الكبد الذي هو الشدة والكلفة؛ ملازم لابن آدم فهو في شدة في الرحم، ثم في المهد بعد ولادته، ثم يدُبُّ على الأرض طفلاً صغيراً، ثم هو على خطر عظيم عند بلوغه وتكليفه، ومكابدة عيشه، ثم في شيخوخته بعد ضعف قوته وفتور عزيمته، ثم مكابدة الموت وما بعده في البرزخ، وموقف القيامة، ولا.....
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاسمعوا -عباد الله- حقيقة هذا الإنسان من خالق الإنسان: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك: 14].
إنَّ الله تعالى يقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4].
أجل عباد الله: هكذا خلق الإنسان في كبد، أي: مكابد لأمور كثيرة.
فلا يرى ابن آدم إلا مكابداً أمر الدنيا والآخرة.
قال الحسن: "لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم".
وفي تفسير الآية، قال ابن عباس -رضي الله عنه-: في كبد في حمله وولادته ورضاعه وفصاله، ونبت أسنانه وحياته ومعاشه ومماته، كل ذلك شدة.
فالكبد الذي هو الشدة والكلفة؛ ملازم لابن آدم فهو في شدة في الرحم، ثم في المهد بعد ولادته، ثم يدُبُّ على الأرض طفلاً صغيراً، ثم هو على خطر عظيم عند بلوغه وتكليفه، ومكابدة عيشه، ثم في شيخوخته بعد ضعف قوته وفتور عزيمته، ثم مكابدة الموت وما بعده في البرزخ، وموقف القيامة، ولا راحة له إلا في الجنة.
وهذا كبد عام وكلفة يشترك فيها كل أحد، ثم يطرأ على كَبَدِه كَبَدٌ آخر في أمور دينه أو دنياه.
فمن الكبد الخاص بالدين: المشقة التي قد يجدها الإنسان في تحقيق عبوديته لله مصداقاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره".
من الكبد في الدين: قلة المعين على الخير، بل ربما يجد من يثبطه عن الصالحات ويعيقه عن أسباب الصلاح والتزود من الباقيات.
فإن سلم من المعيق فقد لا يسلم من الملهي عن ذكر الله، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) [المنافقون: 9].
ولا مخرج من هذا الكبد إلا بالاستعانة بالله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5].
فيصدق المؤمن توجهه إلى الله، ورغبته فيما عنده، ويسأله الإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وإذا فعل ذلك، فالله تعالى يقول: (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ) [محمد: 21].
ومن الكبد في الدين: منازعة النفس الأمارة بالسوء، والتغلب على نزعات الشيطان من الإنس والجنَّ.
فهو في جهاد مع نفسه يكابد منها دعوة للمعصية، وتزييناً للباطل، وتحديثاً بالتوبة بعد الحوبة، وأوبة بعد الغيبة.
فما أعظم هذا الكَبَد، وما أشد ذلك الجهاد، جهاد بلا قتال، ومقارعة بلا سيف ولا نبال.
(وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت: 6].
جهاد مع النفس لا تراق فيه الدماء، ولكن من هزم فيه قد يراق من قلبه الإيمان ولا يبقى فيه لربه حياء.
ومن الكَبَد: أن يبتلى الإنسان بأمور نفسية، وعلل قلبية، وشكوك ووساوس يقذفها الشيطان في قلبه، وينفثها في روعه، فهو يكابدها، وفي ضيق منها، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، فقال: "تلك محض الإيمان".
وقد شكا الصحابة ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقد وجدتموه؟ "قالوا: نعم، قال "ذاك صريح الإيمان".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته".
كل هذا من الكبد يقع في قلب الإنسان، ومن رحمة الله وعفوه ألا يؤاخذ به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا".
وأما الكبد في أمور الدنيا، فكما قال الأول:
حكم المنية في البرية جار **** ما هذه الدنيا بدار قرار
جبلت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الأقذاء والأقذار
فالاشتغال في تحصيل الرزق، وسد الحاجة، وفي دفع فتنة الفقر من أشد كبدها، وأكبر كدحها.
وفي سنن الترمذي وصححه الألباني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أصبح والدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، وكان الله بكل خير إليه أسرع".
يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الفقر يصلح عليه خلق كثير، والغنى لا يصلح عليه إلا أقل منهم".
ثم الكبد في معاملة الناس، وتنزيل كل منزلته، والصبر على أذاهم، كل في مجاله فصاحب المحل في بيعه وشرائه، والموظف مع مراجعيه، والمعلم مع طلابه، ورجل الأعمال مع مكفوليه، وعماله، والرجل في حيه ومع جماعة مسجده.
كل هؤلاء ليوطنوا أنفسهم على كبد يأتيهم، ونكد يعتريهم، وقد قال النبي الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" [رواه ابن ماجه من حديث ابن عمر بإسناد حسن].
ويخص من كبد التعامل مع الناس الكبدُ في التعامل مع الزوجات تلك المخلوقات الناقصات، وقد خلقن من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وكسره طلاقها.
ولا نغفل الكبد في تربية الأولاد، ورعاية البيت فمن أشق ما يواجهه المربي هو تربية أولاده، والمحافظة على فلذات أكباده، فلم يعد الأولادُ ذكورهم وإناثهم بمأمن عن المغريات، وبمنأ عن مضلات الفتن والمفسدات، ولا عاصم اليوم إلا من عصمه رب الأرض والسموات.
فإنَّ الإنسان قد يستعجل حظه من الدنيا راغباً الفكاك من نكدها، طالبا راحة البال، وطمأنينة النفس.
وتلك منية لكل يسعى لها.
ولكن ليعلم أن أي سبب يأخذه الإنسان زاعماً أنه يقصد بذلك حياة سعيدة وفكاكا من ضيق حل به، لا بدَّ أن يراقب الله في هذه الأسباب، فقد ثبت لكل عاقل فضلاً عن مؤمن أن راحة البال ليست في سعة الدنيا، ولا في رتب الوظائف وأصحاب الجاه.
واسألوا الرقاة الذين يعالجون الناس؛ فثلة من المتردين عليهم من ذوي المال وسعة الدنيا.
ثم لنحذر الأسباب المحرمة فهجر البيوت، وإضاعة الأولاد، ليست متنفساً لنكد الدنيا وكبدها، ومجالس البطالين، وشرب الدخان، والعكوف على الشيشة، ومشاهدة سيئ القنوات؛ كل هذه داء إلى الداء، وعلة إلى المرض.
وأما شرب المسكر، والتورط في المخدر، فهي موت الأحياء وضياع الإنسان.
أيها الإخوة: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم؛ عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر" [متفق عليه].
فاربط قلبك يا عبد الله بخالقك، واستعن به على أمور دينك ودنياك، فالحياة الحقة هي بطاعة الله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].
فجابه الحياة، وانزل للميدان، واعلم إن الأجر على قدر النصب، وإياك أن تلقي المسؤولية على غيرك.
أيها الإخوة: المؤمنون أمة واحدة، ورابطة الأخوة، لا يلغيها عدو واضح، ولا مستخف مصافح.
وإن من أعظم نكد الدنيا أن تخلط الأوراق، ويلبس الباطل لباس الحق، ويظهر المفسدون بلباس المصلحين الناصحين؛ كما قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) [البقرة : 11-12].
لذا كان بيان فساد المفسدين، ودحض شبههم من الجهاد الذي أمر الله به: (وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام: 55].
ومن نكد الدنيا: أن يشهد المسلم تلاعب أعداء المسلمين في مصائرهم، وتدخلاً عدوانياً في قضاياهم؛ حينما يحس عدوك فيك قوة، ويخشى منك تحركاً يفسد عليه مشروعة الاستعماري، وهيمنته المتعطرسة.
والمتابعون يرون كيف أن الغرب الكافر يسعى جاهداً في دفع عجلة الجهاد في سوريا إلى ساحة هو يريدها، ونهاية هو الذي يرسمها؛ لما قرب الفرج بإذن الله، ولاحت بوادر النصر، وتهاوت كثير من أعمدة عملائهم في سوريا، هاهم يناقشون تدخلاً عسكريا، أو تسليحاً للمقاتلين!.
آلان وقد تخليتم من قبل!
آلان وقد تفرجت طويلا، وذبح الشعب على مرأى منكم، ومباركاً من مجالسكم.
آلان !
أي نخوة نزلت على قلوبكم؟!
وأي نجدة تحركت في نفوسكم؟!
أما والله إنه لا نخوة ولا نجدة، ولكنه المكر والمخادعة!
(وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)[يوسف:21].
فشعب مظلوم نحسب أن الله اتخذ منهم شهداء، وسلط عليهم عدوهم ليمحصهم ويمحق الكافرين.
وكان أملهم بالله ورجاؤهم من عنده، وشهد العالم آخر كلمات يقولها رجالاتهم في آخر لحظاتهم "يا لله"، "ما لنا غيرك يا لله".
فالظن بربنا كل خير لهذا الشعب المبتلى.
وجهود تمزيق وحدته، والسعي لإفساد ذات بينه، وإشغال بعضهم ببعض، حتى يرجع بعضهم يضرب رقاب بعض الظن بربنا أن لا يفرح عدوهم عليهم، وقد قال تعالى: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر: 43].
(وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) [آل عمران: 120].
فاللهم هيأ لإخواننا في سوريا من أمرهم رشدا.
اللهم اجمع كلمتهم، ووحد صفوفهم وقو إيمانهم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي