إننا بحاجة إلى تدريس أدب الخلاف في مدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا، وتدريب الشباب والفتيات على ممارسته عملياً؛ ليتحول إلى عادة وإلى عبادة في الوقت ذاته. ولم يعد مُجدياً تسفيه الآخرين مهما كانت ضحالة أفكارهم، أو تفاهة حججهم، بل لا بد من الاستماع إليهم، ومنحهم الأهمية والاحترام، ومقارعة...
قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود:118-119].
جميع الأوطان تضم شرائح مختلفة، وثقافات متنوعة، وأفكارا وقيما وآراء متباينة، وليس كل الناس لهم نفس التفكير، وذات الرأي.
فالتنوع والتمايز والتعدد والاختلاف هو سنة إلهية كونية مطردة في سائر عوالم المخلوقات؛ فالإنسانية التي خلقها الله من نفس واحدة تتنوع إلى شعوب وقبائل وأمم وأجناس وألوان.
وهذا التنوع والاختلاف والتمايز يتجاوز كونه "حقّا" من حقوق الإنسان، إلى حيث هو "سنة" من سنن الله.
ليس المشكلة أن نختلف، فالاختلاف سنة؛ ولكن المشكلة الحقيقية أننا لا نعرف كيف نختلف!.
هل تمتلك أمة من الأمم في الأرض كلها هذا التراث الذي نمتلكه نحن من القرآن الكريم، وحديث النبي العظيم، والتاريخ الإسلامي الذي يرشدنا إلى أهمية الاتحاد واجتماع الكلمة؛ ليرقى بذلك ليكون أصلاً من أصول الدين، وأمراً ربانياً تضمَّنه القرآن الكريم، وتأكيداً نبوياً فيما لا يحصى من الأحاديث الصحيحة الصريحة، وتطبيقاً عملياً لحياة الصحابة والتابعين؟!.
بينما تجد واقع المسلمين يُنبئ عن قدر كبير من الاختلاف، والتباعد، والتطاحن، حول قضايا، ربما تكون مفهومة أحياناً، وغير مفهومة في كثير من الأحايين!.
إننا بحاجة إلى تدريس أدب الخلاف في مدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا، وتدريب الشباب والفتيات على ممارسته عملياً؛ ليتحول إلى عادة وإلى عبادة في الوقت ذاته.
أما إنه عبادة؛ فلأنه طاعة لله ورسوله، واتباع لسنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
وأما أن يتحول إلى عادة؛ فحين يتربى المرء عليه، ويصبح سجية وطبعاً لا يتكلفه، ولا يشق عليه.
إذا اختلفنا في الآراء فلا يعني ذلك العداء فيما بيننا، لا يعني قطع العلاقات ونسيان مبدأ الأخوة. ورحم الله الشافعي حين قال: ألا يستقيم أن نكون إخوة وإن اختلفنا في مسألة؟.
مراعاة أدب الخلاف وأخلاقيات الحوار يحتاج إليه الحاكم؛ ليحفظ حقوق رعيته، حتى ممن يختلفون معه؛ كما حفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- حقوق الناس كلهم؛ فحفظ حقوق المخالفين بالمدينة من اليهود والمنافقين.
أما أصحابه فلا تسأل عن صبره وصفحه وتجاوزه وإنصافه من نفسه عليه الصلاة والسلام، وإعطائه الحق لطالبه.
كما حفظ أصحابه العهد من بعده، فهذا علي بن أبي طالب حينما انشق عنه الخوارج في مواجهة عسكرية أضرت بالتاريخ والخلافة والفتح الإسلامي، يتحدث عنهم ويقول: إخواننا بغوا علينا، ويرفض أن يصفهم بكفر أو غير ذلك، ثم يحفظ لهم حقوقهم ما لم يحملوا السلاح، ويُخيفوا السبيل، ويستحلوا الدم الحرام.
يحتاج إليه المعلم ليحفظ حقوق الطلاب، ويعدل بينهم ويُحسن الظن بأسئلتهم وإشكالاتهم واعتراضاتهم، ويفتح لهم صدره، ويربيهم على المسؤولية المستقلة.
يحتاج إليه الجميع تعايشا مع بعضهم البعض، وتغليبا للأخوة في المجتمع، وابتعادا عن كل ما يثير الأحقاد والقطيعة والعداء فيما بينهم.
نعم! نحن نتحدث، ويجب أن نتحدث عن أدب الخلاف، لكن نحتاج إلى وضع آليات لإدارة الخلاف، الذي يقع بيننا، ولا بد أن يقع.
مجالس الناس أصبحت اليوم عامرة بالمتناقضات من الآراء والتوجهات والأقاويل، مما يعتقدون وما لا يعتقدون، وما يدركون وما لا يدركون.
ولم يعد مُجدياً تسفيه الآخرين مهما كانت ضحالة أفكارهم، أو تفاهة حججهم، بل لا بد من الاستماع إليهم، ومنحهم الأهمية والاحترام، ومقارعة الفكر بالفكر.
أصبح هناك تجاهل كبير لدائرة المتفق عليه والقواسم المشتركة، وعمل واسع على دائرة المختلف فيه، وترتب على ذلك سلبيات كثيرة.
من تلك السلبيات: إن لم تكن معي فأنت ضدي، وتبدأ المفاصلة بمجرد أن أكتشف أن بيني وبينك نوعاً من الاختلاف أو التفاوت، حتى لو كان في مسائل جزئية أو صغيرة، نتحول إلى أعداء ألداء، بدلاً من أن نكون أصدقاء أوفياء.
الخلط بين الموضوع والشخص؛ فيتحول نقاش موضوع معين، أو فكرة، أو مسألة إلى هجوم على الأشخاص، وتجريح، واتهام للنيّات، واستعراض لتاريخ هذا الإنسان أو ذاك، وبالتالي تتحول كثير من الساحات إلى محيط للفضائح والاتهامات وغيرها من الطعون غير المحققة.
تدنّي لغة الحوار، وبدلاً من المجادلة بالتي هي أحسن تتحول إلى نوع من السب والشتم، وكما يقول الأئمة الغزالي, وابن تيمية, والشاطبي, وغيرهم: إنه لو كان النجاح والفلاح بالمجادلة بقوة الصوت والصراخ أو بالسب والشتم لكان الجهلاء أولى بالنجاح فيه، وإنما يكون النُّجْحُ بالحجة والهدوء. وفي المثل: العربة الفارغة أكثر جَلَبَةً وضجيجاً من العربة المَلأَى.
إن منطق "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" بحيث يدور الشخص حول رأيه ووجهة نظره، التي ليست شرعاً منزلاً من عند الله تعالى، ولا قرآناً يُتلى، ولا حديثاً، ولا إجماعاً، وإنما هو مجرد رأي قد يكون صوابا وقد يكون خطأ، [إن هذا المنطق لم يعد مجدياً].
فلا داعي أن يعتقد الشخص أن قوله صواب لا يحتمل الخطأ، وقول غيره خطأ لا يحتمل الصواب.
إن هدوء الإنسان، واستقرار نفسه، وهدوء لغته، وحسن عبارته، وقوة حجته، هو الكفيل بأن تنصاع له القلوب، وأن يصل الحق الذي يحمله إلى أفئدة الآخرين، وأن يتغلب على باطلهم.
لقد أصبحنا مسخرة للشعوب والخلق والأمم؛ وهذا الجدل المحتدم العقيم بيننا في قضايا ربما لا تقدم ولا تؤخر، ولا تُثمر، ولا تغني، ولا تنفع، ولا تدفع.
إن هذا الجدل على مرأى ومسمع من أعدائنا وخصومنا...، ولعلهم يقولون لنا: اتفقوا أولاً على الدين الذي تقدمونه لنا، والتصور والفكر الذي تطرحونه، ثم تعالوا لدعوتنا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي