدفاع عن الحق المضيع، لم تحدثه سلطات، ولا قوى دولية، بل أنشأته قوى اجتماعية بدوافع إنسانية، وإحساس وجداني عميق بضرورة نصرة المستضعفين والمظلومين.

لنستمع للتأريخ، وهو يروي لنا قصة هذا الحدث الحضاري الكبير في عالم الإنسان: روى اليعقوبي في تأريخه ما نصه: حضر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حلف الفضول، وقد جاوز العشرين، وقال بعدما بعثه الله: "لقد شَهِدتُ مع عمومَتي حِلفًا في دارِ عبدِ اللَّهِ بنِ جُدعانَ ما أُحبُّ أن لي بهِ حُمْرَ النَّعَمِ، ولَو دُعيتُ بهِ في الإسلامِ لأجَبتُ".

إن ذلك الموقف الصادر عن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- ومثله الموقف في حلف الفضول يؤكد أنّ الدفاع عن الحق، ونصرة المظلوم مسؤولية يسأل عنها الإنسان القادر على القيام بها تجاه المظلومين والمضطهدين، وبغض النظر عن عقيدة المظلوم أو لغته أو طبقته الاجتماعية أو انتمائه السياسي.

لنقرأ موقف الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- من مظلوم استغاث به لإنقاذ حقّه، ولنتأمل في الظروف الصعبة التي كانت تحيط بالرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- يومها، نقل ابن كثير فقال: "قدم رجل من أراش بإبل له إلى مكّة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فمطله بأثمانها، فأقبل الأراشي حتى وقف على نادي قريش، ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- جالس في ناحية المسجد، فقال: يا معشر قريش، من رجل يعديني على أبي الحكم بن هشام، فإني غريب، وابن سبيل، وقد غلبني على حقي، فقال أهل المجلس: ترى ذلك! -يهمزون به إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة- اذهب إليه، فهو يعديك عليه.

فأقبل الأراشي حتى وقف على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فذكر ذلك له، فقام معه، فلما رأوه قام معه، قالوا لمن معهم: اتبعه فانظر ما يصنع! فخرج إليه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى جاءه فضرب عليه بابه، فقال مَن هذا؟ قال: "محمد، فاخرج"، فخرج إليه، وما في وجهه قطرة دم، وقد امتقع لونه، فقال: "أعط هذا الرجل حقّه"، قال: لا يبرح حتى أعطيه الذي له، قال: فدخل، فخرج إليه بحقه، فدفعه إليه.

ثمّ انصرف رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وقال للأراشي: "الحق لشأنك". فأقبل الأراشي حتى وقف على المجلس، فقال: جزاه الله خيراً، فقد أخذ الذي لي.

أي خلق هذا؟ وأي شجاعة هذه؟ وأي نجدة ونصرة للمظلوم قام بها خير الخلق  -صلى الله عليه وسلم-؟.

بل لقد جهز رسول الله جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل من أجل نصرة المظلوم، فلقد كان من شروط صلح الحديبية أن من أراد أن يدخل في عقد رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- وعهده فليدخل، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش فليدخل، فدخلت بنو بكر في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-.

وكان بين بني بكر وخزاعة حروب في الجاهلية، فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية -من بني بكر- ومعه جماعة من قومه فأتوا خزاعة ليلاً فأصابوا رجلاً من خزاعة يقال له منبه، واستيقظت لهم خزاعة فاقتتلوا، وأمدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل بعضهم معهم ليلاً.

فلما انقضت الحرب خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في المسجد فقال:

يا ربِّ إني ناشـدٌ محمَّــدًا *** حِلْفَ أبينـا وأبيه الأتْلَـدَا

فانصُرْ هداكَ اللهُ نَصْرًا أيِّـدا *** وادْعُ عبـادَ الله يأتوا مددًا

إنَّ قريشًا أخلفـوك المــَوْعِـدَا *** ونَقَضُوا ميثـاقك المؤكَّدا

هُمْ بيَّتُـونا بالوتـير هُجَّـدًا *** وقتَّلـونا ركَّعـًا وسُجَّدا

وزعموا أنْ لستُ أدعو أحدًا *** وهم أذلُّ وأقــلُّ عَـَدَدا

قال ابن إسحاق: فقال له رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-: "نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم". فكان ذلك ما هاج فتح مكة.[فتح الباري 7/592].

والقائم بخلق النصرة يجب أن يكون الباعث على قيامه بهذا الخلق قصد وجه الله -تعالى-، ومنع الظلم بأنواعه، وتحقيق العدل على جميع الناس، وإعانة الفقراء والمحتاجين على لوازم الحياة الكريمة، فلا ينتصر لعرق أو حزب أو طائفة، أو ينصر أحدا لطلب مال أو شرف أو جاه، فكل ذلك من خصال الجاهلية، وطباع البهيمية السافلة، قال -تعالى- في قصة ذي القرنين: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) [الكهف:94-95].

والنصرة تكون باللسان، واليد، وبالمقال الصحفي، وبالمحاماة، وبالمال، وبالنصح والتوجيه، وكف الأذى، وبالجهاد في سبيل الله، وبالدعاء في ظهر الغيب.

وتكون النصرة بنشر قضية المظلوم، وتعرية الظالم، وفضحه، وزجره.

وتكون كذلك بالإصلاح بين الناس، ومعالجة المشاكل، وغير ذلك،كل حسب قدرته واستطاعته.

فاللهم وفقنا إلى كل خير، واهدنا سبلنا، واجعلنا من الراشدين.

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

عبـاد اللـه: لقد كان خلق النصرة للمظلوم من أبرز وأظهر الأخلاق عند المسلمين حكاما ومحكومين، ألم يجهز الخليفة العباسي المعتصم جيشا عظيما يوم عمورية لأن الخبر بلغه عن طريق التجار والركبان أن رجلا من الروم لطم امرأة مسلمة فنادت: وا معتصماه! فاقتص لها ممن ظلمها؟!.

 وتصل رسالة إلى الملك الناصر صلاح الدين من أسير للمسلمين في سجون الصليبيين في مدينة القدس بعد أن سقطت بأيديهم، قال فيها:

يا أيُّها الملِكُ ااـذي *** لمعالم الصُّلْبَانِ نَكَّسْ

جاءتْ إليك ظُلَامةٌ *** تَسْعَى مِن البيتِ الْمُقَدَّسْ

كُلُّ الْمَسَاجِدِ طُهِّرَتْ *** وأنا عَلَى شَرَفي أُنَجَّسْ

فسار بجيشه، ودخل المسلمون بيت المقدس، وطهروه من الصليب، وطهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالأذان، ووحدوا الرحمن، وجاء الحق، وبطلت الأباطيل، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، وتنزلت البركات، وتجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون.

وأحضر منبر نور الدين الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه، فكان على يدي تلميذه صلاح الدين، ورقِيَ الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحداً وتسعين عاما، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:45]، (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) [الروم:4].

ولما تولى أبو يوسف يعقوب بن يوسف خلافة الموحدين بعد استشهاد أبيه مجاهدا ً ضد النصارى في الأندلس، وذلك في جمادى الأولى سنة ثمانين وخمسمائة بعد الهجرة، وصلته رسالة من المسلمين الذين هجم عليهم ألفونسو السادس ملك قشتالة ودمر بيوتهم وقتل الرجال وسبى النساء، حتى كتب ألفونسو السادس خطاباً يدعوه فيه إلى القتال فيه سخرية واستهانة بالمسلمين.

فلما قرأ أبو يوسف الخطاب كتب على ظهر رقعة منه: ارجع إليهم؛ فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون، الجواب ما ترى لا ما تسمع.

وخرج بجيشه واتجه إلى بلاد الأندلس، والتقى بجيش الفرنجة في موقعة الأرك في التاسع من شعبان سنة أحدى وتسعين وخمسمائة بعد الهجرة.

وانتهى يوم الأرك بهزيمة النصارى على نحو مروع، وسقط منهم في القتال ثلاثون ألف قتيل، وأسروا عشرين ألفا، وغنم المسلمون معسكر الأسبان بجميع ما فيه من المتاع والمال، واقتحموا عقب المعركة حصن الأرك، وقلعة رباح المنيعتين.

هكذا كانت أخلاق المسلمين، عزة وكرامة وهيبة ونصرة للمظلوم؛ فهل من وثبة لنصرة المظلومين في أقطار الأرض ودول العالم التي يتعرض فيها المسلمون للقتل والسجن والحرب والتعذيب والانتقاص من الحقوق وإهدار الكرامات؟ سواء كانت هذه الأفعال من الظلمة والطغاة في مجتمعات المسلمين أو حتى من قبل الأعداء المتربصين بالأمة.

ولا بد لهذه النصرة من قوة إيمان، وصدق مع الله، ووحدة تجمع بين القلوب، وقوة تحمي الحق، وتصون العرض، وتردع الباغي والظالم.

ولا بد أن يبعث هذا الخلق في المجتمعات وبين الأفراد، ليقام الحق، ويسود العدل، ويتعاون الجميع، وتتآلف القلوب.

فاللهم انتقم من الظالمين بالظالمين، وأخرجنا من كيدهم سالمين، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي