إنَّ هذا الحديث العظيم درسٌ وموعظةٌ للصالحين، ليس فيه عذرٌ لغير الصالحين في الاتّكال على رحمة الله مع سوء العمل، وإنَّما هو درسٌ للصالحين، خاصَّةً الذين أنساهم العجبُ والكبر سَعَةَ رحمة الله -تعالى- وتوفيقَهُ للناس؛ فترى الكثيرين منهم ينظرون إلى العامَّة كما ينظرون إلى الدوَابِّ والحمير استجهالاً واستحقَارًا، وينظُرون إلى أنفسهم وعبادتهم واجتهادهم كما ينظُرُ الطاووسُ...
أما بعد: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين فكان أحدهما يذنب والآخرُ مجتهدًا في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر!.
فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر! فقال: خلّني وربي، أَبُعثْتَ عليَّ رقيبا؟!. فقال: والله لا يغفر الله لك. أو: لا يدخلك الله الجنة.
فبعث الله إليهما ملكا، فقبض روحيهما، فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي. وقال للمجتهد: كنت بي عالما؟ أو: كنت على ما في يدي قادرا؟ أي: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ فقال: لا يا رب! قال: اذهبوا به إلى النار". رواه أبو داود وصححه الألباني.
معشر المؤمنين: إنَّ الله -تعالى- واحدٌ لا شريك له، ولا نظير له في أسمائه وصفاته وأفعاله، وإذا ما قاس العقلُ صفاتِ الله -تعالى- الغنيّ القادر ذي الجلال والكمال بصفات المخلوق الضعيفِ المحتاج الناقص كان قياسُهُ فاسدًا، وظنُّهُ كاسدَا.
من صفات النقص في الإنسان الملل والفشل، وقد خُلِقَ الإنسانُ ضعيفَا؛ ولذلك تراه يملُّ ويتأفَّفُ حين لا يزالُ يتتابع عليه الفشلُ في الشيء الواحد.
غير أنَّ الآفة والجنايةَ تعظُمُ في حقِّهِ حين يقيس الخالق القويَّ الغنيَّ بنفسِهِ الضعيفَةِ المهينَة، هذا هو الهلاكُ المبين!.
في هذا الحديث صورةٌ من ذلك القياس في أمَّةِ بني إسرائيل التي سبقت هذه الأمَّة، وكم في أمَّةِ بني إسرائيل من الدروس والعبر!.
هذان صديقان من بني إسرائيل، أحدهما عابدٌ صالحٌ مجتهدٌ في العبادة، والآخرُ عاصٍ لله -عز وجل- قد تكاثرت ذنوبه ومخازيه، لطالما نصحه الصالحُ ووعظَهُ وزجَرَهُ عن المنكر، وهذا في حدِّ ذاته عملٌ صالح.
غير أنَّ الشيطان لم يدخُل على الصالح من هذا الباب؛ وإنَّما تسلَّل إليه من بابٍ خفي، فأحبطَ أعمالهُ كلَّها.
إنَّه بابُ العُجب والكبر الذي أنساه توفيقَ الله له في الطاعة والصلاح، وأنَّه محضُ فضل من الله -تعالى-، ومنَّة واصطفاء، وهو قادرٌ على خذلانه و توفيق غيره متى شاء سبحانه.
غير أنَّ الصالحَ أنساهُ الشيطانُ ذلك، فلمَّا سئمَ من النصيحة، وتحقَّق فيه الملل والفشل، ظنَّ اللهَ كذلك، فنصَّبَ نفسَهُ متحدِّثًا باسم اللهِ -تعالى- ، فقال: "والله لا يغفرُ الله لك! والله لا يُدخلُكَ اللهُ الجنَّة!".
حينها بعثَ اللهُ ملكًا فقبضَ روحيهما معًا، فخابَ ظنُّ الصالح، أدخلَ اللهُ -تعالى- العاصيَ الجنَّةَ برحمته التي وسعت كلَّ شيء؛ عبرةً للعالمين، وأحبطَ أعمالَ الصالح الذي أنساهُ صلاحُهُ نعمة الله في الاصطفاء والتوفيق؛ قال سبحانه: "كنت بي عالما؟ أو: كنت على ما في يدي قادرا؟" أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ "اذهبوا به إلى النار".
معشر المؤمنين: نعوذ بالله من حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالناس!.
إنَّ هذا الحديث العظيم درسٌ وموعظةٌ للصالحين، ليس فيه عذرٌ لغير الصالحين في الاتّكال على رحمة الله مع سوء العمل، وإنَّما هو درسٌ للصالحين، خاصَّةً الذين أنساهم العجبُ والكبر سَعَةَ رحمة الله -تعالى- وتوفيقَهُ للناس؛ فترى الكثيرين منهم ينظرون إلى العامَّة كما ينظرون إلى الدوَابِّ والحمير استجهالاً واستحقَارًا، وينظُرون إلى أنفسهم وعبادتهم واجتهادهم كما ينظُرُ الطاووسُ ريشَهُ وجمالَه. نعوذ بالله من حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالناس!.
قال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: "مَن كانت معصيتهُ في شهوةٍ فارجُ لهُ التوبة، فإنَّ آدمَ عليه السلام عصى مشتهيًا فغُفِر له، فإذا كانت معصيَّتُهُ من كبْر فاخشَ عليه اللعنة، فإنَّ إبليسَ عصى مستكبِرًا فلُعِن" رواه المقدسي في مختصر منهاج القاصدين.
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله -تعالى-: من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر له؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك".
ما الذي يحملُ العبدَ على العزم والتأكيد أنَّ اللهَ -تعالى- لا يغفرُ لفلان؟ إنَّهُ التَّألّي على الله -تعالى-، إنَّهُ الزَّهوُ وحسنُ الظَّنّ بالنفس، وإلاَّ؛ فما يدريكَ أنَّ اللهَ سيغفرُ لك أنت؟! ما يدريكَ أنَّ الله -تعالى- سيخذلُك ويوفّقُ غيرك؟!.
رحم اللهُ السلفَ الصالح فقد كانوا -على صلاحهم وتقواهم- أشدَّ النَّاس ازدراءً لأنفسهم في جنب الله -تعالى-.
عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي أبي بكر -رضي الله عنه-: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما يا علي" صحيح الجامع.
سبحان الله! القومُ بُشّروا بالجنَّة وهم يمشون على تراب دنياك! ومع ذلك حفرت الدموع خطَّين في وجه عمر!.
ولما دنت ساعة وفاة أبي بكر -رضي الله عنه- وكان على الفراش يعالج سكرات الموت قال لابنته عائشة: "قولُ الله أصدق: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق:19].
أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارًا ولا درهمًا، ولكنَّا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خيش ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليلٌ ولا كثير إلّا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا متُّ فابعثي بهنَّ إلى عمر، وابرئي منهن. قالت: ففعلت" رواه ابن سعد في الطبقات.
الله أكبرُ الله أكبر! وهو على فراش الموت، استدعى عمرَ بن الخطَّاب فأوصاه، فكان في جملة ما قال له: "اتق الله يا عمر، إن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن ما عملوا، وتجاوز عن سيئاتهم، فإذا ذكرتُهم قلت: إني أخاف أن لا ألحق بهم.
وإنه -سبحانه- ذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم، وردَّ عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم قلتُ: إنّي لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء" رواه أبو نعيم في الحلية. ورُوي في صفة الصفوة.
نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله التوفيق لما يحب ويرضى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
معشر المؤمنين: نعوذ بالله من سنن اليهود والنصارى، فإنَّ سُنَنَهم لتستعرُ في العقول والقلوب والأوضاع.
ومن سننهم في القلوب حسنُ الظنّ بالنفس وسوء الظنّ بالآخرين، وهو ما قصَّهُ اللهُ عنهم، فقال -سبحانه-: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير) [المائدة:18].
كم من الذنوب العظام التي اجترحناها في السرّ والعلانية في حق الله -تعالى- وفي حق الناس، ولا نراها إلا كالذباب على الأنف نهشُّ عليه فيطير؟!.
اللسانُ يعصي، والعينُ تعصي، والسمعُ يعصي، والرجل تعصي، واليدُ تعصي، وكلُّ شيء فينا يعصي الله -تعالى- آناء الليل وأطراف النَّهار، ثم نصبح نتزيَّن لبعضنا البعض، واللهُ لا تخفى عليه خافية.
قال الله -تعالى-: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى) [النجم:32].
هو أعلمُ بمن اتَّقى: فلا داعيَ للتفاخُر والتكاثر!.
هو أعلمُ بمن اتَّقى: فلا داعيَ للتكبُّر والانتفاش كالطاووس!.
هو أعلمُ بمن اتَّقى: فلا داعيَ للعُجب والكبر والبَطر!.
أيها العبدُ الصالح: التواضُعَ التواضُع! لن يدخلَ أحدٌ الجنَّة بعمله، ففيم الاستعلاء والانتفاشُ كالطاووس؟.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قاربوا وسددوا وأبشروا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" متفق عليه.
إن الله أدخل امرأةً النار في هرة حبستها فماتت جوعًا وعطشًا! فلا تأمن مكرَ الله -جلَّ وعلا-!.
وإنَّه سبحانه غفرَ لبغيٍّ من بغايا بني إسرائيل حينما سقت كلبًا شربةَ ماء، فلا تقنّط النَّاس من رحمة الله -تعالى-.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دنت مني النار حتى قلت أي رب وأنا معهم! فإذا امرأة تخدشها هرة، قلت ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعا، لا هي أطعمتها ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض" صحيح الجامع.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بينما كلب يطيف بِرَكِيَّة كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فاستقت له به؛ فغفر لها" صحيح الجامع.
معشر الصالحين: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، واشكروا اللهَ -تعالى- على ستره عليكم، واستغفروه ثم توبوا إليه، فوالله! لو كان لذنوب السرّ وفضائح الخلوة نتنٌ في الدنيا لما استطاع بعضنا السلام على بعض!.
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.
اللهم إنا نسألك الصدق والإخلاص، ونعوذ بك من الكذب والنفاق ومساوئ الأخلاق.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي