فالإخلاصُ هو إجابةٌ عن سؤالٍ واحد، السؤال يقول: لأجْلِ مَن عمِلْتَ كذا، وتعملُ كذا؟ لأجل مَن قلتَ وفَعَلْتَ؟ ما هو دافعُكَ مِن وراءِ ذلك؟ والإجابةُ مكانُها قلبُكَ، وقلبك لا... وأصبحت الوجاهات والتفاخر والتظاهر والمجاملة والتملق مسيطرة على قلوب بعض المسلمين وساكنة في نياتهم، فغيبت منها...
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومَن يُضْلِل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد: في صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ".
هذا ميزان من موازين الخالق -سبحانه- التي يتعامل بها مع خلقه. فالله -سبحانه- لا تعنيه أجسام الناس، ولا مظاهرهم، ولا جمالهم؛ فلم يجعلْ -سبحانه- شيئاً من ذلك مقياساً يقرّب به هذا أو يبعد به ذاك، ولكن محَطّ اهتمام الخالق -سبحانه- هو ما قاله لك رسولك -صلى الله عليه وسلم-: "وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ".
فأعمالك هي محَطّ نظر خالقك -سبحانه-، وقلبك هو محَطّ نظر خالقك -سبحانه-؛ لأن الله يريد أن يرى منك، أيها المؤمن، أعمالاً مشروعة، ويريد أن تكون أعمالك هذه خالصة له -سبحانه-.
يريد الله أن يرى قلوباً مخلصة له، يريد قلوباً صادقة النية، يريد قلوباً يبتغي بها أصحابُها وجهَه -سبحانه- فيما يقومون به من أعمال.
أيها الإخوة المؤمنون: ونحن الآن في زمان قد طغت علينا فيه الحياة المادية، والانشغال بالظاهر عن مشاهدة الباطن، فأصبحت أعمال بعض المسلمين مرتهنة بمصالح دنيوية مادية، لا يعطي إلا إذا أخذ، ولا يعمل عملا إلا بدافع دنيوي ومادي.
وأصبحت الوجاهات والتفاخر والتظاهر والمجاملة والتملق مسيطرة على قلوب بعض المسلمين وساكنة في نياتهم، فغيبت منها إخلاص العمل لله -تعالى-؛ بل ضغطت علينا الحياة المادية حتى بات بعضنا يعمل في اليوم أعمالا صالحة متنوعة، ولكنه لا ينتبه فيها إلى نيته، ولا يسأل فيها نفسه: هل هو مخلص في عمله هذا لله -تعالى-؟.
نعم، خَفتَت عبودية الإخلاص، وبهت بريقها، وذهبت بركاتها، وضعف حضورها في قلوب كثير من المسلمين إلا من رحم ربك، ونُسيت هذه العبودية وطُويت من بواطن كثير منا، ومن اهتماماتهم وفكرهم إلا من رحم ربك.
فكم نفعل ونفعل! وكم نقول ونقول! وكم نعمل ونعمل! وكم نعطي ونعطي! دون أن يكون الإخلاص لله في كل ذلك شاخصا بين أعيننا، وحاضرا في نياتنا.
نعم يا عباد الله، الإخلاص لله، وما أدراك ما الإخلاص لله؟.
الإخلاص لله، أعظم عبودية لله -تعالى- شغلت بال الصدّيقين، وأهمّت نفوس العابدين، وسطرت أوراق الصالحين. حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله في حديث: "إنما الأعمال بالنيات": هذا الحديث ثلث العلم، وقال الإمام يحي ابن كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.
الإخلاص لله ليس نافلة في شريعة الله، بل هو واجب عظيم من واجبات الإيمان، وليس الحديث عنه مجرد موعظة عابرة، لترق لها القلوب، بل هو حديث عن أمر رباني، وأصل إيماني، يجب القيام به.
الإخلاص، أيها المؤمنون، هو شرط الله وأمره، اشترطه الله على عباده المؤمنين به وأمرهم به، شرطٌ من حَققه قَبِلَ اللهُ عمَله، ومن نكث فيه رد الله عليه عمله، قال ربك -سبحانه-: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة:5]، وقال -سبحانه-: (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [غافر:65]، وقال -سبحانه-: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) [الزمر:2]، وقال -سبحانه-: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) [الزمر:11].
قال الشوكاني: "الإخلاص: أن يقصد العبد بعمله وجه الله -سبحانه-.
فالإخلاصُ هو إجابةٌ عن سؤالٍ واحد، السؤال يقول: لأجْلِ مَن عمِلْتَ كذا، وتعملُ كذا؟ لأجل مَن قلتَ وفَعَلْتَ؟ ما هو دافعُكَ مِن وراءِ ذلك؟ والإجابةُ مكانُها قلبُكَ، وقلبك لا يطَّلِعُ عليه إلا علَّامُ الغُيُوب.
فإن عملت العمل لوجه الله قُبِل، وإنْ عملته طلباً لممدحة الناس، وللدنيا، ورياءً وسمعةً، رُدّ عملك عليك.
هذه قاعدة أرساها نبينا -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الحسن الصحيح، عن أبي أمامة، قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فقال رسول الله: "لا شيء له"، فأعادها ثلاث مرات، ويقول الرسول: "لا شيء له"، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغى به وجهه" حديث حسن صحيح.
ولذلك قال ابن القيم: "لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح، والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار".
وقال ابن المبارك: "رب عمل صغير تكثره النية، ورب عمل كبير تصغره النية".
أيها الإخوة المؤمنون: لقد رفع اللهُ مكانة المخلِصين، وأحبهم، وتحدث عنهم في القرآن العظيم، فقال -تعالى- مخاطبا نبيه -صلى الله عليه وسلم- وهو سيد العالمين: (واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف:28]، جالسْ هؤلاء الثلّة الفقيرة الضعيفة البسيطة، في المجتمع العالية المنزلة عند الله؛ لأنها مخلصة له -سبحانه-، (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، هذا هو سر اهتمام الله بهذه الفئة البسيطة من الناس وإعراضه عن عِلْية القوم الذين طمست قلوبهم صراعات الجاه وطلب الوجاهة.
نعم، رفع اللهُ من مقام المخلصين ووعدهم بأنه سيرضيهم في الآخرة، كما قال ربك -سبحانه-: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل:19-21].
فيا أيها المؤمن: حينما تعمل الأعمال الصالحة أيّاً كان نوعها: عبادات أو معاملات أو زيارات أو مساعدات، أعمالا دنيوية أو أعمالا دينية، أعمالا فردية أم أعمالا جماعية، كن فيها مخلصا لله -تعالى-، كن صادق النية مع خالقك الذين يعلم ما في الصدور، اجعل مقصدك فيها وجه الله -سبحانه-، لا تطلب من وراء أعمالك ومواقفك ممدحة الناس، ولا شهرة، ولا وجاهة، فكلّ ذلك باطل عند الله مبطل لثوابك.
فكنْ من أولئك الذين قال الله فيهم مادحاً لهم: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان:9].
قلْ في نفسك وبينك وبين الله: إنما نتصدق عليكم، إنما نساعدكم، إنما نعلّمكم، إنما نضيّفكم، إنما نخدمكم، إنما نعطيكم، لوجه الله، نعم، لوجه الله، لا نريد من الناس جزاء ولا شكورا ولا مقابلاً ولا وجاهة.
حتى لو بنيت مسجداً فكن فيه مخلصا لله -تعالى-، ففي الحديث الصحيح، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من بنى مسجدا، يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة".
ابتغ وجه الله بأعمالك الاجتماعية واليومية وهي كثيرة جدا، كما قال لك ربك -سبحانه-: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
أقول قولـي هـذا وأستـــغفر الله...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: أيها المسلم، لا تلتفت بأعمالك لإطراء الناس عليك، ولا تعمل لأجل الناس بل أخلص لرب الناس، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: "وصدقة السر تطفئ غضب الرب".
وقال الحسن البصري: "إنْ كان الرجل جمع القرآن ولما يشعر به الناس، وإنْ كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة ولما يشعر الناس به، وإنْ كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ولم يشعر الناس به".
نعم، بإخلاصك، أيها المؤمن، يستجيب الله الدعاء، وينزل نصره، هذا ما أبلغنا به نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- حينما قال كما في الحديث الصحيح: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم".
بإخلاصك، أيها المؤمن، يحفظك الله من السوء، قال -تعالى-: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف:24].
بإخلاصك، أيها المؤمن، يفرج الله كربك، وييسر أمرك: كما في قصة الثلاثة الذين أغلق عليهم الغار فما فرج الله عنهم إلا بأعمال كانوا قد أخلصوا فيها لله -تعالى-، ولذلك كل واحد منهم، قال: "اللهم إن كنت قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنا ما نحن فيه".
يا أيها المسلم: بالنية الخالصة الصادقة تنال أجر العاملين وإن لم تعمل مثل عملهم، وهذا من فضل الكريم -سبحانه- على المخلِصين، كما في الحديث الصحيح، أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِه".
بإخلاصك -أيها المسلم- في أعمالك وأقوالك، يرفع الله مقامك، ويعلى درجاتك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه- كما في الحديث الصحيح: "إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً".
يإخلاصك ينفع الله بك، ويكتب لك القبول؛ سئل حمدون القصار: "ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن؛ ونحن نتكلم لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق".
فإخلاصك لله فيه من الخير ما لا يعلمه إلا الله -سبحانه-، كما قال -سبحانه-: (ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الروم:38].
فكن من عباد الله المخلِصين.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا يا رب العالمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي