وقفنا في الخطبة الماضية عند أبواب الجنة وقوف انبهار لا وقوف انحسار، انبهار بما قد عم الواقفين من الفرح والسرور، والبهجة والحبور، وقد تفتحت الأبواب، وتوزعت عبارات التهنئة والترحاب: (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر:73]. ودار الكرَم يشم عَرفها قبل تبلج عُرفها، ويستدل عليها بها، فكيف وقد فتحت الأبواب، وأذن للصالحين بالولوج إلى تلكم الرحاب؟ رحاب اليمن والرضوان، والسعادة التي لا تشوبها أحزان، ورب...
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمـــُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أزكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: وقفنا في الخطبة الماضية عند أبواب الجنة وقوف انبهار لا وقوف انحسار، انبهار بما قد عم الواقفين من الفرح والسرور، والبهجة والحبور، وقد تفتحت الأبواب، وتوزعت عبارات التهنئة والترحاب: (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر:73].
ودار الكرَم يشم عَرفها قبل تبلج عُرفها، ويستدل عليها بها، فكيف وقد فتحت الأبواب، وأذن للصالحين بالولوج إلى تلكم الرحاب؟ رحاب اليمن والرضوان، والسعادة التي لا تشوبها أحزان، ورب راض غير غضبان.
فتخيل نفسك وأنت في تلك الجموع، مبادرا مع المبادرين، مسرورا مع المسرورين، بأبدان قد طهرت، ووجوه قَدْ أشرقت وأنارت، فهي كالبدر، قَدْ سطع نوره، فَلَمَّا جاوزت بابها، ووضعت قدميك على تربتها، وهي مسك أذفر، والمسك مصبوب على أرض من فضة، والزعفران نابت حولها، فأَنْتَ تتخطى فِي تراب المسك، ورياض الزعفران، وعيناك ترمقان حسن بهجتها، وجمال أشجارها، وزينة تصاويرها.
فبينما أَنْتَ تتخطى فِي تلك العرصات النورية، والبقاع القدسية، إذ نودي فِي أزواجك وولدانك وخدامك وغلمانك وقهارمتك، أن فلانَا قَدْ أقبل، فأجابوا مستبشرين لقدومك، كما يبشر أَهْل الغائب فِي الدُّنْيَا بقدومه، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فبينما أَنْتَ تنظر إِلَى قصورك وخيامك وما أعده الله لك من ألوان الإكرام مما لا يمكن أن يدركه خيالك الآن، إذ بك تسمع صوت غلمانك وخدامك مرحبين بك مهنئين لك، فزاد ذلك فرحك واستبشارك.
أما أزواجك المطهرات من الحور العين لما جاءتهن البشارات بقدومك إليهن لم يتمالكن أنفسهن فرحا فأردن الخروج إليك مبادرات إلى لقائك، لولا أن كتب الله لهن القصر في الخيام، كما قال ربك: (حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) [الرحمن:72].
فوقفن والشوق يحدوهن، متى تبدو لهن صفحة وجهك؛ ليسكن بذلك شوقهن وأنينهن بالنظر إلى قرة أعينهن، ومعدن راحتهن.
وبينما أنت ترفل في كثبان المسك ورياض الزعفران وقد رميت ببصرك إلى حسن بهجة قصورك، إذ استقبلك قهارمتك بنورهم وبهائهم، وهم الحُجّاب، فاستقبلك أول قهرمان لك، فأعظمت شأنه وظننت أنه من الملائكة لنوره وعظمته وبهائه، فقال لك: يا ولي الله، إنما أنا قهرمانك وكلت بأمرك، ولك سبعون ألف قهرمان سواي، ثم تابعه القهارمة ببهائهم ونورهم، كل يسلم عليك ويعظمك.
فتخيل تبخترك في موكب من قهارمتك وخُدّامك، يزفونك زفا إلى قصورك، وما أعد الله لك من جميل الإكرام وعظيم الإحسان.
فلما أتيت باب قصرك، فتحت الحجاب أبوابك، ورفعت لك الستور، وهم قيام على أقدامهم لك معظمين، بقدومك مستبشرين، فتخيل ما عاينت حين فتحت أبواب قصر من قصورك ورفعت ستوره، من حسن بهجة مقاصيره، وزينة أشجاره، وحسن رياضه، واتساق بنيانه، وتلألؤ صحنه، واتساع ساحاته، ونور جنباته.
فبينا أنت تنظر إلى ذلك الملك العظيم الذي قال الله عنه: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان:20]، بينما أنت في ذلك الانبهار إذ بادرت البشرى من خدامك ينادون أزواجك: هذا فلان ابن فلان قد دخل من باب قصره، فلما سمعن نداء البشرى بقدومك ودخولك توثبن من الفرش على الأسرة في الحجال، فنظرت إلى وثوبهن مستعجلات قد استخفهن الفرح وأخذهن الشوق إلى رؤيتك.
يقول ابن القيم -رحمه الله- في النونية:
ورأوا على بعدٍ خِياماً مُشْرِفَا *** تٍ مشرقاتِ النُّور والبرهانِ
فتيمّموا تلك الخيامَ فآنسوا *** فيهنَّ أقماراً بلا نقصان
مِن قاصراتِ الطَّرْفِ لا تبغي سوى *** محبوبها من سائر الشبان
إلى أن يقول:
حورٌ حِسَانٌ قد كملن خلائقاً *** ومحاسناً من أجمل النسوان
حتى يَحَارَ الطَّرْفُ في الحُسْنِ الَّذِي *** قد ألبسَتْ في الطرفِ كالحيران
كمُلَتْ خلائقُها وأُكْمِلَ حُسْنُها *** كالبدْرِ ليلَ السِّتِّ بعد ثَمَانِ
فما ظنك يا عبد الله بأزواج قال الله فيهن: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ) [البقرة:25]؟ قال ابن المبارك -رحمه الله-: حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ)، قال: "مِنَ الْحَيْضِ، وَالْغَائِطِ، وَالنُّخَامَةِ، وَالْبُزَاقِ". وقال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس -رضي الله عنهم-: (مُّطَهَّرَةٌ) " لا يَحِضْنَ، وَلا يُحْدِثْنَ، وَلا يَتَنَخَّمْنَ".
فما ظنك يا عبد الله بقوله: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) [الرحمن:58]؟ قال الحسن وعامة المفسرين: "أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان"، شبههن في صفاء اللون وبياضه بالياقوت والمرجان، قال عبد الله: "إن المرأة من نساء أهل الجنة لتلبس، عليها سبعون حلة من حرير، فيرى بياض ساقها من ورائهن، ذلك بأن الله يقول: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ)، ألا وإن الياقوت حجر لو جعلت فيه سلك ثم استصفيته نظرت إلى السلك من وراء الحجر".
ويقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم أو موضع قيده -يعني سوطه- من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا، ولأضاءت ما بينهما، وَلَنَصِيفُها -يعني خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها" رواه البخاري.
وذكر ابن أبي الدنيا عن صالح المري عن زيد الرقاشي قال: بلغني أن نورا سطع في الجنة وما موضع من الجنة إلا دخل من ذلك النور فيه، فقيل: ما هذا؟ قال: حوراء ضحكت في وجه زوجها. قال صالح: فشهق رجل من ناحية المجلس، فلم يزل يشهق حتى مات.
وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن القيم في النونية:
والبرقُ يبدو حينَ يبسُم ثغرُها *** فيضيء سقْفَ القصر بالجدرانِ
ولقد روينا أن برقاً ساطعاً *** يبدو فيُسْأل عنه مَن بجنان
فيُقال هذا ضوءُ ثغرٍ ضاحكٍ *** في الجنَّةِ العليا كما تريان
لله لاثِمُ ذلك الثَّغْرِ الَّذي *** في لَثْمِهِ إدراكُ كُلِّ أَمَان
عن علي -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة لمجتمع للحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها، يقلن: نحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَبِيدُ، وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْؤُسُ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ لَنَا وَكُنَّا لَهُ" رواه الترمذي.
إنها لذة النظر ولذة الاستماع، قال -تعالى-: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) [الروم:15].
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :" إِنَّ أَزْوَاجَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُغَنِّينَ أَزْوَاجَهُنَّ بِأَحْسَنِ أَصْوَاتٍ سَمِعَهَا أَحَدٌ قَطُّ، إِنَّ مِمَّا يُغَنِّينَ بِهِ: نَحْنُ الْخَيْرَاتُ الْحِسَانُ، أَزْوَاجُ قَوْمٍ كِرَامٍ، يَنْظُرْنَ بَقَرَةِ أَعْيَانٍ. وَإِنَّ مِمَّا يُغَنِّينَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلا يَمُتْنَهْ، نَحْنُ الآمِنَاتُ فَلا يَخَفْنَهْ، نَحْنُ الْمُقِيمَاتُ فَلا يَظْعَنَّهْ" رواه الطبراني في الصغير ورجاله رجال الصحيح.
فتخيل نفسك وقد تدلت عليك ثمار أشجارك، واطردت أنهارك من الخمر واللبن، والماء والعسل المصفى من تحتك، وأنت جالس مع زوجاتك على أريكتك، وقد حف الخُدام والولدان بقبتك، وسمعت زجلهم بالتقديس لربك، وقد أطلعهم الله على كل ما اشتهت نفسك فسارعوا إلى كل ما حدثت به نفسك من أنواع كرامتك وسرورك وأمانيك، فأتوك بكل أمنياتك.
قال ربك: (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الزخرف:71]، وقال عز جاهه: (لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق:35].
فتخيل نفسك وأنت مع زوجك بأكمل الهيئة وأتم النعمة، وقد حار فيها طرفك تنظر إليها متعجباً من جمالها وكمالها، وقد طرب قلبك بملاحتها، وأنس قلبك بها من حسنها، فهي منادمة لك على أريكتك تنازعك وتعاطيك الخمر والسلسبيل والتسنيم في كاسات الدر وأكواب قوارير الفضة.
فيا لها من دار! لا يشقى داخلها، ولا يبأس ساكنها، ولا يمل نازلها!.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي يسبحه الـمُـلك والـَملك، والفُلك والفَلك، والنور والحلك، والسبيل ومن سلك، إذا أعرض عن عبد هلك، وإذا أعان فقيرا ملك.
والصلاة والسلام على الرسول الأكرم، والإمام الأعظم، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا بحبه، وسعدوا بقربه، وعلى من سار على نهجهم إلى يوم وعيده ووعده.
معاشر الصالحين: أما الأنهار فإنها من تحت البيوت ومن تحت الخيام، وإنها لتجري بإذن رب العالمين في ساحة الجنة هناك أمام الأشجار وقرب الخيام اللؤلؤية، قال ربك: (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
فهي أنهار جارية من تحت القصور ومن تحت الدور، وهي أنهار من ماء ليس كماء الدنيا، وليست من الماء فقط، يقول مولاك: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى) [محمد:15]، أنهار من ماء غير آسن: أي غير متغير ولا مغبر ولا ملوث، صافٍ، صفاه الله بالمصافي الإلهية.
وأنهار الماء في الجنة، كما قال أهل العلم: أحلى من العسل، وأبيض من اللبن، وأبرد من الثلج؛ يتلذذ المؤمنون بشربها في كل وقت، فهي لا تنقطع أبداً، وهي أنهار أجراها رب العالمين بلا أخدود.
يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدوداً في الأرض! لا والله! إنها لسائحة على وجه الأرض، إحدى حافتيه اللؤلؤ، والأخرى الياقوت، وطينه المسك الأذفر". قال: قلت: ما الأذفر؟ قال: "الذي لا خلط فيه" صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
فهي تجري كالأخاديد على ساحة الجنة، تجري بإذن الله الذي إذا أراد شيئا قال له: "كن فيكون"، وهي تنبع من بحار ، فقد روى الإمام أحمد والترمذي والبيهقي وغيرهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "في الجنة بحر الماء، وبحر اللبن، وبحر العسل، وبحر الخمر؛ ثم تشقق الأنهار منها بعد" والحديث صححه الألباني.
فيا معاشر الصالحين: احرصوا على أنهار الجنة، على أنهار اللبن الجارية، فهي من لبن لم يتغير طعمه، لا يتغير ولا يتحمض؛ إنما يبقى على لذته، على ذوقه الذي لا يعلمه إلا الله.
وأنهار الخمر التي لا تصدع الرؤوس، قال ربك: (يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ *بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ)، لا تغتال العقول، (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) [الصافات:45-47]
وقال ربك (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ) [الواقعة:17-19].
فيا من تركتم الخمر في الدنيا خوفا من الله وطلبا لمرضاته، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرم منها في الآخرة".
فالمؤمنون تركوا الخمر خوفا من الله واستسلاما لأمر الله وطلبا لرضوانه، فهم في الجنة ينهلون من الخمور، حيث سيجدون الكؤوس جاهزة، قال ربك: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) [النبأ:34]، أي: مملوءة بالخمر متدفقة بإذن الله، (لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة:33].
أين المشتاقون لعيون الجنة؟ لعين الكافور والسلسبيل والتسنيم وغيرها من العيون؟ (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) [الإنسان:5-6].
قال العلماء: إن المؤمنين في الجنة يفجرون عين الكافور من أي بقعة شاءوا، إذا أردت من بين قدميك تنبع بإذن الله رب العالمين، فتشرب ما شئت، ثم تعود كما كانت، فإذا مضيت إلى مكان آخر وأردت أن تفجرها من ذلك المكان فجرها الله لك.
وأما الأشجار فلا تسل عن الحسن والروعة والإبداع الذي لا يخطر على بال، فهي تختلف عن أشجار الدنيا حجما وانتشارا واعتدالا وفاكهة ومذاقا وظلا، جذوعها من الذهب، يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب" رواه الترمذي وصححه الألباني.
أخذ سلمان الفارسي -رضي الله عنه- يوما عويدا صغيرا بين يديه، ثم قال لجرير -رضي الله عنه-: "لو طلبت مثل هذا في الجنة لم تجده"، فقلت: يا عبد الله، فأين النخل والشجر؟ قال: "أصولها الذهب واللؤلؤ، وأعلاها الثمر".
وجاء عند الحاكم وغيره من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "نخل الجنة جذوعها من زمرد أخضر، وكربها من ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة". قال العلماء: "الكرب: هو أسفل السعف"، ذلك العريض، هذا من ذهب أحمر، وأصول النخلة من الزمرد الأخضر، وسعفها حلل أهل الجنة يجدونها مفصلة جاهزة يلبسونها بألوانها المختلفة. ثم قال ابن عباس: "وثمرتها كالقلال".
فهذه النخلة على جمالها واتساق ألوانها بين الذهب الأحمر والزمرد الأخضر فيها الثمرة كالقلة الكبيرة.
ثم يصف ابن عباس هذا الثمر فيقول: "أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، ليس فيه نوى".
جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله، ما طوبى؟" قال -عليه الصلاة والسلام-: "شجرة مسيرة مائة سنة، ثياب أهلها تخرج من أكمامها" رواه ابن حبان وصححه الألباني.
ويقول -صلى الله عليه وسلم- "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة عام ما يقطعها".
يقول ربك: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ) [الواقعة:27-31].
ويقول سبحانه (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا) [النبأ:31-32]، وهذه الحدائق يتخللها شجر السدر، قال أبو أمامة -رضي الله عنه-: " كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقولون: إن الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم، أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله، لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها. فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "وما هي؟"، قال الأعرابي: السدر، فإن لها شوكا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: " أليس الله يقول (في سدر مخضود)؟ يخضد الله شوكه فيجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها لتنبت ثمرا تفتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام، ما فيها لون يشبه الآخر" رواه الحاكم وصححه الألباني.
أيها المؤمنون: إنها الجنة التي قال عنها ربنا في كتابه الكريم: (فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ) [الرحمن:52]، مع جمال أشجار الجنة، وحسن مناظرها، فهي تحمل من كل فاكهة زوجين؛ فإذا كان السدر يحمل ثمرا تفتق الثمرة منه عن اثنين وسبعين لونا من الطعام، فكيف بالنخيل والرمان والعنب وغير ذلك؟.
ومع عظم أشجارها فغرسها سهل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له نخلة في الجنة".
وعندما لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- خليل الله إبراهيم حين عرج به قال: "يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" رواه الترمذي وصححه الألباني.
فتخيل نفسك يا عبد الله وأنت تتقلب في هذا النعيم المقيم وقد زحزحت عنك كل آفة، وأزيل عنك كل نقص، وطهرت من كل دنس، وأمنت فيها من الفراق؛ لأن الله -تعالى- قد قصد قلبك فقال للهموم: زولي عنه فلا تخطري له أبدا، وقال للسرور: تمكَّنْ فيه فلا تزل منه أبدا، وقال للأسقام والأمراض: زولي عن جسمه فلا تعرضي له أبداً، وقال للصحة: أقيمي في بدنه فلا تبرحي أبدا، وذبح الموت وأنت تنظر إليه، فأمنت الموت فلا تخافه أبدا، ولا زوال ترتقبه، ولا سقم يعتريك أبدا، ولا موت يعرض لك أبدا، قد منحت جوار ربك، ترفل في أذيالك، لا تخاف سخطه أبدا بعد رضاه.
ولهذا -عباد الله- يجب علينا جميعا أن نجد في طلب الجنة، فإن الجنة تنطوي تحت لواء طاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ومن أراد الجنة فليتبرأ من الشرك، ظاهره وخفيه، وليتبرأ من البدع والمحدثات، وليتبرأ من المعاصي والذنوب.
من أراد الجنة فليقبل على الطاعات والقربات، والأذكار والصلوات، وصلة الأرحام والصدقات، وترك الربا والرشوة وكل المهلكات.
وليتصف بالبر وحسن الأخلاق، وليتطهر من الشقاق والنفاق، وليقبل على التضرع إلى الله بأن يجعله من أهل الجنة؛ فإنك لا تدري -يا عبد الله- قد تصادف ساعة استجابة فيفتح الله لك أبواب الجنة، فقد قال ربنا مخبرا عن أهل الجنة وهم يذكرون فضل الله عليهم: (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور:26-28].
فاللهم يا بر يا رحيم قنا عذاب السموم، اللهم يا بر يا رحيم قنا عذاب السموم، اللهم يا بر يا رحيم قنا عذاب السموم...
تأملات في بعض مشاهد يوم القيامة (1)
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي